انشغلت الأوساط الأمريكية خلال الفترة الماضية بقضية عزل الرئيس "ترامب" من منصبه، ورغم أن القضية مثارة منذ فترة، إلا أن الجدل حول عزل الرئيس "ترامب" اكتسب أهمية خاصة في ظل التطورات الأخيرة في تحقيقات لجنة "مولر"، ونجاح الديمقراطيين في السيطرة على مجلس النواب في انتخابات التجديد النصفي التي جرت في شهر نوفمبر الماضي.
فهذه التطورات من المحتمل أن تمثل البداية لعملية الإجراءات القانونية لعزل الرئيس "ترامب" من منصبه في عام 2019. ورغم أن تلك الإجراءات لن تسفر فعليًّا عن إقالة الرئيس "ترامب" من منصبه، فإن السيناريوهات المحتملة لعملية العزل لن تخرج عن السوابق التاريخية الثلاث لعزل الرؤساء "أندرو جونسون" في عام 1868، والرئيس "ريتشارد نيكسون" في 1974، والرئيس "بيل كلينتون" في عام 1998.
حصاد عام 2018:
ثمة مجموعة من التطورات التي حدثت في عام 2018، خاصة في الشهور الأخيرة، من المحتمل أن تمثل نقطة الانطلاق لبداية عملية عزل الرئيس "ترامب" من منصبه في عام 2019، وهذه التطورات تشمل:
1- تحقيقات لجنة مولر: في 17 مايو 2017، شكلت وزارة العدل الأمريكية لجنة خاصة للتحقيق في مسألة التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية التي جرت في عام 2016 والتي أوصلت الرئيس "ترامب" للسلطة، وفحص كافة الجوانب المرتبطة بالانتخابات. ومنذ تكليف اللجنة وحتى مطلع عام 2019 فسيكون قد مضى على تشكليها أكثر من عام ونصف، وخلال هذه الفترة قامت اللجنة بإجراء العديد من التحقيقات التي أسفرت عن إدانة عددٍ من الأشخاص في الحملة الانتخابية للرئيس "ترامب". وقد تمثّل آخر تطورات تحقيقات اللجنة، والتي حدثت في النصف الأول من شهر ديسمبر 2018، في إدانة محامي "ترامب" ومدير حملته بممارسات تمثل انتهاكًا للقوانين، وبدء اللجنة في إجراء تحقيقات حول ممارسات لجنة تنصيب "ترامب" في المنصب الرئاسي، والتي يُثار تساؤلات بشأن الكيفية التي قامت بها اللجنة بجمع الأموال التي استُخدمت في تمويل إجراءات مراسم تنصيب "ترامب"، وكيفية إنفاق هذه الأموال، ووجود احتمالات بمخالفات تمثل انتهاكًا للقوانين أيضًا.
2- نتائج انتخابات التجديد النصفي للكونجرس: أسفرت انتخابات التجديد النصفي للكونجرس التي جرت في شهر نوفمبر 2018 عن فوز الديمقراطيين (الحزب المعارض للرئيس) بأغلبية مجلس النواب، مقابل استمرار سيطرة الجمهوريين (حزب الرئيس) على مجلس الشيوخ. ومع بدء الكونجرس الأمريكي الجديد دورته التشريعية في 3 يناير 2019، أصبح بمقدور الديمقراطيين التحرك للبدء في الإجراءات القانونية لعزل الرئيس في مجلس النواب، وضمان نجاح التصويت على توجيه اتهامات له بمخالفة القوانين وانتهاك الدستور.
3- الموقف الداخلي من عزل الرئيس: رغم الشعبية التي يتمتع بها الرئيس "ترامب" في بعض الأوساط الأمريكية، إلا أن موقف النخبة المثقفة والإعلام منه يشكلان بُعدًا مهمًّا في الجدل حول عزله، فالإعلام الأمريكي يعمل بشكل مستمر على إظهار سلبيات "ترامب"، ومحاولة تعبئة الرأي العام ضده. وتُمثل قضية عزل الرئيس جزءًا رئيسيًّا من النقاشات المثارة في وسائل الإعلام الأمريكية، هذا بالإضافة إلى أن هناك تحركًا شعبيًّا محدودًا يتم من أجل دفع الكونجرس لعزل الرئيس، ويتمثل هذا التحرك في حركة Need to Impeach التي تأسست في أكتوبر 2017 والتي تسعى لتعبئة المواطنين الأمريكيين للضغط على ممثليهم في الكونجرس للبدء في اتخاذ إجراءات لعزل الرئيس. وقد وضعت الحركة عريضة على موقعها الإلكتروني للمطالبة بعزل "ترامب"، ووقّع عليها حتى الآن أكثر من ستة ملايين أمريكي.
