أسفرت المفاوضات التي أجريت بين الرئيسين الروسي فيلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان في مدينة سوتشي الروسية، في 17 سبتمبر 2018، عن الوصول إلى تسوية أمنية بشأن الوضع فى إدلب كبديل للخيار العسكري الذي كانت تتبناه موسكو والنظام السوري لاستعادة آخر مواقع المعارضة السورية وما يمكن تسميته بـ"خزان" التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة). ويبدو أن ذلك سوف يكون له تأثير مباشر ليس فقط على توازنات القوى العسكرية بين النظام وتلك الأطراف، وإنما على الترتيبات السياسية والأمنية التي سيجري العمل على صياغتها خلال المرحلة القادمة.
توافق ملحوظ:
تضمن الاتفاق، الذي حظى بتأييد من جانب الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية وإيران، إنشاء منطقة منزوعة السلاح بعرض يتراوح بين 15 و20 كيلومترًا على خط التماس فى إدلب بين المعارضة وقوات النظام والمليشيات الداعمة له بحلول منتصف أكتوبر المقبل، مع سحب الأسلحة الثقيلة من المنطقة منزوعة السلاح بحلول 10 أكتوبر، وانسحاب التنظيمات الإرهابية، بما فيها "جبهة النصرة"، من المنطقة منزوعة السلاح، وتسيير دوريات مشتركة روسية– تركية في المنطقة منزوعة السلاح، وتعزيز نقاط المراقبة.
ويمكن تصور أن سوتشي كانت بمثابة صفقة روسية – تركية أكثر منها تفاهمات بين الجانبين، وهو ما يمكن توضيحه فى سياق تداعيات الاتفاق التي لا تتوقف عند حد تجنيب إدلب ومحيطها الحل العسكري، الذي كان الاحتمال الأكثر ترجيحًا مع فشل قمة طهران، التي عقدت في 7 سبتمبر الجاري، بين الرؤساء الإيراني حسن روحاني والروسي فيلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان، في التوصل إلى نتائج مماثلة.
فقد منع الاتفاق تفكك التوافق الروسي- التركي الذي كان مهددًا ويشهد تصدعًا في ظل اتساع مساحة التباين بين الجانبين فيما يتعلق بالتطورات السياسية والميدانية في سوريا. كما أنه يوفر فرصة لبقاء المعارضة السورية في المشهد السوري، والتي كان دورها يتضاءل تدريجيًا، لا سيما بعد تصفية مواقعها في جنوب سوريا، وهو ما يفسر أسباب ترحيبها بالاتفاق، الذي اعتبرت أنه يتوافق مع مصالحها، وفقًا لمصطفى السراج أحد قيادات "الجيش السوري الحر"، الذي قال أن الاتفاق "يدفن أحلام الأسد في فرض سيطرته الكاملة على سوريا".
الحل السياسي:
فضلاً عن ذلك، يعيد الاتفاق الاعتبار مرة أخرى للمسار السياسي بين النظام والمعارضة، والذي وصفه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بـ "روح آستانا". إلى جانب أنه حال دون اندلاع موجة نزوح هائلة كانت متوقعة في حالة استخدام الخيار العسكري، بشكل كان سيؤدي إلى تفاقم الأزمة الإنسانية فى سوريا أكثر مما هى عليه.
ويبدو أن موسكو رأت أن هذا الاتفاق يمكن أن يقلص من حدة التوتر في العلاقات مع الدول الغربية، التي وجهت تحذيرات عديدة في الفترة الماضية من العواقب التي يمكن أن تنتج عن الاستناد للخيار العسكري في إدلب.
في حين أنه جنّب أنقرة خسارة إدلب، على نحو كان سيمثل هزيمة للمشروع التركي في سوريا بشكل عام. ومن هنا أشارت اتجاهات عديدة إلى أن أنقرة اتجهت إلى تبني خيار تفكيك "جبهة النصرة" من أجل الحفاظ على المعارضة و"الجيش السوري الحر"، في ظل علاقاتها القوية مع جميع هذه الأطراف.
