رغم أن إيران أبدت رفضها أكثر من مرة للتفاوض بشكل ثنائي مع الولايات المتحدة الأمريكية، حتى قبل المبادرة الأخيرة والمفاجئة التي طرحها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في 30 يوليو 2018، إلا أن ذلك لا يبدو أنه نهاية المطاف. إذ ربما يمكن القول إن مشكلة التفاوض بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية لا تكمن في طبيعة القضايا التي ستكون محورها، وإنما تكمن في توقيتها، أى في الظروف الداخلية والإقليمية والدولية التي ستعقد في إطارها وبناءً على معطياتها.
وهنا، فإن شروط التفاوض تبقى لها الأولوية والأهمية الأكبر حتى من فكرة التفاوض في حد ذاتها، باعتبار أن كل طرف سوف يسعى قبل أن يتم تفعيل هذا الخيار إلى تحسين موقعه التفاوضي سواء بهدف الحصول على أكبر قدر من المكاسب أو من أجل تقديم أقل مستوى من التنازلات.
خيار مؤجل:
وعلى ضوء ذلك، يمكن ترجيح أن تكون مسألة التفاوض مع الولايات المتحدة الأمريكية مؤجلة ولكنها ليست مستبعدة بالنسبة لإيران، التي دائمًا ما تلجأ إليها في حالة ما إذا لم تكن تمتلك خيارات أخرى تستطيع من خلالها توسيع نطاق حرية الحركة المتاح أمامها للتعامل مع ضغوط الطرف الآخر. وقد شهدت العقود الأربعة الماضية مفاوضات سرية وعلنية وتفاهمات أمنية بين طهران وواشنطن حتى في الفترات التي تصاعدت فيها حدة التوتر إلى درجة غير مسبوقة.
ولذا، فإن الجدل الحالي الذي تشهده إيران على خلفية المبادرة الأخيرة التي تبناها الرئيس ترامب، الذي أبدى استعداده لـ"لقاء القادة الإيرانيين فى أى وقت أرادوه"، يبقى مؤشرًا على أن التفاوض يمثل خيارًا قائمًا وقد تلجأ إليه إيران في النهاية، في حالة ما إذا لم تستطع تحمل تبعات العقوبات الأمريكية المفروضة عليها، أو تزايدت مخاوفها من احتمالات الدخول في مواجهة عسكرية لا تحبذها مع الولايات المتحدة الأمريكية.
وبعبارة أخرى، فإنه في حالة ما إذا كان هناك رفض قاطع من جانب النظام الإيراني وقيادته العليا ممثلة في المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي لفكرة التفاوض، فإن هذا الجدل لم يكن ليظهر من الأساس، باعتبار أن الاتجاه الداعي للتفاوض سوف يتعرض، في هذه الحالة، إلى حملة انتقادات قوية ربما تنتهي بإضعافه سياسيًا وتقليص نفوذه داخل دوائر صنع القرار.
واللافت في هذا الإطار أيضًا، هو أن فكرة التفاوض مع واشنطن لم تعد حكرًا على تيار المعتدلين بقيادة روحاني، بل إنها باتت تكتسب أهمية وزخمًا خاصًا حتى من جانب كوادر بارزة في تيار المحافظين، على غرار علي أكبر ناطق نوري القريب من المرشد خامنئي وعضو مجلس تشخيص مصلحة النظام، الذي قال ردًا على مبادرة ترامب أنه "لا يمكن أن نقف مكتوفي الأيدي برفض التفاوض ونقول أنه أخطأ في ذلك".
وربما يكون ذلك إشارة من النظام بأن رفض بعض المسئولين البارزين فيه لفكرة التفاوض بشكل ثنائي مع الولايات المتحدة الأمريكية لا يمثل محددًا حاكمًا للسياسة الإيرانية، التي دائمًا ما تشهد تغييرات بارزة في حالة ما إذا رأت إيران أن مصالحها تفرض عليها إجراءها.
استعدادات مسبقة:
ومن هنا، ربما يستعد النظام مبكرًا للتفاوض مع الولايات المتحدة الأمريكية، لكنه سوف يعمل، في الغالب، على اتخاذ خطوات من شأنها، في رؤيته، تعزيز موقعه قبل إجراء المفاوضات في حد ذاتها، ويتمثل أبرزها في:
1- تهدئة الداخل: يحاول النظام خلال الفترة الحالية احتواء الاحتجاجات المتصاعدة في العديد من المحافظات والمدن الرئيسية، نتيجة انهيار سعر العملة الوطنية (الدولار وصل إلى نحو 130 ألف ريال) وارتفاع معدلات التضخم والبطالة وتراجع عوائد الاستثمارات والصادرات.
