منذ اندلاع الثورات العربية في عام 2011 ثارت مناظرات كبرى حول تطبيق الفيدرالية في عددٍ من الدول العربية، وانقسمت آراء أطرافها، بصورةٍ أساسية، بين مؤيدٍ للحل الفيدرالي لأنه سيجنب هذه الدول مخاطر الصراعات والحروب الأهلية ويحفظ وحدتها، وبين معارضٍ له يعتبره كارثة تنبئ بتفكك كيانات هذه الدول ومطية يستخدمها دعاة الانفصال والتقسيم؛ بما جعل هذه المناظرات تتسم بالاستقطاب الحاد بين أطرافها.
ومن المفارقات أن الفيدرالية ليست غريبة كليةً عن العالم العربي؛ حيث تأخذ بها دساتير السودان والإمارات والعراق والصومال. بيد أن التجربة أثبتت أن النموذج الاتحادي الإماراتي هو الأنجح على مستوى العالم العربي، وأن "النماذج" الأخرى إما أنها هشة (السودان) وإما أنها فاشلة (الصومال)، وإما أنها غير مُفعلة وارتبطت بتفاقم أزمة الاندماج الوطني (العراق).
ومن هنا، تنبع أهمية دراسة النموذج الاتحادي في دولة الإمارات لمحاولة لاستفادة منه على المستوى التنظيري (إثراء الحوار حول الحل الفيدرالي)، وعلى المستوى العملي (استلهامه من قبل الدول العربية التي تنوي تبني النمط الفيدرالي أو تنشد تفعيله).
ويقوم النظام الفيدرالي على توزيع للسلطة، وليس السيادة، بين مستويين للحكم: المستوى المركزي (الاتحادي) والمستوى الإقليمي (المحلي)، ويتشكل المستوى الاتحادي في حكومة مركزية لها سلطات وصلاحيات محددة، فيما يتكون المستوى الإقليمي من حكومات محلية أو إقليمية، تختلف تسميتها من دولة إلى أخرى، ولها أيضاً سلطاتها واختصاصاتها. ويوجد في العالم اليوم نحو 26 دولة فيدرالية تنتشر في القارات الست.
النموذج الاتحادي الإماراتي
أسس دستور الإمارات المؤقت لعام 1971، والذي أصبح دائماً في عام 1996، نظاماً فيدرالياً مزدوجاً من الناحية الإدارية، وعمودياً على المستوى الاتحادي، وأفقياً على المستوى المحلي. فمن ناحية؛ يُخوِّل الدستور صلاحيات "حصرية" للحكومة الاتحادية، وصلاحيات أخرى "فائضة" للحكومات المحلية على مستوى كل إمارة.
ومن ناحية أخرى، تُوصف الفيدرالية في الإمارات بأنها عمودية؛ لاسيما في المجلس الأعلى للاتحاد، الذي يعد السلطة العليا في الدولة؛ حيث تقوم الفيدرالية في دولة الإمارات على اعتبار أن مصالح الاتحاد هي الأهم، وأن التشريعات الاتحادية تجب نظيراتها المحلية.
ومن ناحية ثالثة، تتمتع الإمارات السبع أعضاء الاتحاد بصلاحيات وسلطات متساوية على المستوى المحلي، وتتعامل مع بعضها البعض في إطار من المساواة.
وفي الحقيقة، يقدم النموذج الاتحادي الإماراتي مثالاً تنموياً فريداً ومزدهراً اقتصادياً. فقد حققت الإمارات مُنجزات تنموية بشرية واقتصادية كبرى، بعد أن كانت دولة مُتدنية التنمية قبل قيام الاتحاد؛ ومن ثم، ليس غريباً أن يصبح النموذج الإماراتي نفسه ملهِماً للدول والشعوب الأخرى.
وعلاوة على ذلك، يتسم النموذج الاتحادي الإماراتي بخصائص عدة، يمكن الاستفادة منها في تطبيق أو تفعيل الفيدرالية في الدول العربية، لاسيما في ليبيا واليمن والعراق. ومن أهم هذه الخصائص المرونة؛ بمعنى إعطاء مساحة كبيرة من الحرية للحكومات المحلية، التي تتمتع بصلاحيات دستورية واسعة، تمكنها من التركيز على القضايا التي تهم نطاقها المحلي.
كما يقدم النموذج الإماراتي درسين بالغي الأهمية للفيدراليين العرب، يتعلق أولهما بأنه ليس المطلوب التركيز على الاتحادي مقابل إهمال المحلي، وإنما المطلوب التوازن بينهما. فعلى الرغم من أن الدستور الإماراتي لجأ إلى أسلوب تحديد صلاحيات الحكومة الاتحادية دون تحديد صلاحيات نظيراتها المحلية، في محاولة لتوسيع سلطة المحليات، فإنه أعطى الأولى، في الوقت نفسه، العديد من الصلاحيات التي تعدت الشؤون الخارجية والدفاعية المتعارف عليها في معظم النظم الفيدرالية. وقد حسم آباء الاتحاد الأمر بأن لأحكام دستور الاتحاد السيادة على دساتير وقوانين الحكومات المحلية في الاتحاد، ما يعتبر تعزيزاً لقوة الاتحاد.
