تتبدى صورة صناعة القرار في البلدان الغربية على درجة من الاختلاط والالتباس غير مسبوقة. ففي الولايات المتحدة الأميركية مثلاً، لم يعد واضحاً ما هو الموقف الرسمي من روسيا وسياستها ورئيسها فلاديمير بوتين، وما إذا كان الأخير يتدخل، أو لا يتدخل، في الشؤون الأميركية والغربية عموماً. فدونالد ترامب يقول شيئاً، لكن بعض البارزين في إدارته وفي حزبه يقولون شيئاً آخر. وهذا إلى جانب أن ترامب نفسه قد يقول، أو يغرّد، أكثر من شيئين متناقضين في يومين، وربما في يوم واحد!
إلا أن بريطانيا، ومن دون الدراما الترامبية في الولايات المتحدة، لا تبدو أفضل حالاً على هذا الصعيد. فليس واضحاً تماماً أي صورة سوف يستقر عليها «بريكسيت» والعلاقة بالاتحاد الأوروبي، وأي صورة بالتالي ستستقر عليها بريطانيا نفسها. وهذا إلى جانب التحولات الكبرى التي طالت الكتل الحزبية الحاكمة في كل من إسبانيا وإيطاليا، والوضع الحساس جداً الذي تعانيه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، مما يفتح الباب أمام احتمالات شتى تفتقر إلى التجانس أو القدرة على توقعها سلفاً. والخريطة تلك تضرب الأحزاب السياسية التي لا تعوزها العراقة في تلك البلدان: يكفي النظر مثلاً إلى أحوال الحزب «الجمهوري» في الولايات المتحدة، وهو يراقب التغييرات الكبرى التي ينفّذها الرئيس «الجمهوري» ترامب على جميع الصعد تقريباً، من التحالفات الخارجية إلى الاقتصاد المفتوح. فإذا صح أن قطاعاً عريضاً من «الجمهوريين» لا يزال يساير رئيسه لأغراض انتخابية محضة، صح أيضاً أن الرهان على وحدة الحزب، بالرغم من كل شيء، قد لا يدوم طويلاً.
والشيء نفسه ينطبق على حزب «المحافظين» الحاكم في بريطانيا، لا سيما بعد استقالة وزير الخارجية السابق والنجم الأبرز لحملة الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، «بوريس جونسون». لقد باتت حالة رئيسة الحكومة «تريزا ماي» تشبه حالة حكّام «العالم الثالث» الذين يعيشون في رعب الانقلاب العسكري الذي يطيحهم في أي لحظة. فحزبها حزبان، تماماً كما أن الإجماع حول دورها القيادي سلعة نادرة.
وفيما يمضي الرئيس إيمانويل ماكرون في سياسة يصف وظيفتها بأنها تجديد وتحديث لفرنسا الهرمة، يبقى الغموض كبيراً في ما خص الميناء الذي سترسو علي بلاد الغال بعد تلك الإصلاحات (التي يبدو أن معارضتها الداخلية والنقابية ضمرت وتراجعت).
لكنْ، وعلى نطاق أوسع، يمكن القول إن سائر المؤسسات والبنى التي عرفها عالمنا في النصف الثاني من القرن العشرين باتت محاطة بعلامات الاستفهام الكبرى. فحلف شمال الأطلسي (الناتو) لا يبدو بخير، إذ يبدي رئيس دولته المؤسسة، أي ترامب، شكوكه الموسمية بجدواه وبأكلافه المالية وتوزيعها على الأعضاء. والأمر نفسه يصح في الاتحاد الأوروبي الذي غادرته بريطانيا، وبات من الواضح أن ترامب يعمل على تصديعه وإغراء أعضائه الأوروبيين بتركه لصالح علاقات ثنائية مجزية مع الولايات المتحدة (وهذا فضلاً عن تعرضه للحصار من الشرق على يد بوتين). أما مؤسسات التعاون الغربي، والدولي تالياً، فلا تبدو أحسن حالاً: من الأمم المتحدة ومتفرعاتها المطعون بها أميركياً، إلى الاتفاقات التجارية والبيئية الكثيرة.
وإذا كانت هذه التطورات مقلقة على وجه العموم فأكثر ما يقلق فيها أمران متلازمان: أن القوى الشعبوية، وعلى رأسها قيادة الكرملين، تعبر عن تماسك يضعها في موقع القادر على الاستفادة من كل تعثر أو تراجع غربيين. أما ثانياً، فهو التراجع الذي لا بد أن يصيب مبدأ حقوق الإنسان، ليس فقط لأن المؤسسات العابرة للدول الوطنية تعاني ما تعانيه من انكماش وضمور، بل أيضاً لأن مفهوم «الإنسان» كقيمة وواقع كونيين يحاصره الصعود الظافر للقوميين والشعبويين ودعاة الهويات من كل نوع. وهذا، على عمومه، إنما يدل على عمق الترابط بين مصالح التوطد الديمقراطي والليبرالي في الغرب ومصالح التقدم على نطاق كوني. والحال أن الانتكاس يضرب الجبهتين راهناً.
*نقلا عن صحيفة الاتحاد