تحولت قضية استثمار القضايا العرقية والطائفية في منطقة الشرق الأوسط، لاسيما المشرق العربي، إلى ورقة من قبل الدول الإقليمية الكبرى التي تتطلع إلى الهيمنة والنفوذ والدور الإقليمي، فتركيا وتحت مبررات حماية أتراك قبرص غزت شمال جزيرة قبرص في عام 1974 واستوطن هناك قرابة ثلاثين ألف جندي، وأعلنت عن جمهورية قبرص التركية التي لم يعترف بها أحد على الرغم من مرور كل هذا الوقت.
وعندما انهار الاتحاد السوفييتي في مطلع تسعينيات القرن الماضي سرعان ما بادرت تركيا إلى مد جسور التواصل السياسي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي مع جمهوريات آسيا الوسطى (تركمانستان – أوزبكستان- كازاخستان – قرغيرستان – أذربيجان)، محاولةً استثمار هذه الجسور في بناء عالم تركي تتزعمه بوصفها تمثل الأب الروحي لجميع الأتراك في العالم، قبل أن تكتشف صعوبة هذه المهمة لأسباب كثيرة، أهمها الإمكانات السياسية للدولة التركية وعلاقة تركيا بالغرب، بعد أن انضمت مبكراً إلى حلف شمال الأطلسي "الناتو" في عام 1952، واتخذت من الغرب خياراً سياسياً استراتيجياً في تحديد بوصلتها السياسية، وهو ما استمر أيضاً حتى في ظل التغييرات الداخلية التي حصلت مع قدوم حزب العدالة والتنمية إلى السلطة منذ عام 2002.
مفارقات السياسة التركية
لعل المراقب لسياسة تركيا تجاه الأزمة السورية، ومن قبل العراق في مرحلة ما بعد الغزو الأمريكي في عام 2003، لابد أن يقف عند جملة مفارقات تتعلق بقضية استثمار الورقة التركمانية ومحاولة استغلال هذه الورقة في وجه قضيتها الكردية الداخلية وصراعها الدموي مع حزب العمال الكردستاني وفرعه السوري، أي حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، الذي بات يسيطر على مناطق واسعة شمال سوريا وشرقها، فعندما كانت علاقات تركيا جيدة بكل من بغداد ودمشق لم تكن تركيا تتحدث عن التركمان بوصفهم فئة مظلومة في هاتين الدولتين، ولم تكن تطرح نفسها أباً روحياً لهذه الأقلية التي عانت مثلها مثل باقي أعراق وفئات الشعبين العراقي والسوري من الحروب والأوضاع المأساوية في البلدين.
ولكن عندما غزت الولايات المتحدة العراق، وتوقع البعض إعلان الكرد دولة مستقلة في شماله، سرعان ما أعلنت تركيا أن تركمان العراق خط أحمر، وأنها لن تسمح للكرد بدخول مدينة كركوك. وكثيراً ما هددت بقلب الحدود على أهلها إذا تعرض التركمان لظلم من قبل الكرد.. وقتها أيضاً كانت تركيا تقول إنها لن تسمح للكرد ببناء كيان خاص بهم، وكثيراً ما هددت باجتياح الإقليم إذا ما أقدم الكرد على هذه الخطوة.
واليوم لم نعد نسمع من الحكومة التركية أي اهتمام أو حتى تصريحات بخصوص تركمان العراق، وهي على علاقة جيدة بكرد العراق، حيث تشتري تركيا النفط والغاز من إقليم كردستان، وتعمل آلاف شركاتها في الإقليم، وتستقبل رئيس الإقليم مسعود البرزاني بالسجاد الأحمر وتحت راية العلم الكردي؛ فيما تشهد علاقاتها توتراً غير مسبوق مع الحكومة العراقية المتحالفة مع إيران، بل ومع معظم دول الجوار الجغرافي.
هذه المفارقة أو الانقلاب دفع بأوساط حزبية وسياسية تركمانية عراقية إلى اتهام الحكومة التركية أكثر من مرة بخيانة التركمان والتخلي عن مطالبهم القومية بعد أن أسست لهم في عام 1995 الجبهة التركمانية العراقية لتكون رافعة سياسية لتحقيق مطالبهم القومية بدعم مباشر من أنقرة.
واليوم أيضاً، وبعد نحو خمس سنوات من انطلاق شرارة الأحداث في سوريا، وتحول ثورة المطالب السلمية إلى حرب مسلحة دمرت البلاد، بدأت تركيا تتحدث بقوة عن تركمان سوريا وحقوقهم، بل وتعلن استعدادها الدفاع عنهم في مناطقهم شمال محافظة اللاذقية. وقبل إسقاط الطائرة الروسية العسكرية حذرت تركيا مراراً روسيا من تواصل قصف طائراتها لمناطق التركمان، لاسيما جبل التركمان التي تطلق تركيا عليه (باير بوجاق).
وظهرت في الداخل التركي حملات تعبئة تدعو إلى التطوع للدفاع عن الأخوة التركمان في سوريا، حيث نظم حزب الوحدة الكبير العديد من الفعاليات لهذه الغاية. ولعل الأخطر من هذه التعبئة ظهور دعوات من قبل أطراف تركية قومية متطرفة تدعو إلى مراجعة وضع مناطق تركمان سوريا على اعتبار أن الاتفاقيات التي وقعت في عام 1921 مع فرنسا (الدولة المنتدبة على سوريا وقتها) ألحقت هذه المناطق بسوريا، وأنها تعد جزءاً من تركيا.