الإجراءات القانونية لعملية العزل:
يُشير مصطلح Impeachment في الثقافة السياسية الأمريكية إلى مجموعة الإجراءات التي يتم بموجبها عزل الرئيس من منصبه، وهذه الإجراءات هي بمثابة عملية طويلة Proces تجري داخل الكونجرس، وتتم وفقًا لخطوات يلعب فيها كل من مجلسي النواب والشيوخ دورًا. ولا يعني القيام بهذه الإجراءات أن يتم عزل الرئيس، فقد تتم إجراءات العزل، لكن قد تكون نتيجتها النهائية عدم الوصول إلى قرار بعزل الرئيس وإقصائه عن المنصب.
وقد حدد الدستور الأمريكي الأطر العامة لإجراءات عزل الرئيس، وذلك في المادة الأولى التي تتعرض للكونجرس وصلاحياته، وفي المادة الثانية التي تتناول الرئيس وصلاحياته. واستنادًا إلى ما جاء في المادتين، فإن إجراءات عزل الرئيس الأمريكي تتم على مرحلتين، وذلك على النحو التالي:
1- المرحلة الأولى: تجري داخل مجلس النواب، حيث يقوم المجلس بإجراء تحقيق وبحث اتهام للرئيس بارتكاب ما يستوجب الإقالة من المنصب. وقد حصر الدستور الأفعال التي تستوجب الإقالة في ثلاثة تشمل: الخيانة، وتلقي الرشوة، وارتكاب جرائم أو مخالفة سلوك من النوع الذي يمثل خطورة. وعقب إجراء التحقيق يتم التصويت على إدانة الرئيس، وتتطلب هذه الإدانة موافقة أغلبية بسيطة من أعضاء مجلس النواب على الاتهام ليصبح نافذًا، ويتم بعد ذلك الانتقال للمرحلة الثانية.
2- المرحلة الثانية: تجري داخل مجلس الشيوخ، وفيها يقوم المجلس بإجراء محاكمة رسمية للرئيس، يمثل فيها أعضاء المجلس دور هيئة المحلفين، ويشرف رئيس قضاة المحكمة الدستورية العليا على عملية محاكمة الرئيس، وحتى يتم عزل الرئيس فعليًّا، يجب أن يوافق ثلثا أعضاء المجلس على صحة الاتهامات الموجهة للرئيس، وفي حال عدم موافقة ثلثي الأعضاء فإن ذلك يعني أنه لا يوجد توافق على اتهام الرئيس بارتكاب الأفعال التي تستوجب إقالته من المنصب، ومن ثم يستمر في منصبه بغض النظر عن كل الإجراءات السابقة التي تمت لمحاولة إقالته من المنصب.
السيناريوهات الثلاثة لعزل "ترامب":
في ظل احتمال وارد بأن تنتهي لجنة مولر من تحقيقاتها في النصف الأول من عام 2019، وأن يخرج تقريرها النهائي بالتأكيد على وجود انتهاكات ارتكبتها حملة "ترامب" الانتخابية، وربما "ترامب" ذاته، ومع وجود توقعات بتحرك الديمقراطيين في مجلس النواب لبدء عملية عزل الرئيس؛ فإن إجراءات عملية العزل، إذا بدأت فعليًّا، لن تخرج عن سيناريوهات عزل الرؤساء "أندور جونسون" في عام 1868، و"ريتشارد نيكسون" في عام 1974، والرئيس "بيل كلينتون" في عام 1998، وذلك على النحو التالي:
1- سيناريو "أندرو جونسون": بدأت إجراءات عزل الرئيس "أندرو جونسون" في مجلس النواب الأمريكي في مارس عام 1868، عندما أقر المجلس لائحة اتهام تتضمن 11 مادة ضد "جونسون"، تشمل قيامه بتعيينات غير دستورية، وإساءة استخدام الأموال الفيدرالية، وانتهاك القانون الفيدرالي، والتقليل من احترام الكونجرس، لكن المجلس لم يوافق على لائحة الاتهام، فقد كانت نتيجة التصويت موافقة 35 سيناتورًا مقابل 19 رفضوا، وهذه النتيجة كانت أقل من ثلثي أعضاء مجلس النواب بصوت واحد، فإقرار اللائحة يتطلب موافقة ثلثي أعضاء المجلس.
