السؤال ليس لماذا انسحب الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الاتفاق النووي مع إيران. بل لماذا اختار الرئيس السابق باراك أوباما اتفاقاً تقنياً خالصاً، ومؤقتاً (في حدود 10 سنوات لبعض بنوده، و15 لبعضها الآخر)؟ فرض السؤال الأخير نفسه حتى قبل أن يترشح دونالد ترامب للرئاسة. ويزداد إلحاحاً وقد اتخذ قراره بالانسحاب. هو قرار في نهاية المطاف ليس إلا نتيجة طبيعية للاتفاق وحدوده التقنية والزمنية. حتى الأهداف التي يقال إنه يضمنها هي في أغلبها آمال أكثر من كونها أهداف ملزمة، خاصة بعد انتهاء مدة الاتفاق عام 2025. وما يزيد من إلحاح السؤال ومشروعيته هو الفصل الحاد الذي انبنى عليه الاتفاق في شكل متعمد بين الجوانب السياسية والعسكرية (غير النووية) للدور الإيراني، بما في ذلك تطوير صواريخ باليستية (قادرة على حمل رؤوس نووية)، والتدخل في شؤون دول المنطقة، وتبني آلية الميليشيا كمرتكز لهذا التدخل، وللدور الإقليمي الإيراني برمته، من ناحية، ومنع إيران من امتلاك السلاح النووي، من ناحية أخرى. بهذا الفصل غير المبرر، وبمحدوديته الزمنية وفر الاتفاق مظلة دولية لتوسع النفوذ الإيراني من خلال تمويل وتسليح الميليشيات ونشرها في دول عربية عدة، وحماية لها أمام كل الدول المستهدفة والمتضررة من ذلك. فوق ذلك يعترف الاتفاق في نهاية مدته بإيران دولة على مشارف امتلاك سلاح نووي.
قارن ذلك مع ما حصل لليبيا والعراق فيما يتعلق بالقضية ذاتها. إذ أرغمت الولايات المتحدة معمر القذافي على تسليم مكونات برنامج أسلحة الدمار الشامل الليبية، وأسقطت نظام صدام حسين بعد اجتياح العراق بدعوى إخفائه برنامج أسلحة دمار شامل سرعان ما تبين أنه لا أساس لها. وهو ما يفرض سؤالا آخر يتكامل مع الأول عن اختلاف طريقة التعامل ومبررات هذا الاختلاف.
صحيفة الـ «نيويورك تايمز» الأميركية قدمت جواباً على السؤال الأول في تقرير لها الثلثاء الماضي. يصف التقرير قبول أوباما بالاتفاق النووي مع إيران بالمغامرة، وأن مبرره في ذلك صريح ومباشر. وهو أن الرئيس السابق «يعتبر أن إيران مرشحة لأن تكون حليفاً طبيعياً للولايات المتحدة أكثر من أي من الدول السنية المجاورة (كذا)». ومن ثم فإن تخلي إيران عن السلاح النووي سيمهد لتراجع عداوة معها استمرت ثلاثة عقود، بما يؤسس للعمل معها في مشاريع مشتركة ابتداء من هزيمة «داعش». لكن، كما تقول الصحيفة، لم تسفر الأمور عن أي شيء من ذلك. فقبل أشهر من اتضاح حظوظ ترامب في الانتخابات الرئاسية، كان الجيش الإيراني ضاعف من دعمه لبشار الأسد، ومن مد نفوذه داخل العراق، وزاد من دعمه للجماعات الإرهابية. بعبارة أخرى، تعاملت إيران مع الاتفاق النووي كغطاء لمد نفوذها، وليس كأساس للتعاون مع الولايات المتحدة كما كان يحلم باراك أوباما. المفارقة هنا أن نتيجة 12 سنة من المفاوضات وضعت المنطقة والعالم أمام اتفاق تبين أنه تأسس على منطقين متعارضين: واقعية سياسة إيرانية شرسة ترفض من حيث المبدأ فكرة التعاون مع أميركا، وآمال إدارة الرئيس أوباما بأن يكون الاتفاق مدخلاً لهذا التعاون. الأمر الذي يكشف عن هوة عميقة بين رؤيتين: رؤية أوباما التي تفصل نظرياً وعملياً بين الجانبين التقني والسياسي للاتفاق، ورؤية إيران التي تتفق نظرياً مع فكرة الفصل على الورق، وتمارس عكس ذلك تماماً على الأرض. أي أن عملية الفصل هذه جعلت من الاتفاق غطاء لسياسات إيران.