ومن هنا، يمكن تفسير دعم بعض مؤسسات النظام للإجراءات الاقتصادية التي اتخذتها الحكومة في الفترة الأخيرة، بالتوازي مع ممارسة ضغوط عليها من أجل إجراء تغيير في المجموعة الاقتصادية، بعد تعيين محافظ جديد للبنك المركزي، وهو عبد الناصر همتي، بدلاً من ولى الله سيف.
ومن دون شك، فإن أحد أهدف النظام من الضغط على الحكومة هو توجيه رسالة إلى الداخل بأن الأسباب الحقيقية في الأزمات الاقتصادية المزمنة تكمن في سياسات الحكومة وليس توجهات النظام، وهو ما يبدو جليًا في الحملة التي أدارتها وسائل الإعلام الرئيسية، واعتمدت على الترويج إلى أن فشل الحكومة في التعامل مع تلك الأزمات يعود إلى عدم التزامها بدعوة المرشد إلى تبني ما يسمى بـ"الاقتصاد المقاوم" بدلاً من الرهان على تحسين العلاقات مع القوى الدولية وجذب استثمارات الشركات الدولية.
2- تصعيد في الإقليم: قد يلجأ النظام الإيراني إلى استغلال نفوذه في بعض دول الأزمات في إطار محاولاته تقليص حدة الضغوط التي تفرضها سياسات الإدارة الأمريكية، وسعيه إلى توجيه رسائل مباشرة قبل إجراء المفاوضات المحتملة مع الأخيرة، والتي سيكون الدور الإيراني في المنطقة أحد أهم محاورها الرئيسية.
ومن هنا يمكن تفسير أسباب حرص إيران على تعزيز فرص استمرار الاحتجاجات في العراق، بعد أن ساهمت إجراءاتها في تصاعد أزمة الكهرباء في المحافظات الجنوبية، إلى جانب عرقلة تشكيل الحكومة العراقية الجديدة بعد إجراء الانتخابات البرلمانية في 12 مايو 2018.
كما أن إيران كانت حاضرة في التصعيد الأخير من جانب حركة "الحوثيين" في منطقة باب المندب بعد هجومها على ناقلتى نفط سعوديتين في 25 يوليو 2018، خاصة أنها تقوم، حسب تقارير عديدة، بتدريب عناصر الحركة على تطوير قوارب صغيرة متفجرة وألغام بحرية، وهى الآليات نفسها التي تستند إليها طهران في تهديداتها الأخيرة بإغلاق مضيق هرمز في حالة عدم تمكنها من تصدير نفطها بعد تفعيل العقوبات الأمريكية الخاصة بالنفط في نوفمبر 2018.
وقد تزامن هذا التصعيد مع صدور تقرير لجنة خبراء تابعة الأمم المتحدة، أكد أن "أسلحة استخدمتها الميليشيات أجريت لها معاينة مؤخرًا، بما فيها صواريخ وطائرات من دون طيار، تظهر خصائص مماثلة لأنظمة أسلحة معروف أنها تصنع في إيران".
وأشارت تقارير أخرى إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية تعتقد أن إيران سوف تقوم خلال الفترة القادمة بإجراء مناورات ضخمة في الخليج بعد تقديم موعدها، في ارتباط مباشر بالتوتر الحالي بين الطرفين.
3- توسيع هامش الخيارات الدولية: ربما تتجه إيران إلى رفع مستوى التنسيق والتعاون مع كل من روسيا والصين خلال المرحلة القادمة، وذلك من أجل توسيع نطاق حرية الحركة والمناورة المتاحة أمامها قبل أن تقبل بإجراء مفاوضات مع واشنطن. ومن هنا، يمكن تفسير حرصها على تأسيس قنوات تواصل مستمرة مع بكين وموسكو لمناقشة التطورات الخاصة بالملف النووي والعلاقات الثنائية. وقد تسعى إيران في الوقت ذاته إلى محاولة استغلال التوتر الحالي بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين تحديدًا، بعد نشوب ما يسمى بـ"الحرب التجارية" بين الطرفين لدعم موقعها أمام واشنطن.
من هنا، يمكن القول في النهاية، إن الارتباك والتردد سوف يبقى عنوانًا رئيسيًا للسياسة التي تتبناها طهران في التعامل مع الضغوط الأمريكية، إلى حين قبولها بإجراء مفاوضات مع واشنطن سوف تكون صعبة دون شك، باعتبار أنها لن تركز في هذه اللحظة على البرنامج النووي فحسب وإنما على الملفات الأخرى غير النووية.