نجح الرئيس إيمانويل ماكرون في جمع القيادات الليبية الرئيسية الأربع. نجح في «إعلان سياسي» نال موافقتهم. لكنهم لم... يجتمعوا. لم يوقعوا الإعلان. أعلنوا التزامهم ما تضمنه. أي إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في العاشر من كانون الأول (ديسمبر) المقبل. وإقرار الأسس الدستورية لهذه الانتخابات واعتماد القوانين الضرورية بحلول 16 أيلول (سبتمبر). لم يعلنوا مثلاً التزامهم نتائج الانتخابات، لئلا ينقلبوا عليها كما حصل في السابق. ولم ينتظروا حتى يجف حبر البيان الذي أنجزته باريس حتى عادوا إلى التراشق السياسي والميداني. رئيس مجلس النواب عقيلة صالح أعلن تمسكه بالمشير خليفة حفتر قائد الجيش الوطني. وقال أنه «خط أحمر»، منوهاً بدوره ودور جيشه في إنقاذ الليبيين وحتى بعض الدول المجاورة من خطر الإرهاب. كان يشير إلى رفض رئيس مجلس الدولة خالد المشري مصافحة حفتر في الاجتماع الفرنسي. وقد سارع هذا إلى الرد. جدد عدم اعترافه بالمشير الذي كان البرلمان الشرعي عيّنه في 2015 قائداً للجيش. هكذا يبقى الخلاف بين قائد يحظى بشعبية واسعة في الشرق الليبي و «حزب العدالة والتنمية» «الإخواني» الذي ينتمي إليه المشري. أما فائز السراج، رئيس حكومة الوفاق الوطني، فدخل على السجال معتبراً أن «الخطوط الحمر هي وحدة ليبيا وسلامتها، ومصلحة المواطن وحقه في تقرير مصيره عبر السبل الديموقراطية، ومن خلال صناديق الاقتراع». وكرر أنه يقف على مسافة متساوية من كل الأطراف. وأكد التزامه «الإعلان السياسي في شأن ليبيا». لكنه يعرف في قرارة نفسه، كما يعرف الجميع أن أهل الشرق لا ينظرون إليه واقفاً على مسافة واحدة ومتساوية. وحتى إن صفت نياته، وحظي بالدعم الدولي الذي أنتج حكومته في الصخيرات، فهو يقيم في العاصمة بين ظهراني الميليشيات التي تناصب بنغازي العداء والحرب.
قدم الرئيس الفرنسي دعماً كبيراً لمهمة مبعوث الأمم المتحدة غسان سلامة إلى ليبيا. وكان جمع السراج وحفتر قبل أشهر. وكان سلامة نجح إلى الآن في طرح خريطة طريق جديدة لتسوية الأزمة الليبية. عنوانها الأساسي استعادة المنظمة الدولية هذا الملف من أصحاب المسارات والمبادرات الأخرى المتعددة التي تجاوز عددها أصابع اليد الواحدة. ومنها ما هو إقليمي، ومنها ما هو دولي، أو مشترك بين قوى كبرى وأخرى محيطة أو معنية بما يحدث في ليبيا. لم يتوقف عند ما أنتجه اتفاق الصخيرات الذي بني على افتراض أن ثمة دولة في ليبيا. في حين أن لا وجود لها فعلياً. ولم يكتف بلقاء المتخاصمين «الرسميين». جال بنفسه على كل القوى السياسية والعسكرية وهيئات المجتمع المدني. لم يستثن أحداً من القوى الحقيقية الممسكة بالأرض، وحتى رموز النظام السابق وحلفاءه. وجال على غالبية العواصم المعنية لتوفير الدعم لخطته. ورسم في النتيجة خريطة طريق عرضها في نيويورك خريف العام الماضي. تبدأ بتعديل اتفاق الصخيرات، ثم عقد مؤتمر للمصالحة وتنتهي باستفتاء على مشروع الدستور وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية.
الصورة التي جمعت الرئيس ماكرون والقادة الليبين الأربعة ليست كافية. ولا إعلان المبادئ أيضاً. تدرك باريس أن طموحها إلى أداء دور فاعل في ليبيا دونه عقبات جمة. فلا الظروف الداخلية في هذا البلد نضجت، على رغم الجهود التي بذلها المبعوث الأممي. ولا اللاعبون الخارجيون توافقوا، بل إن شبكة العلاقات والمصالح المتصادمة تزداد تعقيداً. بالتالي، إن إنجاح الدور الفرنسي لا يعني بعض هؤلاء اللاعبين، الإقليميين منهم خصوصاً. وربما لا يلقى ترحيباً حاراً من قوى كبرى. لا يمكن مثلاً تجاهل العلاقات المتينة التي تربط بريطانيا مع ممثلي مصراته، وهؤلاء لم يكونوا في «الصورة» الباريسية. كما أن إيطاليا التي قصرت اهتمامها على أزمة اللاجئين غير الشرعيين وسبل مكافحة هذه التجارة غابت، ولا تخفي معارضتها استئثار فرنسا بالتسوية. وحتى الولايات المتحدة التي عبرت سفيرتها في طرابلس عن دعمها «لقاء باريس» لها حساباتها الخاصة. فما يعنيها كما غيرها من قوى في المنطقة هو مواصلة الحرب على الإرهاب والحؤول دون توافد بقايا «داعش» و «القاعدة» من المشرق العربي إلى الشمال الأفريقي. وهو هاجس الجزائر وتونس والدول المغاربية الأخرى. ثمة مخاوف كبيرة من أن تكون المعركة الكبرى المقبلة على الإرهاب في الشمال الأفريقي. في وقت لا تغيب عن بال «رموز الثورة» الذين أكلتهم الميليشيات، مسؤولية التحذير في كل مناسبة من مشاريع لـ «توطين» مئات آلاف اللاجئين الأفارقة الذين سدت أبواب البحر في وجوههم. وهم القنبلة الموقوتة المقبلة لتغيير الخريطة الديموغرافية لليبيا.
