"البيئة الحاضنة للإرهاب"... هذا التركيب أو التعبير أو حتى المصطلح صار الأكثر تداولاً واستعمالاً في أيامنا تلك، بعد أن بلغ الإرهاب مداه، وانتقل من "الكر والفر" تحت جناح من السرية والكتمان إلى الإعلان الظاهر عن نفسه، والمباهاة الصاخبة بما يفعل من قتل وتدمير، وتطور وتحور من جماعات وتنظيمات موزعة على أرض دولة واحدة أو داخل إقليم واحد منها إلى أخرى عابرة للحدود ومتواجدة في بلدان عدة.
وانتقل الإرهاب أيضاً من تنظيمات تكتفي بـ "إزعاج" السلطة إلى أخرى تطلب السلطة السياسية وتحصل عليها مثل حالة "داعش" الذي اقتطع أجزاءً من أراضي العراق وسوريا، وأعلن قيام "دولة" عليها، معتبراً إياها نواة لـ "خلافة" أو بمعنى أدق "إمبراطورية" تمتد من غانا في غرب أفريقيا إلى فرغانة في آسيا الوسطى.
هذا الاصطلاح مستمد من علم "البيولوجيا" الذي يسهب في الحديث عن علاقة الطبيعة بالكائنات الحية، نبات وحيوان وبشر، ليفصل بين بيئة مناسبة لعيش كائن معين ونموه وترعرعه، وأخرى غير مناسبة على الإطلاق.
وقياساً على هذا يصبح بوسعنا أن نتحدث عن بيئة اجتماعية، أو سياق اجتماعي، يساهم أو يسهل تفاعل وانتشار أفكار وتصرفات معينة. فإن كان الأمر يتعلق بالإرهاب، نجد أن وسطاً اجتماعياً يكون أكثر تقبلا واحتضاناً له، كفكر منحرف وممارسات مدمرة، من وسط اجتماعي آخر، يستهجنه ويلفظه.
لكن علينا أن نفرق في هذا المضمار بين ثلاثة مستويات لهذه البيئة، على النحو التالي:
1 ـ البيئة المنتجة للإرهاب: حيث يتفشى الجهل والفقر ويضعف تواجد الدولة بمختلف مؤسساتها وخدماتها، ويندر أو ينعدم وجود تنظيمات أو أحزاب تعتنق أفكاراً مدنية، يسارية أو يمينية، بينما يشتد تواجد أنصار الجماعات الدينية المتطرفة، التي تنفرد بالناس، وتكون هي وسيلتهم الوحيدة لتلبية الطلب على المعلومات والمعرفة الدينية.
وهنا يسهل على هذه الجماعات القيام بعملية "غسيل مخ" لكثير من الأفراد، يتم تجميعهم أو تكتيلهم حول الأهداف التي حددها قادة الجماعات المتطرفة، الذين يتخذون من أعمال العنف، وعلى رأسها الإرهاب وسيلة لتحقيق أهدافهم.
وقد حدث هذا في مناطق داخل باكستان، خاصة بيشاور، وداخل أفغانستان، لاسيما قندهار وما حولها. وتم في مناطق معزولة في صعيد مصر خلال ثمانينيات القرن العشرين بالنسبة لتنظيم "الجماعة الإسلامية"، وكذلك حدث في الجزائر والصومال، وبعض الأحياء المهمشة والمنسية في المدن الضخمة.
ويمكن هنا أن نضرب مثلاً بما جرى في حي "إمبابة" بالقاهرة في مطلع تسعينيات القرن العشرين، حين زاد تمكن المتطرفين إلى درجة أن قائدهم قال: "أصبحنا دولة داخل الدولة"، لكن هذه الدولة زالت في ساعات حين زحف إليها آلاف من قوات الأمن.
2 ـ البيئة المنسجمة مع الإرهاب: وهي بيئة لا تنتج الإرهاب، لكن إن جاء إليها إرهابيون يجدونها مهيأة للتعاطف معهم أو مساعدتهم في مواجهة الدولة دون التزام بتبني أفكارهم أو حتى الانضمام إلى صفوفهم.
ويحدث هذا في المناطق الطرفية المهمشة التي أهملتها الدولة، خاصة أن التنظيمات الإرهابية يروق لها أن تنشط في المناطق أو الأطراف البعيدة عن قبضة الدولة، والتي هي في الغالب الأعم بعيدة عن المركز. والمثل الصارخ لذلك في بعض مناطق شبه جزيرة سيناء المصرية، والمناطق الجبلية في اليمن، وصحراء الجزائر ومالي.
3 ـ البيئة الموظفة للإرهاب: وهي بيئة لا تنتج الإرهاب ولا تنسجم معه بالضرورة، إنما توظفه لخدمة سياسات معينة. ومن هنا يمكن لأصحاب المصلحة أن يصنعوا إرهابيين أو حالة إرهابية يستعملونها كفزاعة للداخل، بغية تأجيل المطالبة بالإصلاح، أو للخارج الذي يعلن حرباً لا هوادة فيها على الإرهابيين.
وهذا الوضع امتد من أنظمة مستبدة أو شمولية لدول صغيرة، مثلما فعل الرئيس اليمني علي عبدالله صالح حين كان يستحضر "القاعدة" ليستدر تعاون القوى الدولية، ومثلما فعلت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، حين وظفت طاقة "الجهاد" ضد الاتحاد السوفيتي السابق وعلى أرض أفغانستان في إنهاء الحرب الباردة وتركيع موسكو، وكما توظف الآن "الطاقة المدمرة" لتنظيم داعش في خدمة أهدافها في الشرق الأوسط.
هذه البيئات الثلاث في تدرجها تشكل ما يطلق عليه "البيئة الحاضنة" للإرهاب، لكن التفرقة بين تلك الدرجات مهم في وضع خطط مواجهة الإرهابيين، سواء بالمبادأة والهجوم أو التمترس والدفاع، وقبل كل ذلك الرؤى الفكرية البديلة التي تنظر إلى الإرهاب باعتباره عملية تبدأ من الأذهان.