لا يعد "الخيال السياسي" مجرد تغيير في الأدوات والأساليب السياسية، بل هو رؤية ذات بعد عميق تستشرف المستقبل أو تعيد قراءة الواقع من منطلقات ومقاربات مختلفة جوهرياً عن السائد والنمطي والمتكرر، خصوصاً في ظل سيادة الفوضى وعدم اليقين وصعوبة التنبؤ بسبب تسارع التحولات الراديكالية في المجالات المختلفة، السياسية والعسكرية والتكنولوجية والاجتماعية والاقتصادية، والتي تستلزم تجاوز أطر التفكير النمطية، سواءً في أساليب صنع واتخاذ القرار، أو في الاستعداد المسبق لما هو غير متوقع أو خارج المألوف.
الخيال السياسي مسار علمي منضبط
الخيال السياسي ليس مجرد تطوير عامل الابتكار وإدخاله لهذه الأدوات، وإنما هو استعمال منهج مختلف، يُعَاد بمقتضاه تشكيل الخطة السياسية برمتها، على نحو يلائم المستقبل. وهذه الخطة يجب أن تلبي الاحتياجات الآتية أو المقبلة للنظام السياسي أو الدولة بشتى أركانها البنيوية والوظيفية.
والخيال السياسي، سواء في تعريفه أو في حقيقته، لم يعد تهاويم عابرة أو شطحات مارقة، وإنما بات مساراً علمياً له أدوات ضبطه - كما سيتم تناوله فيما بعد - لاسيما بعد أن انتقل علم السياسة من مجال "الينبغيات (ما ينبغي ان يكون What ought to be) التي صبغته سنين عدداً في كنف القانون، إلى دراسة ما هو قائم وكائن بالفعل في رحاب العلوم السلوكية، التي ساعدت، من دون شك، الباحثين على التنبؤ بالسلوك السياسي.
وعلى أهميته لا يجد "الخيال السياسي"، في الغالب الأعم، لدى السلطات والنخب العربية، طريقاً ممهداً في كل الأحوال؛ إذ تعترضه أشياء كثيرة، فتقتله أو على الأقل تحد منه، وبالتالي تجعل الاستفادة به ضئيلة وهزيلة، أو تحوله إلى خيالات وأوهام وأضغاث أحلام قد تحط في لحظة عابرة برأس بعض القيادات السياسية أو كبار من يديرون المؤسسات والهيئات والمنظمات والشركات العملاقة التي تحوز جزءاً هائلاً من ركائز القوة داخل المجتمع.
هذه الكوابح متعددة ومتداخلة في آن، وهذا التداخل يسمح لها بأن تشكل شبكة متينة الخيوط، قد تتماسك بطريقة أكثر، وتتصلب بصيغة أقوى، لتصير جداراً عازلاً، يحرم القرار السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي والإداري من أن ينعم بعطاء المبدعين الذين بوسعهم أن يتوقعوا ما يأتي في ضوء الإلمام بكل معطيات الواقع.
كوابح إطلاق الخيال السياسي
تعتمد منابع الخيال السياسي على استقراء التاريخ، والعمل بروح الفريق، وامتلاك العقل المنطقي الخلاق، واستعمال الإبداع الأدبي، واللجوء لاستطلاعات الرأي، واستعمال أدوات مثل نظرية المحاكاة ونظرية المباريات، والاستفادة من الدراسات عبر النوعية ومتعددة التخصصات.
ومن هنا فإن غياب هذه المنابع أو تجفيفها أو على الأقل اتخاذ ما يؤدي إلى ضحالتها، يشكل كوابح على إطلاق الخيال السياسي، لكن في هذا المقام سأعرض الأسباب الرئيسية التي توجد هذا، وعكسها يقود بطبيعة الحال إلى نتيجة مضادة تتمثل في إطلاق هذا الخيال.
ويمكن ذكر الأسباب الخمسة بإيجاز على النحو التالي:ـ
1 ـ الوقوعية: بمعنى قلة الطموح، والخوف الهائل من التجريب والتغيير، والرضا بالموجود والمقسوم، والاستسلام لشعار "ليس في الإمكان أبدع مما كان" والاعتقاد الزائف بأن الحكمة مرتبطة وجوداً وعدماً بالبطء والتريث الشديد.
وقطعاً هناك فرق وتمييز واضح بين الواقعية التي تعني فهم وتقدير الموارد المادية والمعنوية والرمزية التي يجب تعبئتها نحو تحقيق الأهداف وبين الوقوعية التي تعني عدم الإيمان بأن بوسعنا ألا نكتفي بتعبئة هذه الموارد بل نطورها ونعمقها ونزيدها، ونعتقد بأنها ليست ثابتة تنقص بتزايد احتياجاتنا إنما هي متحركة، وعلينا أن نجعل هذا التحرك إلى الأمام، ونؤمن دوماً بأن لدينا "طاقة كامنة" غير مستغلة، ونبحث عنها ونوظفها في سبيل الوصول إلى الغايات التي نصبو إليها.