ولا يكفي أن يعلن القادة الأربعة التزامهم «إعلان باريس» لتفتح الطريق أمام حل الأزمة الليبية، حتى وإن أجريت الانتخابات. سيعود هؤلاء إلى رعاتهم الإقليميين الذين حضر معظمهم اللقاء وكان شاهداً. وسيعودون إلى الداخل حيث الكلمة الفصل في الميدان لأمراء الحرب والميليشيات. وقد لا يكون المتصارعون في الداخل، ومن خلفهم القوى الإقليمية التي تدعمهم، مستعدين لإجراء انتخابات يفترض أن تنهي سلطتهم وتعيد سيطرة الدولة على موارد البلاد، وتطوي صفحة اقتصاد الميليشيات واقتصاد الإرهاب. لذلك، يخشى بعض المعنيين أن تتكرر تجربة الانتخابات التي أجريت في 2012 بعد الثورة، إذ رأى كثيرون أنها استُعجِلت في حين كان يفترض إعطاء الأولوية للمصالحات الوطنية والتوافق على بناء الدولة تمهيداً للتخلص من سيطرة الميليشيات الإسلامية ورموزها السياسيين. ومثلها حصل في انتخابات 2014. وفي التجربتين، كان تيار الإسلام السياسي يعطل النتائج. لم تتجاوز نسبة التأييد التي حصدها في الاستحقاقين، عشرين في المئة. فالناخبون لا يختارون أحزاباً وقوى سياسية، بقدر ما تعنيهم العائلية والقبلية والجهوية والمدينة. هذا الانقسام طبع تاريخ ليبيا المعروف حتى قيام المملكة الواحدة مطلع الخمسينات. والسؤال هنا من يضمن ألا يكرر هذا التيار السيناريو نفسه. وقد تنتهي الانتخابات، إذا حصلت، إلى ترسيخ الانقسامات، إذ لن يكون في مقدور أحد الحؤول دون تأثير القوى الفاعلة على الأرض، في نتائجها. وهذه القوى خصوصاً في الغرب والجنوب غابت عن لقاء باريس. وقد أثبتت قدرتها على إحباط أي مشروع تسوية سياسية. ويمكنها أن تسعى، انطلاقاً من حسابات جهوية وقبلية، أو استجابة لإشارات خارجية، إلى عرقلة الاستحقاق المقرر آخر السنة، أو عدم الاعتراف بنتائجه، وتجديد الخلاف على مقره ومكان انعقاده في طرابلس أو طبرق، في غياب جيش واحد وأجهزة أمنية واحدة في كل البلاد. وعشية لقاء باريس، أعلنت مجموعة مسلحة في الغرب تمثل أكثر من 13 مجلساً عسكرياً أنها تتبرأ من هذا اللقاء!
والمشكلة لا تقتصر على الانقسامات الجهوية والمناطقية. ثمة خلافات دفينة في كل منطقة أو جهة، في الشرق أو الغرب أو الجنوب. وفي ظل الصراع الجهوي على توزيع ثروات البلاد، تتقاتل قوى أفادت من غياب الدولة لمراكمة ثروات والتحكم بمداخيل البلاد. ولا يمكن هذه القوى أن تسلم بقيام الدولة كما تشتهي الأمم المتحدة. وما يغذي هذه الصراعات أن ثمة خلافات كبيرة بين القوى الإقليمية التي ترعى قوى الداخل. مصر تبدو حريصة على دعم المشير حفتر ما دام يشكل في مناطق سيطرته عازلاً يبعد من حدودها الميليشيات المتشددة وتلك التابعة للإسلام السياسي. ولم تكن مصادفة أن انقضاض هذه الميليشيات على طرابلس وقع بعد نحو شهر على سقوط حكم الرئيس «الإخواني» في مصر محمد مرسي... بدا كأنه محاولة تعويض لخسارة «الإخوان» قاعدتهم المصرية. وفي حين تقف دولة الإمارات والمملكة العربية السعودية إلى جانب القاهرة في دعم «الشرعية» التي يمثلها مجلس النواب المنتخب والجيش الوطني، تدعم تركيا ومعها قطر التيار «الإخواني». ومعروف أن أهل الشرق الليبي لم يرق لهم اتفاق الصخيرات، معتبرين أنه كان لمصلحة خصومهم الممسكين بمقاليد العاصمة ومدن أخرى في الغرب الليبي.
كان مهماً أن يجمع الرئيس ماكرون القادة الليبيين «الرسميين» الأربعة، لكن ما بدر منهم بعد اللقاء لم يشِ بأنهم تقدموا خطوة نحو مصالحة تمهد الطريق أمام إقرار الدستور الجديد، أو أبدوا مثلاً استعداداً لتوحيد المؤسسات العسكرية والأمنية والمصرف المركزي. كان مهماً أن يلتقي هؤلاء القادة، لكن الأهم كان ولا يزال أن تتوافر إرادة دولية ولقاء أو توافق بين اللاعبين الإقليميين والدوليين من أجل تسهيل التسوية أو فرضها ليس في ليبيا فحسب، بل في معظم أزمات المنطقة العربية.
*نقلا عن صحيفة الحياة