تبذل حكومة الرئيس حسن روحاني خلال المرحلة الحالية جهودًا حثيثة من أجل تعزيز فرص استمرار العمل بالاتفاق النووي مع القوى الدولية المعنية بذلك، ولا سيما الصين وروسيا والدول الأوروبية، وهو ما دفعها إلى إجراء مباحثات عاجلة مع تلك القوى بهدف مناقشة الآليات التي يمكن الاستناد إليها من أجل تحقيق ذلك، على نحو بدا جليًا في الجولة التي قام بها وزير الخارجية محمد جواد ظريف وشملت كلاً من بكين وموسكو وبروكسل في الفترة من 13 إلى 15 مايو الجاري.
ورغم أن ثمة حرصًا من جانب تلك الأطراف على عدم التطرق إلى خيارات أخرى قد تكون عواقبها وخيمة، وفي مقدمتها توقف العمل بالاتفاق، إلا أن البدائل المتاحة أمامهم قد لا تكون متعددة، على نحو يضفي مزيدًا من الغموض على المسارات المحتملة للاتفاق خلال المرحلة القادمة.
ضغوط مستمرة
كان لافتًا أن إيران سعت بالتوازي مع تلك الجولة التي يقوم بها ظريف إلى ممارسة ضغوط على الدول الأوروبية تحديدًا من أجل ضمان استمرار حصولها على العوائد الاقتصادية والتكنولوجية للاتفاق، باعتبار أن تلك الدول تمارس دورًا رئيسيًا في هذا السياق حتى قبل الانسحاب الأمريكي.
ويبدو أن التصريحات التي أدلى بها المرشد الأعلى للجمهورية على خامنئي، في 9 مايو، وطالب فيها بضرورة الحصول على ما أسماه بـ"ضمانات" من تلك الدول من أجل عدم الإقدام على اتخاذ إجراءات قد تعطل العمل بالاتفاق، وضع الحكومة أمام اختبار صعب.
إذ أنها تحاول بشكل واضح إنقاذ الاتفاق من الانهيار وتسعى إلى مواصلة العمل به بعد الانسحاب الأمريكي، لكنها في الوقت ذاته لا تستطيع تجاهل الحدود التي وضعها خامنئي للمباحثات التي سوف تجريها مع الدول الأوروبية خلال الفترة القادمة، باعتبار أن ذلك قد يدفع المرشد والمؤسسات النافذة إلى التدخل من أجل عرقلة الجهود التي تبذلها في هذا الإطار.
ومن هنا، حرصت الحكومة على توجيه رسائل عديدة مفادها أنها لن تكون مضطرة للاستمرار في الاتفاق ما لم يحقق أهدافها، حيث قال عباس عراقجي مساعد وزير الخارجية في اجتماع للجنة السياسة الخارجية والأمن القومي بمجلس الشورى، في 13 مايو، أن أمام الدول الأوروبية مهلة تتراوح بين 45 و60 يومًا لتقديم الضمانات اللازمة في الاتفاق النووي.
وسرعان ما حاول رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية علي أكبر صالحي تصعيد حدة الضغوط التي تحاول طهران ممارستها على تلك الدول، من خلال التأكيد، في 15 من الشهر ذاته، على أن إيران مستعدة لإعادة تخصيب اليورانيوم بمستوى أعلى من ذي قبل.
وقد تحاول إيران في وقت لاحق التلميح إلى إمكانية حلول شركات من الصين وروسيا محل الشركات الأوروبية التي قد تقدم على الانسحاب من السوق الإيرانية، بشكل لا يتوافق مع مصالح تلك الدول، رغم أن هذا البديل أيضًا قد لا يبدو مضمونًا.
اعتبارات متداخلة
ربما يمكن تفسير حرص الحكومة على تبني تلك السياسة في ضوء محاولتها إقناع الدول الأوروبية بالتدخل من أجل حماية استثمارات الشركات الأوروبية من العقوبات الأمريكية التي يمكن أن تتعرض لها في مرحلة لاحقة أو توفير البدائل الملائمة في حالة انسحاب بعض الشركات الكبرى من الصفقات التي أبرمتها مع إيران، على غرار شركة "توتال".
