مع إكمالها أربعين عاماً، هل تدخل الثورة الإيرانية مرحلة النضج؟ في الثقافة العربية الإسلامية، وكثير من الثقافات الإنسانية الأخرى، تمثل سن الأربعين مرحلة نضج في عمر الكائن البشري. بمناسبة الذكرى السنوية الأربعين لثورة الخميني، تتعدد المؤتمرات وورش العمل الدولية لتقييم ما حدث في إيران في فبراير عام 1979، وحتى الآن فقد وصلتني شخصياً ثلاث دعوات من الولايات المتحدة لمؤتمرات حول هذا الموضوع، وبالتأكيد سيزداد عدد المؤتمرات ويتضاعف ما نُشر ويُنشر عن هذا الموضوع.
وفي هذه المقالة المختصرة، سأتعرض لتجربة شخصية مع الثورة الإيراني في مقتبل عمرها، تجربة لا يعرفها إلا القليلون، لكنها كشفت للعديد من المثقفين المستقلين وجهاً آخر لهذه الثورة يختلف عن ذلك الوجه المعلن لها رسمياً.
بدايةً ينبغي التذكير بأن ما واجهته الثورة الإيرانية سبق أن واجهته ثورات أخرى من قبل، ألا وهو التناقض بين الدولة والثورة، وهو تناقض يتجلى في إصرار ملالي إيران على تصدير الثورة وعلى الانشغال بالصراعات الخارجية. ومنذ أزمة الرهائن الأميركيين بعد اقتحام السفارة الأميركية، استهلكت طهران الكثير من مواردها المادية والمعنوية في «الشيطنة» المتبادلة مع واشنطن.
كما أدى زعم الخميني بأن الحج يمثل «فرصةً سياسيةً» للاحتجاج، إلى اضطرابات وتوترات متكررة. وهناك محاولات «تشييع» المجتمعات وعسكرة الدبلوماسية الإيرانية، كما هو الحال مع «حزب الله» اللبناني والحوثيين في اليمن والداخل السوري.
وهكذا اختلف سلوك «الثورة» عن مبادئها المعلنة، وفقدت التأييد الذي تمتعت به عند بداياتها.
وهنا أذكر تجربة شخصية، فعلى غرار معظم الطلبة الذين يدرسون في الخارج، كنا جزءاً من حركة الاحتجاج العالمية التي بلغت أوجهَا مع مظاهرات باريس ونيويورك عام 1968. ومع بداية عقد السبعينيات تركز اهتمام العديد منا على منطقة الشرق الأوسط، وخاصة ضد إسرائيل التي تحتل الأراضي العربية ونظام الشاه الإيراني المتحالف معها. وقد أعلن الشاه برنامجاً تحديثياً ينسخ التجربة الغربية، لكنه كان يتغنّى بالمجد الإمبراطوري، ويمارس التعذيب بأشد صوره ضد المعارضة، كما قام باحتلال الجزر الإماراتية الثلاث (طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبوموسى) كمؤشر على توجهاته التوسعية.
كان مصدر معلوماتنا الرئيسة عن نظام الشاه في السبعينيات أحد زملائنا في معهد الدراسات الدولية بجنيف، وهو كاظم رجوي، القادم من باريس عقب نيله الدكتوراه، لكنه جاء إلى جنيف ليعد دراسة دكتوراه أخرى. لقد كان محباً للعلم إلى أقصى حد، لكنه كان مهموماً بأحوال شقيقه (مسعود رجوي) في سجون الشاه، كما كان مهموماً بحقوق الإنسان في العالم ككل.
غادرتُ جنيف قبل قيام الثورة بعدة سنوات، وفي 1979 اتصل بي أفراد المجموعة لإبلاغي بأن «حكومة الثورة» كافأت كاظم رجوي بتعيينه أول مندوب لها في الأمم المتحدة. وعندما هاتفته لتهنئته، لم ألاحظ سروره المتوقع بالتعيين. كان شقيقه مسعود متزعماً منظمة «مجاهدي خلق» التي كانت من أكبر دعائم الثورة، لكن يبدو أنها أعلنت سراً بعض تحفظاتها قبل أن تعلن المعارضة الصريحة للنظام الجديد. استقال كاظم من منصبه الدبلوماسي، وفي عام 1995 اُغتيل أمام منزله في ضاحية كوبيه خارج جنيف.
ورغم كياسة الدبلوماسية السويسرية وحيادها، فإن تحقيقات قانونية أفضت إلى إصدار مذكرات اعتقال بحق مسؤول المخابرات الإيرانية الوزير علي فلاحيان، و13 آخرين استخدموا جوازات سفر رسمية لدخول سويسرا، كما أُطلق اسم كاظم رجوي على أحد الشوارع بالقرب من معهد الدراسات الدولية العليا التي كنا ندرس به.
وفي عام 1996، تم اغتيال زهرة رجوي، أرملة كاظم الناشطة في حقوق الإنسان، أثناء زيارتها تركيا.
وبالفعل فإن الثورة أكلت وتأكل أبناءَها، وحتى وهي في «سن النضج» (أي سن الأربعين) مازالت تقترف مثل تلك الممارسات!
*نقلا عن صحيفة الاتحاد