بدو أن فرنسا، وغيرها من الدول الأوروبية المعنية باستمرار العمل بالاتفاق النووي مع إيران، سوف تسعى إلى استغلال الفترة المتبقية قبل انتهاء المهلة التي حددتها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 12 مايو 2018، من أجل الوصول إلى حل وسط للخلافات العالقة بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية والتي عززت من احتمال انسحاب الطرفين من الاتفاق تباعًا خلال المرحلة القادمة، ما يمهد المجال أمام توقف العمل به.
وقد كان الاتفاق أحد المحاور الرئيسية في المحادثات التي أجراها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في واشنطن، في 24 إبريل الجاري، حيث تقوم المقاربة الفرنسية الجديدة، في الغالب، على مطالبة إيران بضرورة الوصول إلى اتفاق تكميلي للاتفاق النووي، مقابل إقناع إدارة ترامب بمنح فرصة أخيرة للاتفاق وتأجيل اتخاذ قرار الانسحاب.
ومن هنا، يرجح أن تعمد فرنسا، وربما بريطانيا وألمانيا، خلال الأسبوعين القادمين، إلى ممارسة ضغوط جديدة على إيران من أجل الموافقة على إجراء مفاوضات جديدة حول النقاط التي تبدي إدارة ترامب تحفظات عديدة تجاهها وتهدد بالانسحاب من الاتفاق النووي بسببها، على غرار ما يعرف بـ"بند الغروب النووي" وتطوير برنامج الصواريخ الباليستية وفرض رقابة صارمة على المنشآت النووية إلى جانب الدور الإقليمي.
ويبدو أن تعمد ماكرون، في نهاية زيارته لواشنطن، التلميح إلى أن ترامب قد ينسحب من الاتفاق، يمثل محاولة من جانبه لدفع طهران نحو العمل على استيعاب التحفظات الأمريكية قبل أن يقدم على اتخاذ تلك الخطوة بالفعل.
ومع ذلك، لا تتوافر مؤشرات تكشف عن احتمال دعم طهران وواشنطن لهذه الجهود الأوروبية، لاعتبارات ترتبط بالتوازنات الداخلية الإيرانية ورؤية واشنطن لما يمكن أن تصل إليه هذه الجهود من نتائج في النهاية.
خيارات طهران:
لا تمتلك حكومة الرئيس حسن روحاني خيارات كثيرة في التعامل مع المقاربة الجديدة التي قد تتبناها باريس في الأيام القادمة، حيث لا تستطيع في المرحلة الحالية الدعوة إلى قبولها وإجراء مفاوضات جديدة مع الدول الغربية من أجل الوصول إلى اتفاق تكميلي يعالج النقاط الخلافية في الاتفاق الحالي.
ومن دون شك، فإن ذلك يعود إلى أن دعمها لهذا الاتجاه سوف يعرضها لحملة قوية من جانب النظام، الذي يضع خطًا أحمر أمام مواصلة التفاوض مع واشنطن، وبدأ في توجيه تهديدات بتطوير البرنامج النووي مرة أخرى لاستعادة المستويات التي كان عليها قبل الوصول للاتفاق النووي، خاصة ما يتعلق برفع نسبة تخصيب اليورانيوم إلى 20% بدلاً من 3.5%, التي تلتزم بها إيران في الوقت الحالي وفق ما يقتضيه الاتفاق النووي.
من هنا، اتجهت حكومة روحاني إلى محاولة الترويج داخل الولايات المتحدة الأمريكية نفسها إلى ضرورة الحفاظ على الاتفاق باعتبار أنه يتوافق مع مصالح جميع الأطراف المعنية به.
وفي هذا السياق، قام وزير الخارجية محمد جواد ظريف بإلقاء كلمة في مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي في واشنطن، لم يستبعد من خلالها إجراء حوار مع الولايات المتحدة الأمريكية في المرحلة القادمة، حيث ربط ذلك بـ"ضرورة توافر الاحترام المتبادل"، وحاولة تحسين صورة إيران باعتبارها طرفًا ساعد في الانتصار على تنظيم "داعش" في الدول التي سيطر على مناطق رئيسية فيها.
ويبدو أن ظريف سعى من خلال ذلك إلى محاولة إقناع الإدارة الأمريكية بالتوقف عن توجيه انتقادات شديدة للنظام في إيران، بسبب تطويره لبرنامج الصواريخ الباليستية وتدخله في الشئون الداخلية لدول المنطقة، بشكل قد يعزز من قدرة الحكومة الإيرانية ووزارة الخارجية على الترويج لإمكانية الدخول في حوار جديد معها، دون أن تغامر في تلك اللحظة بالتعرض لضغوط قوية من جانب مؤسسات النظام المتشددة والرافضة لهذا الحوار من الأساس.