أما الدرس الثاني، فيرتبط بتحقيق التنمية المتوازنة في جميع مناطق الدولة. ومن هنا، نفهم الاستثمارات الضخمة التي توجهها الحكومة الاتحادية إلى الإمارات الشمالية الأقل غنى؛ من أجل تضييق الفجوة التنموية بين أعضاء الاتحاد.
كما تُقدم الإمارات نموذجاً في المحافظة على التنوع الثقافي والعرقي، واستثماره، والتعايش السلمي بين الأعراق والملل والنحل المختلفة. ويتصل بذلك خاصية أخرى أكثر أهميةً، تتصل بإيمان آباء الاتحاد، والجيل الثاني من بعدهم، بأن الحفاظ على الاتحاد يأتي من خلال إعمال قواعد الحوكمة أو الحكم الجيد، والاهتمام بالتنمية، والنوايا الحسنة لقادة الوحدات المكونة للاتحاد، ومحاربة الفساد. والأهم من ذلك أن "تجربة الإمارات تكاد تكون التجربة الاتحادية الوحيدة، التي تمت من دون قطرة دم واحدة".
نحو تفعيل "فيدرالية" العراق
أسس دستور 2005 نظاماً فيدرالياً على أساس مزدوج قومي وإداري. فمن ناحية، يعترف الدستور بإقليم كردستان بحدوده القائمة وقت إصدار الدستور على أساس عرقي إقليماً فيدرالياً، وهو الوحيد المذكور بهذه الصفة في الدستور. ومن ناحية أخرى، يُعطي لكل محافظتين أو أكثر حق الانتظام في إقليمٍ فيدرالي على أساس إداري. وكأن الدستور العراقي موزع بين الفيدرالية الإدارية، على النمط الأمريكي، والفيدرالية الإثنية، على النمط الكندي مع مقاطعة كيبيك.
إن هذا ما يُفسر، ضمن عوامل أخرى، مشكلة الحكم في العراق. فمن ناحية، يدافع العرب الشيعة عن تطبيق نمط من الفيدرالية الإدارية، يتيح لهم استخدام أغلبيتهم في البرلمان الاتحادي للسيطرة على البلاد، بل كانوا يدفعون البلاد، لاسيما في ظل حكومة نوري المالكي إلى مزيدٍ من المركزية. ومن ناحية أخرى، يدافع الأكراد عن تبني نوعاً من الفيدرالية الإثنية أو العرقية، ويريدون الاحتفاظ باختصاصات واسعة في تسيير شؤون إقليمهم، مثل الفرانكوفونيين في كندا. وباستثناء إقليم كردستان، فإن النظام الفيدرالي العراقي غير مفعّل. فقد رُفضت طلبات محافظات عدة في الوسط والجنوب لتشكيل أقاليم اتحادية، ولم تُفعل النصوص الدستورية الخاصة بإنشاء مجلس الاتحاد الذي تتمثل فيه الأقاليم والمحافظات بطريقة متساوية.
ويمكن الاستفادة من النظام الإماراتي في حل مشكلة الحكم في العراق من خلال تشكيل هيئة تماثل المجلس الأعلى للاتحاد، تتألف عضويته من رؤساء الأقاليم الاتحادية، ويتولى، بشكلٍ أو بآخر، الإشراف على ممارسة السلطتين التنفيذية والتشريعية لاختصاصاتهما، بما يخدم التنمية المتوازنة في مناطق الدولة المختلفة، ويضمن عدم التمييز بين المواطنين على أساسٍ عرقي أو طائفي.
وبالنسبة لتوزيع الثروة، فإن النصوص الخاصة بها في الدستور العراقي غامضة وتحتمل أكثر من معنى. ومن ثم، يمكن إقرار الترتيب الدستوري الإماراتي الذي يعتبر الثروات الطبيعية في كل إمارة مملوكة ملكية عامة لها، مع تقرير نسبة مساهمة الإمارات المختلفة في ميزانية الاتحاد، بشكلٍ يجعل الإمارات الغنية تسهم بالنصيب الأكبر.
والأهم من ذلك أن إقرار قدر من التصالح مع الماضي بين الوحدات المكونة للدولة العراقية، كما حدث بين إمارات الساحل المتصالح عندما شرعت في الدخول في مفاوضات تشكيل دولة اتحادية، وتبني سياسة تحترم التنوع الإثني والثقافي والديني مستفيدة في ذلك من النموذج الإماراتي... كل ذلك يُمكن أن يسهم في تفعيل الفيدرالية العراقية، ويحول مستقبلاً دون وقوع البلاد في براثن الصراعات الأهلية، على نمط ما تعانيه حالياً.
وهناك عدد من العراقيين دعوا إلى الاستفادة من النموذج الفيدرالي الإماراتي من أجل تفعيل فيدرالية العراق، أشهرهم مسعود البارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق (2006-الآن). وعلى الجانب العربي، تؤيد عائلة النجيفي في نينوى تطبيق الفيدرالية في الأقاليم السنية، والاستفادة من النموذج الإماراتي في هذا الخصوص.