ووفقًا لهذا السيناريو، من المحتمل أن يتحرك الديمقراطيون في مجلس النواب لتقديم لائحة لإدانة الرئيس "ترامب"، ومن المتوقع أن تكون لائحة الاتهام قريبة من مشروع القرار رقم 621 الذي قدمه النائب "ستيف كوهين" لمجلس النواب يوم 15 نوفمبر 2017، وهو مشروع القرار رقم H.Res.621 لعزل الرئيس "ترامب" لارتكاب جرائم كبرى وإساءة استخدام السلطة، والذي لم يخرج من اللجنة القضائية إلى مجلس النواب حتى الآن. ووفقًا لما ورد في المشروع، من المتوقع أن تتضمن لائحة إدانة الرئيس "ترامب"، اتهامات بإعاقة العدالة، وسوء استغلال السلطة لتحقيق مصالح شخصية، وارتكاب مخالفات قانونية، وانتهاك الدستور الأمريكي. ووفقًا لهذا السيناريو، من غير المرجّح أن يوافق مجلس النواب على لائحة الاتهام.
2- سيناريو "ريتشارد نيكسون": بدأ مجلس النواب إجراءات اتهام الرئيس، وفي يوليو 1974 وافق المجلس على لائحة اتهام للرئيس على خلفية قضية ووترجيت، تتضمن ثلاثة بنود، تشمل: إعاقة العدالة، وإساءة استخدام السلطة، واحتقار الكونجرس؛ لكن الرئيس "نيكسون" قرر الاستقالة من منصبه. ووفقًا لهذا السيناريو قد يقرر الرئيس "ترامب" الاستقالة إذا تحرك مجلس النواب ضده.
3- سيناريو "بيل كلينتون": تمت عملية إجراءات عزل الرئيس "كلينتون" بشكل كامل، فقد أقر مجلس النواب لائحة اتهام ضد "كلينتون" تشمل توجيه الاتهامات له بالحنث باليمين "الإخلال بالقسم"، وإعاقة العدالة، وذلك على خلفية قضية "مونيكا لوينسكي"، وبعد ذلك بدأت إجراءات محاكمته في مجلس الشيوخ بتلك التهم، لكن التصويت لم يُحقق النصاب القانوني المتمثل في موافقة ثلثي أعضاء الحاضرين من المجلس، حيث كانت نتيجة التصويت على الاتهام بالحنث بالقسم 45 صوتًا بالموافقة ضد 55 بالرفض، في حين تتمثل أغلبية الثلثين في 67 صوتًا. أما تهمة إعاقة العدالة فكان التصويت فيها 50 صوتًا بالموافقة مقابل 50 بالرفض.
ووفقًا لهذا السيناريو، من المحتمل أن يقدّم مجلس النواب الذي يسيطر عليه الديمقراطيون لائحة اتهام ضد الرئيس "ترامب"، وأن يوافق المجلس على اللائحة، لينتقل الأمر إلى مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه الجمهوريون، وفي هذه الحالة من المرجّح ألا يتم التصويت على إدانة الرئيس، لأن الموافقة على الإدانة تتطلب ثلثي أعضاء المجلس.
والخلاصة من المحتمل أن يشهد عام 2019 بدء الإجراءات القانونية لعزل الرئيس "ترامب" من منصبه، لكنّ هذه الإجراءات إذا بدأت فعليًّا من غير المرجّح أن تؤدي إلى عزله من منصبه، ففي حال قرّر الديمقراطيون التحرك في مجلس النواب لإدانة الرئيس، فسيوافق المجلس على الإدانة، لكن حينما تنتقل الإجراءات إلى مجلس الشيوخ فسيصوت برفض الإدانة، كما حدث في إجراءات عزل الرئيس "كلينتون"، فرغم موافقة مجلس النواب فإن رفض مجلس الشيوخ إدانة الرئيس أدى إلى فشل الإجراءات القانونية لعزله.