لكن خطاب ظريف قوبل بحملة تنديد قوية في الداخل انعكست في المقال الافتتاحي في صحيفة "كيهان"، في 25 أبريل الجاري، والذي ألمح إلى أن زيارة ظريف للولايات المتحدة الأمريكية ربما كان لها أهداف خفية لا تتسق مع الاتجاهات العامة للسياسة التي تتبناها إيران في الوقت الحالي تجاه الخلافات العالقة مع الولايات المتحدة الأمريكية.
ففي رؤية الصحيفة، فإن خطاب ظريف كان دفاعيًا إلى حد كبير، بسبب الضغوط التي تتعرض لها إيران والانتقادات التي توجه إليها من جانب قوى إقليمية ودولية عديدة، وكان يسعى فقط إلى تعزيز فرص دعم الاتفاق النووي رغم التهديدات والضغوط المستمرة من جانب الإدارة الأمريكية.
مثل هذه الضغوط توجه رسالة مهمة إلى حكومة روحاني مفادها أن الخيارات المتاحة أمامها ليست متعددة في مساعيها لحماية الاتفاق النووي من خطر الانهيار، وأن من الأفضل دعمها للضغوط المقابلة التي يحرص النظام على ممارستها ضد الدول الغربية الساعية إلى إجراء مفاوضات جديدة للوصول إلى اتفاق تكميلي.
وقد كان لافتًا بالفعل أن النظام حرص على تصعيد حدة تلك الضغوط بالتزامن مع زيارة ماكرون إلى واشنطن، خاصة ما يتعلق بإمكانية العودة مرة أخرى إلى رفع مستوى الأنشطة النووية، من أجل تعزيز محاولات الأخير لإقناع ترامب بضرورة عدم الإقدام على اتخاذ قرار الانسحاب منه.
ويبدو أن ذلك دفع الرئيس حسن روحاني إلى التأكيد مجددًا على عدم وجود تباينات بين حكومته ومؤسسات النظام الأخرى، على نحو بدا جليًا في تحذيره الرئيس الأمريكي، في اليوم نفسه الذي التقى فيه ماكرون من أن "خيانة الاتفاق ستفرض عواقب وخيمة"، فضلاً عن انتقاداته اللاذعة لترامب، حيث وصفه بأنه "تاجر" و"غير مؤهل للتعليق على الاتفاقات الدولية"، رافضًا فكرة تعديل الاتفاق النووي.
غموض موقف واشنطن:
اللافت أيضًا أنه رغم الإصرار الأمريكي على ضرورة تعديل الاتفاق الحالي، إلا أن واشنطن لم تبد أية إشارات قد تكشف عن استعدادها لقبول أى نتيجة إيجابية ربما تحققها الجهود الحالية التي تبذلها فرنسا بدعم من جانب بعض الدول الأوروبية الأخرى.
وبمعنى أدق، فإن الإدارة الأمريكية لم توضح رد الفعل المتوقع من جانبها في حالة ما إذا نجحت المساعي الأوروبية في إقناع طهران، على سبيل المثال، بـ"مناقشة" بعض التحفظات الأمريكية دون غيرها، على غرار إطالة أمد القيود المفروضة على بعض أنشطتها النووية لتتجاوز المدى الحالي المنصوص عليه في الاتفاق والذي ينتهي في عام 2025، أو توسيع نطاق عمليات التفتيش التي تقوم بها الوكالة الدولية، حيث يصعب تصور قبول إيران للتوقف عن تطوير برنامجها الصاروخي أو مواصلة دعم حلفاءها في المنطقة.
إذ أن النظام الإيراني سوف يواجه صعوبات لا يمكن تجاهلها في تمرير ذلك داخليًا بعد أن رفع سقف رفضه للضغوط الأمريكية والأوروبية التي يتعرض لها بشكل غير مسبوق خلال الفترة الماضية. فضلاً عن أن العديد من المؤسسات النافذة داخله، خاصة الحرس الثوري، سوف تعتبر أن دعم الوصول إلى حلول وسط في تلك القضايا الخلافية سوف يدفع الولايات المتحدة الأمريكية، وربما الدول الأوروبية في مرحلة لاحقة، إلى تبني السياسة نفسها للحصول على تنازلات جديدة من جانب إيران في ملفات أخرى.
وانطلاقًا من ذلك، يمكن القول في النهاية إن الأيام المقبلة التي تسبق انتهاء المهلة الحالية قد تشهد تحركات أوروبية حثيثة لإنقاذ الاتفاق النووي، دون أن تتوافر مؤشرات، على الأقل حتى الآن، توحي بأنها قد تنجح في تحقيق ذلك، في ظل استمرار الفجوة في المواقف التي تتبناها كل من إيران والولايات المتحدة الأمريكية.