تحديات محتملة:
ومع ذلك، يواجه استمرار العمل بهذا الاتفاق خلال المرحلة القادمة تحديات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- محدودية الوقت: تعتبر الفترة الزمنية التي تقدر بـ5 أيام فقط (من 10 إلى 15 أكتوبر القادم) للتمهيد لبدء سريان الاتفاق مسافة أقل من المتوقع لتفعيله وسحب الأسلحة الثقيلة، التي تعنى وصول تركيا إلى تفاهمات مع قادة المليشيات الميدانية الإرهابية حول مصير "هيئة تحرير الشام" و"الجيش التركستاني" وغيرها، وتفكيك هذه الكيانات أو تجميد عملياتها، وفقًا لما وعد به الرئيس التركي بـ"ضمان عدم نشاطها".
2- عدم التحديد الدقيق لقوى المعارضة "الراديكالية": خاصة في ظل وجود نحو 20 فصيلاً نشطًا في إدلب، على حد قول مدير الاستخبارات العسكرية الأمريكية روبرت آشلي، وهو ما يفرض صعوبات عديدة أمام التمييز بين العناصر التي يمكن أن تلتزم بالاتفاق وتلك التي تعارضه وقد تعمل على تقويضه.
3- غياب الضمانات الكافية: شملت صفقة "التنازلات" أو "تقاسم المكاسب" الروسية- التركية تحديد الإجراءات المشتركة ميدانيًا وسياسيًا، لكنها لم تقدم ضمانات كافية قد تساعد في استمرار العمل بالاتفاق. إذ أن مذكرة التفاهم التي أبرمها الطرفان تتعلق بالجانب الإنساني ولا تشمل باقي الأبعاد، وبالتالي ستظل الترتيبات الأمنية قابلة لاختبار فاعليتها، وربما قابلة للتطوير. كذلك فإن وجود قوات مشتركة من الطرفين الروسي والتركي لا يبدو عملية محايدة تمامًا في حال لو أقدم أى من الأطراف على انتهاك الاتفاق.
4- ما بعد إدلب: ما زالت التداعيات الأمنية التي من المتوقع أن تتبلور بناءً على التطورات التي شهدتها إدلب تتسم بنوع من الغموض، حيث حرصت معظم الأطراف المعنية على عدم تحديد مسارات تحركاتها المحتملة فيما بعد إدلب، ربما باستثناء النظام السوري الذي أخذ يغير المسار تدريجيًا باتجاه شرق الفرات في مناطق دير الزور.
فضلاً عن ذلك، فإن ثمة إشكالية تتعلق بتوسيع دائرة الانتشار العسكري الأمريكي فى تلك المواقع، وهو ما يفرض تحديًا مزدوجًا لطرفى الاتفاق، روسيا وتركيا، خاصة أن الأولى ستواجه تنامي الحضور الأمريكي، في حين ستواجه الأخيرة دعم واشنطن للأكراد.
5- حسابات باقى الأطراف: تشير اتجاهات عديدة إلى أن الاتفاق قد يتوافق مع مصالح معظم الأطراف المعنية ورؤيتها لتطورات الصراع، باستثناء النظام الذي كان يراهن على استعادة إدلب ويندفع بقوة لحسم وضعها عسكريًا، وكذلك إيران التى أيدت الاتفاق بوصفه "دبلوماسية مسئولة"، لكنها لم توضح موقفها من الترتيبات الأمنية الجديدة.
وفي النهاية، يمكن القول إن الاتفاق يشير إلى قدرة روسيا وتركيا على تثبيت توافقهما المشترك الذي تجاوز اختبارًا صعبًا كاد يهدد بتفككه. ورغم أنه جنَّب إدلب مصير المواجهة العسكرية، فإن ذلك قد لا يعنى الوصول إلى تسوية هادئة ومرنة، بالنظر إلى مستوى وحجم التحديات الإجرائية والتنفيذية التي قد تواجهه في المرحلة القادمة.