هل الحل الفيدرالي مناسب للحالتين اليمنية والليبية؟
يُطرح النظام الفيدرالي على الأجندة السياسية الحالية بإلحاح في اليمن وليبيا، ويُنظر إليه من قبل الداعين إليه على أنه طوق النجاة للبلدين من مخاطر التقسيم، بل والتشظي.
ومنذ توقيع وثيقة الحلول والضمانات من جانب جميع المكونات والأحزاب السياسية اليمنية، في يناير 2014، وتصديق الرئيس هادي عليها في الشهر التالي، والتي تتضمن تبني الفيدرالية، عبر تقسيم اليمن إلى عدة أقاليم، جرت مياه كثيرة تحت الجسور حالت دون إقرار الدستور الاتحادي، وأدخلت البلاد في حلقة جديدة من الصراع السياسي والانقسام، أحدثها حرب أهلية بحكم الأمر الواقع، مع تواصل عملية "إعادة الأمل" بعد "عاصفة الحزم".
وبالنسبة إلى ليبيا، التي اختبرت تجربة فيدرالية بُعَيد استقلالها لأكثر من عشر سنوات، تصاعدت المطالب بعد ثورتها في عام 2011 بالعودة إلى الفيدرالية. وتُقدَّم الفيدرالية كحل للحرب الأهلية التي تعانيها حالياً، من خلال تقسيم البلاد إلى ثلاثة أقاليم كبرى تتمتع بحكم محلي في ظل دولة اتحادية، هي طرابلس وبرقة وفزّان. وتتغذى الحركة الفيدرالية في الإقليمين الأخيرين على التهميش السياسي والاقتصادي الذي عانا منه الإقليمان في عهد القذافي. وتتفق مصالح الأقليات العرقية، من أمازيغ وطوارق وتّبو، مع مرامي الفيدراليين. ويضرب المؤيدون للخيار الفيدرالي في برقة مثلاً بنجاح النموذج الاتحادي الإماراتي.
وفي الحالتيْن اليمنية والليبية، هناك من يرفض الفيدرالية خشية أن تؤدي إلى تمزيق البلاد. ولكن يجب عدم التوقّف عند المصطلح في حد ذاته (مع أو ضد الفيدرالية)، وإنما يجب المرور إلى ما يوفّره النظام الفيدرالي من عدالة في توزيع الثروة بين الأقاليم، وإدارة للشأن العام تتميّز بالشمولية، والسماح لجميع مكونات المجتمع بالمشاركة في إدارة الدولة، والهيكلة المرنة للحكم، وحكم المواطنين لأنفسهم بأنفسهم، فضلاً عن توفير الاستقرار السياسي.
ويمكن استلهام النموذج الإماراتي لإطلاق العجلة الفيدرالية في اليمن وليبيا من خلال الاعتراف بالوضع القائم؛ على أساس أن مجرد البدء في التجربة سوف يسهم في انتشار الفكرة الاتحادية وتكريسها. فقد قام الاتحاد الإماراتي من سبع إمارات، كانت مستقلة تماماً عن بعضها بعضاً في إدارة شؤونها. ومن ثم، يمكن، بدلاً من الجدل والصراع حول عدد الأقاليم أو حدودها في اليمن، الاتفاق على تشكيل الدولة الاتحادية المقبلة من عدد المحافظات الـ22 التي يتكوّن منها اليمن. وذلك أن الانتقال إلى دولة اتحادية بالمحافظات الحالية سيكون أسهل وأيسر، ولا يحتاج لأكثر من اعتماد اللامركزية السياسية أو الحكم المحلي في الدستور الجديد. وعلى المستوى المالي والإداري، فسيكون الأمر أكثر يُسراً وسهولة؛ لأن الاعتمادات المالية متوافرة والأجهزة الإدارية جاهزة، ما يُسهل تحوّل مؤسسات وهيئات السلطة الحالية من مجالس محلية ومكاتب تنفيذية ومحاكم استئناف في المحافظات، إلى أجهزة للأقاليم الفيدرالية الجديدة. والأمر نفسه ينسحب على ليبيا، إذ يمكن البدء بتطبيق الفيدرالية في الأقاليم الثلاث (برقة وطرابلس وفزان) التي كانت تتشكل منهم التجربة الفيدرالية الأولى.
أما بالنسبة لتوزيع الثروة، وهي مشكلة شائعة في الحالات الثلاث (العراق وليبيا واليمن)، فيمكن الاستفادة مما يطرحه النموذج الإماراتي من حل لهذه المشكلة، كما ذكرت آنفاً، وكيف أدرك مؤسسو الاتحاد الإماراتي أن رفاهية رعاياهم وقوة بلدانهم تكمن في الاعتصام بالوحدة. والأهم من ذلك، فإن استلهام خصائص النموذج الإماراتي في التركيز على تمكين الدولة والمواطن اقتصادياً واجتماعياً، والتنمية المتوازنة، والحكم الجيد، والحفاظ على التنوع واستثماره... سوف يساعد هذه الدول الثلاث في التمكين لنظام فيدرالي قد يقيها مخاطر الانقسام والتشظي والحروب الأهلية.