2 ـ عدم التفكير خارج الصندوق: وهذه مسؤولية القيادة العليا، أو متخذ القرار، حين يستريح لاختيار أشخاص أقل كفاءة، وأضحل معرفة، لأنهم يتسمون بالطاعة، ويميلون إلى الاكتفاء بتنفيذ ما يُقَال لهم أو يُملَى عليهم من هذه القيادة، دون مراجعة ولا تفكير. فمثل هؤلاء يفتقدون إلى القدرة على ابتكار الحلول، أو وضع السيناريوهات البديلة، لأنهم يدركون في نهاية المطاف أن هذه ليست مسؤوليتهم، أو حتى لو شعروا بمسؤولية تجاه هذا، فليس بوسعهم أن يجعلوا ما توصلوا إليه من واقع إدراكهم لما يقع على عاتقهم من تبعة، يجد طريقه إلى التنفيذ.
وحتى لو كان من بين هؤلاء من لديهم قدرة على الإبداع والتخيل، فإنهم بمرور الوقت إما يفقدون هذه القدرة، أو تتراخى إلى أدنى حد، وقد يتم لفظهم والتخلص منهم بمرور الوقت، إن أصروا على أن يقدموا المختلف، ويفكروا خارج الصندوق.
3 ـ التحكم البيروقراطي: فسلطة المكاتب، على أهميتها، تتحول أحياناً إلى طاقة معوقة، لاسيما إن كانت القوانين التي تحكم عملها، والتقاليد التي تنظم إجراءاتها، لا تواكب التغيرات، ولا تضع في اعتبارها ما يستجد من ظروف وأعمال.
وطالما ساهم البيروقراطيون الأداتيون في قتل أفكار مبدعة في الإدارة والسياسة، لأنها من وجهة نظرهم تخالف ما اعتادوه، أو تهز ما ألفوه من نظم، وارتاحوا إليها، وحققوا من خلالها مصالحهم، سواءً في الترقي أو حيازة المنافع المادية.
4 ـ نقص المعلومات والاستهانة بدورها أو الاستسلام التام لها: فإطلاق الخيال السياسي ليس عملية اعتباطية وجزافية، أو إجراء يخضع للحظ والتخمين، أو تقوم على التكهن الذي يبرع فيه قارئو الطالع، إنما هو عملية يجب أن تقوم على أسس متينة من التفكير العلمي، ولهذا تحتاج إلى توافر معلومات غزيرة وسليمة، أو كافية لفهم الظاهرة أو المشكلة التي يراد وضع حلول خلاقة لها.
وهناك آفة أخرى تتمثل في الاستهانة بالمعلومات أو توهم أنه من الممكن الاستغناء عنها، لأن بوسع صانعي القرار ومتخذيه أن يعتمدوا على ملكاتهم المتوهمة، أو يعتقدون أن الاطلاع على المعلومات يعطلهم أو يقيدهم، لاسيما إن كان الوقت ضيقاً أمامهم وعليهم أن يتصرفوا بسرعة وحسم.
في الوقت ذاته، وعلى النقيض من هذا، يؤدي الاستسلام للمعلومات، والإغراق في تفاصيلها، وعدم ترتيبها وفق ما هو مهم منها وما هو أقل أهمية، وما له علاقة مباشرة بالمشكلة المنظورة وما ليس له علاقة مباشرة بها، إلى تعويق الخيال السياسي، الذي يرمي إلى هضم المهم من المعلومات ثم إدخالها في عملية ذهنية خلاقة للتنبؤ بما سيأتي.
5 ـ الجهل بالتاريخ: فمعرفة ما جرى مهم لفهم ما يجري والتنبؤ بما سيأتي، ليس لأن أحداث التاريخ تتكرر بحذافيرها، كما يروج البعض، إنما تتشابه في معانيها ومراميها العامة، لأن منطق الصراع الاجتماعي والسياسي لا يتغير، سواءً على المستوى الدولي أو داخل كل دولة على حدة. فطوال الوقت نجد أن السلطة لها تصوراتها وأدواتها، والمجتمع له رغباته وآماله، وهناك "تدافع" لا ينتهي في التفاعلات بين الطرفين، والتفاعلات البينية داخل المجتمع في أفراده وتكويناته المنتظمة.
لهذا فحين يكون السياسي بصدد مشكلة، ويكون على علم عميق بالتاريخ يشعر كأنه قد مر بها من قبل، ويعرف المسارات التي سلكها من عالجوها من قبل، وما كان فيها صالحاً، ساعد على تجاوز الأزمة وحل المشكلة، وما كان طالحاً أدى إلى مزيد من التأزيم والتعقيد، وقاد إلى الفشل.