دلالات استخدام تركيا ورقة التركمان
يكشف صعود هذا الخطاب إلى واجهة السياسة التركية تجاه الأزمة السورية عن جملة من العوامل التي تتحكم بالسياسة التركية الخارجية تجاه المشرق العربي، وهي:ـ
1- وجود طموحات تركية تاريخية كامنة تجاه سوريا والعراق، وقد ظهر هذا الأمر إلى سطح الأحداث مع الحروب الجارية في البلدين وتفكك الجغرافيا السياسية لهما، بما يوحي بوجود إمكانية لتغير الخرائط الجغرافية في المنطقة. وفي هذا الصدد فإن تعزيز تركيا وجودها العسكري في بعشيقة بالموصل شمال العراق ورفضها سحب هذه القوات رغم مطالبة الحكومة العراقية مراراً بذلك، يكشف عن هذا الطموح المطمر تحت عقود من الزمن، حيث لم تنسى تركيا أن الموصل سُلِخَت منها بضغط بريطاني، وربما تفكر اليوم بأن تحريرها من "داعش" سيؤمن لها وجوداً دائماً هناك، ويعزز من نفوذها الإقليمي في مواجهة إيران المهيمنة على العراق.
2- إن الخطاب التركي المستجد تجاه تركمان سوريا والحديث عن مظلوميتهم بهذا الشكل القومي وتأسيس المجلس التركماني السوري في عام 2013، ومن ثم تأسيس كتائب تركمانية عسكرية تحت اسم "كتائب السلطان مراد" وغيرها، يكشف هشاشة مضمون الخطاب التركي تجاه باقي مكونات الشعب السوري، خاصة في ظل وقوف تركيا ضد الطموحات القومية الكردية في سوريا ومحاولاتها المستمرة لضرب وحدات حماية الشعب الكردية عبر دعم وتأليب الفصائل السورية المسلحة ضدها، ومحاولة إقصاء المكون الكردي من المشهد السياسي السوري المستقبلي.
وتكمن المفارقة هنا في أن هذا الاهتمام التركي المثير بتركمان سوريا لم يكن موجوداً من قبل، فتركيا لم تتحدث مرة واحدة عنهم طوال المرحلة الماضية، خاصة عندما كانت العلاقات بين رجب طيب أردوغان وبشار الأسد في سنوات العسل، حيث كان أردوغان يخاطب الأسد بالأخ، وكانت الزيارات المتبادلة بين الجانبين لا تتوقف، وكان الأسد يثق بشكل كبير في أردوغان إلى درجة أنه رفض أي وساطة غير تركية في مفاوضات عملية السلام مع إسرائيل عندما انبرت تركيا للتوسط بين الجانبين، وتحولت أنقرة إلى غرفة عمليات لهذه الغاية.
ومن مفارقات الخطاب التركي الداعي إلى الحرية وحقوق الأقليات في سوريا، أنه مقابل تبني أنقرة راية الدفاع عن تركمان سوريا إلى حد تأمين التغطية العسكرية لعمليات الكتائب التركمانية المسلحة، لاسيما كتائب السلطان مراد ودعمها بالأسلحة؛ فإنها تشن حرباً لا هوادة فيها ضد كرد سوريا، وتهددهم بالويل إذا واصلوا استكمال السيطرة على مناطقهم أو أقاموا لأنفسهم إقليماً على غرار إقليم كردستان العراق قبل أن تبني تركيا تحالفاً مع الإقليم الكردي.
ومن دون شك، فإن إظهار تركيا وكأنها معنية فقط بشؤون تركمان سوريا يكشف أولاً عن خطاب لا يتناسب والحديث التركي عن الحرية والحقوق لكل فئات الشعب السوري ضد النظام، إذ إن حضور البعد القومي (مع أن التركمان ليسوا بأتراك) على هذا النحو يضعف من مصداقية الخطاب التركي، ويوضح استخدام الأيديولوجيا القومية في الصراعات الإقليمية الجارية كما هو شأن من يستخدم الطائفية لتحقيق أهداف إقليمية.
وثانياً يشكل مثل هذا الخطاب حرجاً للتركمان أنفسهم بصفتهم مواطنين سوريين ينبغي أن يحصلوا على حقوقهم في الإطار السوري العام لا في إطار المشاريع التركية الإقليمية، فضلا عن أن مثل هذه السياسة تضعهم أمام واقع صعب أقله أنهم أصبحوا ضحية للصدام الروسي – التركي، حيث بات القصف الروسي لمناطقهم في شمال محافظة اللاذقية على أشده.
وعليه، فإن مجمل ما سبق يكشف عن فهم تركي خاطئ في كيفية بناء السياسة الخارجية، تارة باستخدام البعد الأيديولوجي الذي يقوم على دعم حركات الإسلام السياسي (الإخوان المسلمون)، وأخرى بإظهار نفسها الأم المدافعة عن التركمان وحقوقهم، فيما المطلوب أن تكون هذه السياسة تقوم على مرتكزات سياسية واقتصادية وقانونية تتفق والعلاقات بين الدول وتنسجم والقانون الدولي، كي تحقق أهدافها ولا تعمق من الشروخ والانقسامات في كل الاتجاهات.
ولعل استخدام تركيا عامل التركمان أو الشعوب التي لها أصول تركية، من الإيغور في شمال الصين إلى أتراك قبرص، مروراً بتركمان سوريا والعراق، كورقة لتحقيق طموحات إقليمية وسياسية لن يزيد سوى من مستوى الصدام بين تركيا وجوارها الجغرافي، نظراً لأن مثل هذه السياسة لن تستحضر سوى عوامل الصدام بين الدول والشعوب.