تبدي إيران اهتمامًا خاصًا برفع مستوى العلاقات الثنائية مع تركيا، لا سيما على المستوى الاقتصادي، وهو ما بدا جليًا في الزيارة التي قام بها الرئيس الإيراني حسن روحاني إلى تركيا في 20 ديسمبر الجاري، للمشاركة في اجتماع الدورة الخامسة للمجلس الأعلى للعلاقات الاستراتيجية بين الدولتين، والتي رافقه فيها وفد يغلب عليه الطابع الاقتصادي. وفي رؤية طهران، فإن ثمة اعتبارات عديدة يمكن أن تدفع في اتجاه تحقيق هذا الهدف، الذي يمكن أن يؤدي إلى زيادة حجم التبادل التجاري بين الطرفين إلى 30 مليار دولار، تتصل بالتطورات التي طرأت على الساحتين الإقليمية والدولية خلال الفترة الماضية. ومع ذلك، فإن تعويل إيران على الدور التركي يبدو أن له حدودًا تفرضها السياسة التركية التي تتسم بالتغير وعدم الاستقرار، على نحو يضفي شكوكًا عديدة حول مدى إمكانية الوصول لهذا المستوى من العلاقات.
مُحفِّزات عديدة:
ترى إيران أن ثمة اعتبارات عديدة يمكن أن تعزز من احتمالات تطور التعاون الثنائي مع تركيا خلال المرحلة القادمة، على نحو قد يدعم، وفقًا لها، قدرتها على مواجهة تداعيات العقوبات الأمريكية والخلافات المتصاعدة مع العديد من القوى الدولية والإقليمية حول دورها الإقليمي وبرنامجيها النووي والصاروخي. وتتمثل أبرز تلك الاعتبارات في:
1- تحولات الموقف التركي من نظام الأسد: تعتبر طهران أن تغير توازنات القوى العسكرية داخل سوريا لصالح النظام السوري وحلفائه خلال الفترة الماضية دفع دولاً عديدة إلى تغيير موقفها باتجاه التعامل مع الأمر الواقع الذي فرضه ذلك، على نحو قد يساعد في تقليص حدة الخلافات القائمة فيما بينها حول القضايا التي كانت موضع خلاف في تلك الفترة.
وتعد تركيا من أبرز تلك الدول التي بدأت في توجيه إشارات بأنها يمكن أن تجري تغييرات في موقفها من الأزمة السورية، خاصة فيما يرتبط بالعلاقات مع النظام السوري، وهو ما بدا جليًا في التصريحات التي أدلى بها وزير الخارجية التركي مولود شاويش أوغلو، في 16 ديسمبر الجاري، وقال فيها أنه "في حالة ما إذا أجريت انتخابات حرة ونزيهة في سوريا وفاز فيها بشار الأسد، فإنه قد يكون على الجميع النظر في التعامل معه"، وهو ما يعبر عن موقف مختلف عن السياسة السابقة التي تبنتها تركيا التي قامت على تقديم الدعم للتنظيمات المسلحة والإرهابية في سوريا من أجل تعزيز فرص إسقاط هذا النظام.
وهنا، فإن طهران قد تعتبر أن انخراطها في علاقات ثنائية أكبر مع تركيا يمكن أن يدفع الأخيرة إلى تقديم مزيد من الإشارات التي توصف بأنها "إيجابية" تجاه النظام السوري، وربما تتدخل إيران لإقناعها بضرورة إجراء تغيير في هذا السياق، بل إنها قد تحاول التوسط بين الطرفين.
وفي رؤية طهران، فإن ذلك قد يفيد في إعادة تطبيع العلاقات بين نظام الأسد وبعض القوى الدولية والإقليمية، لتدشين مرحلة جديدة داخل سوريا تفرضها توازنات الجديدة التي انتهى إليها الصراع العسكري.
2- الرفض التركي للعقوبات الأمريكية: كان إعلان تركيا رفضها الالتزام بالعقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، خاصة فيما يتعلق بالواردات النفطية والتعاملات المصرفية، محل اهتمام خاص من جانب إيران. فرغم أن تلك الواردات تبقى في حدها الأدنى، فإنها في النهاية تشجع إيران على إبداء قدر أكبر من التشدد في التعامل مع العقوبات الأمريكية، وتدفعها إلى عدم تقديم تنازلات قد تساعد في تقليص حدة الخلافات بين الطرفين.