ويبدو أن الحكومة قد أبدت اهتمامًا خاصًا بالتصريحات التي أدلى بها مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون، في 13 مايو، وقال فيها أن فرض عقوبات على الشركات الأوروبية التي تستثمر في إيران قد لا يكون احتمالاً مستبعدًا، حيث ترى أن ذلك يدخل في إطار محاولات أمريكية لعرقلة جهود مواصلة العمل بالاتفاق بعد قرار الانسحاب الذي اتخذه الرئيس ترامب.
ويكتسب هذا الاحتمال وجاهة خاصة، وفقًا لرؤيتها، في ضوء إصرار الإدارة الأمريكية على ضرورة التوصل إلى اتفاق جديد يستوعب التحفظات التي تبديها على الاتفاق، بدلاً من مواصلة تطبيق الاتفاق القائم حاليًا.
سقف منخفض
رغم ذلك، فإن الضغوط التي تمارسها إيران على الدول الأوروبية لها حدود قد لا تكون مرتفعة. إذ أن إيران لا تتفاوض من موقع قوة، خاصة أن الانسحاب الأمريكي أربك حساباتها وخلط أوراقها النووية والإقليمية، بعد أن توازى مع الهجمات الإسرائيلية على مواقع عديدة تابعة لها داخل سوريا دون أن تكون لديها الرغبة، حتى الآن، على الرد.
وبمعنى آخر، فإن هذه السياسة قد تكون مؤشرًا على ضعف موقفها وليس العكس. إذ سبق أن سعت إيران إلى تبني السياسة نفسها لدفع الإدارة الأمريكية إلى عدم الانسحاب من الاتفاق، حيث هددت أكثر من مرة بالانسحاب من الاتفاق في حالة اتخاذ الأخيرة تلك الخطوة، دون أن تتبنى إجراءات على الأرض لتفعيل ذلك في النهاية.
ومن هنا، قد تحاول الدول الأوروبية استثمار ذلك. فرغم أنها ما زالت مصرة على استمرار العمل بالاتفاق لاعتبارات استراتيجية واقتصادية عديدة، فإن ذلك لا ينفي أن مواقفها تتباين مع إيران بشكل كبير حول قضايا رئيسية ومهمة لا يمكن التغاضي عنها، وخاصة ما يتعلق بالتدخلات الإيرانية في المنطقة، والتي أدت إلى انتشار الفوضى وتعزيز نشاط التنظيمات الإرهابية.
وقد كان لافتًا أن تلك الدول تبنت مواقف لا تبدو مريحة لإيران بعد الضربات العسكرية الإسرائيلية على مواقعها في سوريا، على نحو يشير إلى أنها لا تختلف كثيرًا عن السياسة الأمريكية في هذا الصدد.
وبعبارة أخرى، يمكن القول إن الدول الأوروبية قد تمتلك خيارات أكثر في التعامل مع تداعيات الانسحاب الأمريكي من الاتفاق بالمقارنة بموقف إيران نفسها، على نحو قد يجعلها تحاول استغلال ذلك في العمل على إقناع إيران بضرورة فتح مجال للتفاوض حول أدوارها التدخلية في الأزمات الإقليمية المختلفة إلى جانب القضايا الأخيرة، والتي يأتي في مقدمتها تطوير برنامج الصواريخ الباليستية.
لكن يبقى ذلك مجرد بديل قد تسعى تلك الدول إلى اختباره خلال المباحثات المتواصلة التي ستجريها مع إيران خلال الشهرين القادمين، دون أن تكون هناك مؤشرات تدعم من احتمالات إبداء إيران مرونة في هذا الصدد، خاصة أن القيادة العليا في طهران، ممثلة في خامنئي، ليست في وارد، على الأقل في المرحلة الحالية، الموافقة على تقديم تنازلات حقيقية على الساحة الإقليمية بعد أن بدأت في الترويج إلى أن إيران خرجت خاسرة من الصفقة النووية التي تحاول تحميل حكومة روحاني مسئوليتها.
لذا، فإن استمرار العمل بالاتفاق خلال المرحلة القادمة أصبح يواجه تحديات لا تبدو هينة، ليس فقط بسبب المعطيات الجديدة التي فرضها الانسحاب الأمريكي، رغم أهمية ذلك، وإنما أيضًا بسبب الخلافات المتعددة بين إيران والدول الأوروبية، التي من المفترض أن تمارس دورًا رئيسيًا في حالة مواصلة تطبيقه، والتي لا يبدو الوصول إلى توافق بشأنها مهمة سهلة بالنسبة للطرفين.