لنعد إلى فكرة أوباما بأن إيران مرشحة (بافتراض، كما يقول هو، أن الاتفاق النووي سيؤدي إلى تداعي نظام ولاية الفقيه الثيوقراطي) لأن تكون الحليف الطبيعي لأميركا أكثـــر من كل الدول السنية المجاورة. في حديث مطول له مع الصحـــافي الشهير جيفري غولدبيرغ على موقع «بلومبيرغ» في آذار (مارس) 2014؛ سئل أوباما عن رؤيته للفرق بين التطرف السني والتطرف الشيعي. يقول غولدبيرغ إن إجابة الرئيــــس كانت كاشفة. تجنب الحديث عن التطرف السني تماماً. بدلاً من ذلك جادل بأن النظام الشيعي الإيراني قابل للمنطق، ويستجيب للمحفزات والمصالح الذاتية. فوق ذلك قال أوباما عن السلوك الإيراني إنه استراتيجي، ولا يتسم بالانفعال. تفادي الرئيس السابق للحديث عن الجزء الآخر من السؤال كاشف هو الآخر لأنه يضمر بأن صفات ومنطلقات التطرف السني هي على العكس من التطرف الشيعي. المدهش في هذا الحديث أنه يفاضل بين صيغتين للتطرف ينتميان معاً لدين واحد، فضلاً عن أن الصيغة الشيعية هي الوحيدة التي جاءت (في إيران تحديداً) بأول نظام ثيوقراطي في الإسلام منذ 1400 سنة. كيف يمكن أن تتساكن الثيوقراطية مع منطق العقل، والرؤية العالمية للتاريخ؟ الشاهد هنا أن ما قاله أوباما قبل أربع سنوات يتكامل مع ما قالته الـ «نيويورك تايمز» الثلثاء الماضي، عن مبرراته للاتفاق النووي بالصيغة التي انتهى إليها.
هذا يعيدنا إلى سؤال اختلاف التعامل الأميركي مع العراق وليبيا من ناحية، ومع إيران من ناحية أخرى. وهو اختلاف يمتد عمره الآن لما يقرب من العقدين. ويوحي من بعيد بأن نظرة أوباما لكل من العرب والإيرانيين تنطوي على ملمح «إثني» مضمر. وهي رؤية ليست كما يبدو خاصة به، بل قد تكون منتشرة بين مكونات النخبة السياسية في واشنطن. لكن أوباما كان الوحيد من بين رؤساء أميركا الذي عبر عنها في شكل صريح ومباشر. وقد أكد عليها في الحديث نفسه بأنه ليس من مصلحة السعودية مثلا أن تفكر بامتلاك بنية نووية كتلك التي يخول الاتفاق النووي إيران بالاحتفاظ بها. لماذا؟ لأن الحماية الأميركية، كما يقول، أفضل من امتلاك مثل هذه البنية. لكن السعودية ترفض هذا الطرح تماماً، وهو ما أكده وزير الخارجية عادل الجبير مرات عدة آخرها الأسبوع الماضي، عندما قال لفضائية سي أن أن، أنه في حال امتلكت إيران لسلاح نووي، فإن السعودية ستعمل على امتلاك السلاح نفسه.
لعله من الواضح بأن الاتفاق النووي بمثل هذه المواصفات لم يتأسس على سياسة خارجية وأمنية متماسكة، وإنما على تصورات ثقافية مسبقة، وتطلعات وآمال سياسية منفصلة عن الواقع الإقليمي الذي يفترض أن يطبق فيه الاتفاق. وهو ما يعكس أبرز سمات إدارة أوباما: لديها مواقف سياسية وفكرية تجاه الشرق الأوسط وأوروبا مثلاً. لكنها تفتقر لسياسة خارجية واضحة. كان جل اهتمام أوباما من وراء الاتفاق تحقيق إنجاز لأرثه السياسي. ولم تكن تنقصه «الفذلكة» لتبرير ذلك فكرياً وسياسياً. من ناحيتهم كان الأوروبيون أكثر واقعية وانتهازية، ولا يزالون. ما يتطلعون إليه هو العودة إلى السوق الإيرانية. استمرار الإيرانيين في سياساتهم قبل وبعد الاتفاق يكشف هشاشة هذه الوثيقة الدولية، وينسف كل ما بنيت عليه. ليس مهماً أن وضع حد للاتفاق جاء على يد رئيس مثل ترامب. هذا نوع من اللغو، لا طائل من ورائه. المشكلة في الاتفاق ذاته من حيث أنه موقت يعترف في نهاية مدته بإيران دولة نووية، ولتغطية ذلك يفصل في شكل حاد وتعسفي في كل بند من بنوده بين التقني والسياسي، في موضوع لا يقبل هذا الفصل، وفي منطقة يتداخل فيها التقني والسياسي في شكل مركب. هذا فضلاً عن إيران لا تعترف بهذا الفصل، ولا ترى أنها ملزمة به. اتفاق مثل هذا نسف الاستقرار في المنطقة، ويهدد الاستقرار في العالم. المخرج الوحيد هو في تعديله. وانسحاب أميركا بحجمها هو أفضل خطوة لفرض هذا التعديل. لأنه يعطي الأوروبيين ورقة ضغط قوية أمام الإيرانيين لتحقيق ذلك. ما يقال إن الانسحاب يهدد بحرب بين إيران وإسرائيل نوع من التهويل. استراتيجية إيران تقوم على الحرب بالوكالة. لن تدخل في حرب مباشرة مع إسرائيل. تعرف أنها لا تحتمل ذلك عسكرياً، وسيضعها في مواجهة مع كل العالم. حقيقة الأمر أن الانسحاب الأميركي وضع إيران في مأزق لم تعرفه من قبل. قد تستغل إسرائيل الظرف وتفرض عليها حرباً تحاول تجنبها. قد تضحي بحلفائها، خصوصاً حزب الله في لبنان أمام إسرائيل. وقد تختار مخرجاً أفضل: التفاوض على تعديل الاتفاق ليصبح أكثر طبيعية وتوازناً. بدأت الأزمة مع إيران، ونهايتها تعتمد على خيارات إيران، ليس إلا.
* نقلا عن صحيفة الحياة