وهنا، فإن إيران ترى أن رفع مستوى العلاقات الثنائية والوصول بحجم التبادل التجاري إلى 30 مليار دولار، يمكن أن يعزز قدرتها على تقليص حدة التداعيات التي يتوقع أن تنتجها العقوبات الأمريكية بعد انتهاء مهلة الأشهر الستة التي منحتها إدارة الرئيس الأمريكي لثماني دول مستوردة للنفط الإيراني ومنها تركيا.
3- الملفات المشتركة: تتزايد أهمية الملفات التي تمثل محاور مشتركة بين الطرفين، على غرار بعض التطورات الإقليمية، مثل الدعم المستمر من جانب الطرفين لقطر في ضوء التقارب الملحوظ في سياسات الدول الثلاث، والموقف من التحركات السياسية للأكراد، لا سيما في العراق وسوريا، فضلاً عن التعاون الأمني على الحدود.
شكوك مستمرة:
مع ذلك، يبدو أن الرهان الإيراني على تركيا له حدود تفرضها الشكوك التي تبديها اتجاهات عديدة في طهران إزاء ذلك، فضلاً عن أن بعض التطورات الإقليمية الجديدة قد تفرض متغيرات مختلفة تؤثر على مُحفِّزات التقارب السابقة.
فعلى صعيد التعاون الثنائي، يبدو أن الوصول إلى مستوى 30 مليار دولار في التبادل التجاري بين الطرفين ما زال يواجه عقبات عديدة. وربما يمكن القول إن هذا الهدف كان عنوانًا رئيسيًا لكل الزيارات المتبادلة التي أجراها الرئيسان روحاني وأردوغان خلال الأعوام الماضية، ولم يتحقق في النهاية، على نحو يشير إلى هناك سقفًا ما زال قائمًا لم يتمكن التعاون الثنائي على المستوى الاقتصادي بين الطرفين من تجاوزه.
ويعني ذلك في المقام الأول أن الموقف التركي من العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران لن يمثل متغيرًا أساسيًا يمكن أن يساعد الأخيرة على مواجهة تداعياتها، خاصة أنها تعول في هذا السياق على دول أخرى مثل الصين والهند وروسيا.
وربما لا تستبعد إيران أن تكون علاقاتها مع تركيا محورًا لنقاشات بين الأخيرة والولايات المتحدة الأمريكية، تسعى من خلالها أنقرة إلى استثمار ما يمكن تسميته بـ"الورقة الإيرانية" لمساومة واشنطن حول ملفات خلافية أخرى، وخاصة الملف الخاص بالأكراد السوريين.
وقد بدت هذه السياسة التركية جلية في كثير من الملفات، خاصة أن تركيا تسعى خلال الفترة الحالية إلى انتزاع مكاسب عديدة من الولايات المتحدة الأمريكية، على غرار إيقاف الدعم العسكري للميليشيات الكردية السورية وتسليم الداعية التركي فتح الله جولن.
فضلاً عن ذلك، فإن القرار الأمريكي الأخير بالانسحاب من سوريا، والذي أعلن في 19 ديسمبر الجاري بالتوازي مع زيارة روحاني إلى تركيا، يمكن أن يفرض تحولات على مسارات الصراع في سوريا قد لا تكون تأثيراتها إيجابية بالضرورة على التفاهمات الإيرانية-التركية في سوريا والتي تعبر عنها محادثات الآستانة التي تشارك فيها الدولتان إلى جانب روسيا.
بل إن إيران لا تستبعد أن يكون هذا القرار انعكاسًا لصفقة بين واشنطن وأنقرة حول ملفات عديدة، بما يعني أنها قد تهيئ المجال أمام تدخل تركي جديد في الملف السوري قد لا يحظى بقبول من جانب طهران.
وعلى ضوء ذلك، لا يبدو أن التقارب الملحوظ في العلاقات بين إيران وتركيا سوف ينجح في تقليص فجوة الخلافات وعدم الثقة التي تتسم بها خلال المرحلة القادمة، خاصة أن التطورات التي قد تطرأ على الساحة الإقليمية قد لا تعزز هذا الاحتمال.