يصادف اليوم الذكرى السبعين لإعلان دولة إسرائيل، وهي مناسبة لإلقاء نظرة فاحصة لتطور الصراع الذي نجم عن هذا الفعل الاستعماري البغيض، ويمكن القول بأن ثمة مرحلتين رئيسيتين تطور هذا الصراع وفقاً لهما؛ تبدأ الأولى منهما بمؤتمر بازل 1897 الذي أعلن هدف إنشاء الدولة الصهيونية في فلسطين وتنتهي بعدوان 1967 الذي ترتب عليه احتلال إسرائيل كامل الأراضي الفلسطينية بعد أن كانت الدولة العبرية قد أعلنت في 1948 على جزء من فلسطين لم يشمل كلاً من الضفة الغربية وقطاع غزة، وكانت سمة هذه المرحلة هي التصعيد الذي مكن الطرف الصهيوني من تحقيق هدفه، وبوقوع الهزيمة العربية في 1967 بدأت المرحلة الثانية من الصراع وهي المرحلة التي ميزها اتجاه الصراع إلى التسوية بعد أن تغيرت النظرة العربية إليه من كونه قضية تصفية استعمار إلى نزاع بين دول يمكن حله بالتسوية السياسية، وذلك بسبب الهزيمة التي أدت إلى احتلال أراض عربية واسعة.
لذلك السبب تحديداً ماطلت إسرائيل وتشددت في كل محاولات التسوية رغم ما أبدته الأطراف العربية من مرونة فاضطُرت هذه الأطراف للجوء إلى القوة لتحسين الميزان التفاوضي، فكانت حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية بعد العدوان مباشرة، وكانت حرب أكتوبر على الجبهتين المصرية والسورية في 1973، وانخرط الفلسطينيون في أعمال مقاومة مسلحة حيناً وشعبية حيناً آخر، وأفضى هذا كله إلى ثمار محددة لم تكن كافية لإنهاء الصراع، فجلت القوات الإسرائيلية عن شبه جزيرة سيناء المصرية، وإن بقيود على تسلحها، وتوقف الأمر على الجبهة السورية عند اتفاقية فض الاشتباك الأولى ولاحقاً ضمت إسرائيل الجولان رغم أنف القانون الدولي تماماً كما ضمت القدس الشرقية وجعلت من القدس الموحدة عاصمة لها، أما على الجبهة الفلسطينية فأدت المقاومة المدنية كما تمثلت في انتفاضة الحجارة في أواخر 1987 والمقاومة المسلحة التي تضمنتها انتفاضة الأقصى 2000 إلى نتيجتين محددتين أولاهما اتفاقية أوسلو 1993 التي أوجدت سلطة فلسطينية محدودة على أجزاء من الأراضي المحتلة ونصت على مرحلة انتقالية تدوم خمس سنوات تتم خلالها التسوية النهائية، والثانية جلاء القوات الإسرائيلية عن غزة، وإن ظلت تحت رحمتها عسكرياً وتفكيك المستوطنات المحيطة بالقطاع حماية لها من مخاطر الصواريخ الفلسطينية في سابقة هي الأولى من نوعها في جريمة الاستيطان الإسرائيلي.. ونتيجة لما سبق خرجت «فتح» من مسار المقاومة إلى المسار التفاوضي دون أن تجنى شيئاً على مدى ربع قرن منذ توقيع «أوسلو»، وارتكبت «حماس» خطأً تاريخياً بتحولها من حركة تحرر إلى «سلطة» بعد فوزها في الانتخابات التشريعية 2006 وتوقفها عملياً عن المقاومة رغم استمرار رفع شعاراتها. وهكذا عَقُمَ المساران التفاوضي والكفاحي معاً.
ومنذ الغزو الأميركي للعراق 2003 وبعده ما عُرف بـ«الربيع العربي» ابتداءً من هذا العقد شهدت القضية الفلسطينية تطورات بالغة السوء على الصعيدين العربي والدولي، فقد أدت التطورات على الصعيد العربي إلى انكفاء عديد من الدول العربية على ذاتها في مواجهة محاولات التغيير وتفاقم الإرهاب وتراجعت لديها أولوية القضية الفلسطينية، ومن ناحية أخرى ورغم الانحياز الأميركي الدائم لإسرائيل فإن رئاسة ترامب قد مثلت نقلة نوعية في هذا الانحياز بدءاً بموقفه من الاستيطان ومروراً بموقفه من حل الدولتين وانتهاءً بنقل السفارة الأميركية إلى القدس والذي تتم مراسمه اليوم. ورغم أن هذه التحولات في الموقف الأميركي لم تحظ بدعم دولي يُذكر فالمهم أن الأوضاع العربية لم تفض إلى مواقف قادرة على مواجهة هذه التحولات، لكن الأهم هو ما يبدو من أن الطرف الأصيل في الأزمة الراهنة، وهو النخبة الفلسطينية «الحاكمة» (في الضفة أو غزة) لم تستوعب الدرس بعد وهو أن الخروج من هذا النفق لن يكون بالبحث عن إطار دولي جديد لعملية التسوية، وإنما بوحدة وطنية تضع استراتيجية نضالية جديدة قادرة على فرض تسوية متوازنة، وذلك رغم أن الشعب الفلسطيني لم يقصر يوماً في الوفاء بمسؤولياته الوطنية التي يبدو أنها قد تصل به إلى ضرورة العمل من أجل تغيير هذه النخبة ما لم تغير ما بنفسها طلباً لغد فلسطيني أفضل.
*نقلا عن صحيفة الاتحاد