تبدي تركيا اهتمامًا خاصًا بتطوير علاقاتها مع الدول الإفريقية، وهو ما انعكس في الجولات المتعددة التي قام بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى بعض تلك الدول. فبعد شهرين من الزيارات التي أجراها وشملت كلاً من السودان وتشاد وتونس في الفترة من 24 و27 ديسمبر 2017، بدأ جولة أخرى في الفترة من 26 فبراير و2 مارس 2018، زار خلالها كلاً من الجزائر وموريتانيا والسنغال ومالي.
ورغم أهمية المتغير الاقتصادي في تفسير أسباب هذا الاهتمام، إلا أنه لا ينفي أن ثمة عوامل أخرى كان لها دور رئيسي في هذا السياق، على غرار اتساع نطاق الخلافات بين تركيا وبعض القوى الإقليمية والدولية المعنية بأزمات منطقة الشرق الأوسط، وتراجع قدرتها على تحقيق أهدافها داخل سوريا، وتصاعد حدة المشكلات التي تواجه اقتصادها، وتزايد التوجهات الرافضة لتدخلاتها في الشئون الداخلية لدول المنطقة.
أسباب متعددة:
يمكن تفسير أسباب اهتمام تركيا بتطوير علاقاتها مع الدول الإفريقية في ضوء عوامل عديدة يتمثل أبرزها في:
1- تأسيس شراكة استراتيجية: وهو ما عبرت عنه خطوات عديدة اتخذتها أنقرة في الفترة الماضية. فقد أعلنت 2005 عام إفريقيا، وعقد أول مؤتمر للشراكة التركية- الإفريقية باسطنبول في عام 2008، حيث حصلت تركيا على وضع الشريك الاستراتيجي للاتحاد الإفريقى. كما عقدت القمة التركية- الإفريقية الثانية فى غينيا الاستوائية في نوفمبر 2014، ويخطط الجانبان لعقد قمة ثالثة بتركيا في عام 2019.
وكان لافتًا أن جولة أردوغان في بداية العام تزامنت مع مرور 10 أعوام على حصول تركيا على وضع الشريك الاستراتيجى للاتحاد الإفريقى، حيث سبقتها استضافة اسطنبول يومى 11 و12 فبراير 2018 للمؤتمر الوزاري الثاني لمراجعة الشراكة بين تركيا وإفريقيا.
2- استيعاب الضغوط: تسعى تركيا نحو تأسيس علاقات مع أقاليم مختلفة من القارة الإفريقية، حيث تضمنت الجولة الأخيرة لأردوغان زيارة دول من الشمال الإفريقي، على غرار الجزائر، التي وصفها بأنها "جزيرة استقرار سياسي واقتصادي في منطقة البحر الأبيض المتوسط وإفريقيا". كما امتدت لتشمل دولتين من غرب إفريقيا، وهما السنغال ومالي.
ويبدو من خلال ذلك أن تركيا تحاول عبر تطوير علاقاتها مع دول القارة استيعاب الضغوط القوية التي يفرضها وصول التوتر مع القوى الدولية المعنية بأزمات المنطقة، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية، إلى مرحلة غير مسبوقة، نتيجة التباين في التعامل مع العديد من الملفات الإقليمية التي تحظى باهتمام مشترك.
3- توسيع نطاق التعاون الاقتصادي: تحاول تركيا رفع مستوى العلاقات الاقتصادية مع الدول الإفريقية، خاصة أن بعض تلك الدول دخلت قائمة الاقتصادات الأسرع نموًا على مستوى العالم، فضلاً عن أن القارة تمتلك إمكانيات جاذبة للشراكة الاقتصادية، سواء على مستوى التبادل التجاري أو على صعيد التدفق الاستثمارى، في ظل اتساع السوق الإفريقية وتزايد معدلات القوة الشرائية.
وتعد الجزائر الشريك التجاري الأول لتركيا في إفريقيا، حيث تأتى في المرتبة الرابعة للدول المُصدِّرة للغاز إلى تركيا بعد كل من روسيا وأذربيجان وإيران. وحسب تقديرات عديدة، تمثل صادرات الطاقة نحو 97% من جملة الصادرات الجزائرية إلى تركيا. ومن هنا يمكن تفسير أسباب اهتمام أنقرة والجزائر بإبرام 7 اتفاقيات ومذكرات تفاهم فى مجالات عديدة شملت الدبلوماسية والنفط والغاز والزراعة والسياحة والتعليم العالي، خلال الزيارة الأخيرة لأردوغان.
وقد طالب أردوغان رئيس وزراءه بينالي يلدريم، خلال اجتماعات مجلس رجال أعمال البلدين، بضرورة رفع حجم التبادل التجاري من 3.5 مليار دولار حاليًا إلى 5 مليار دولار كمرحلة أولى وصولاً إلى 10 مليار دولار بعد ذلك. ووفقًا لبيانات الوكالة الوطنية لتطوير الاستثمار في الجزائر، فإن تركيا تتصدر قائمة الاستثمارات الأجنبية خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2017.
وحسب تقارير عديدة، وقعت تركيا والسنغال على 28 اتفاقية، فيما وصل حجم التبادل التجاري بين الدولتين إلى 430 مليون دولار سنويًا. وأبرمت تركيا ومالي 8 اتفاقيات، شملت مجالات تعزيز الاستثمار والتعاون في تكنولوجيا المعلومات والطاقة والهيدروكربونات والمناجم والمعادن والصحة والتعليم والرياضة والخدمات الدينية.
4- تعميق التعاون العسكرى: تسعى أنقرة إلى تطوير علاقاتها العسكرية مع بعض الدول الإفريقية، على نحو انعكس في افتتاح القاعدة العسكرية التركية بالصومال في سبتمبر 2017، والتي تضم ثلاث مدارس للتدريب العسكري إلى جانب مخازن للأسلحة والذخيرة، وبلغت تكلفتها المالية ما يقرب من 50 مليون دولار.
5- محاصرة حركة "جولن": تمثل محاصرة حركة "خدمة" التي أسسها فتح الله جولن محورًا رئيسيًا في جدول أعمال أردوغان خلال زياراته للدول الإفريقية، التي شهدت نشاطًا ملحوظًا للحركة خلال الفترة الماضية. وقد دعا أردوغان إلى إغلاق المؤسسات التابعة للحركة، وهو ما تجاوبت معه بعض الدول الإفريقية، فيما توصلت دول أخرى إلى اتفاق مع تركيا على نقل إدارتها إلى المؤسسات التابعة للأخيرة.
عقبات مختلفة:
تواجه مساعي تركيا لتطوير علاقاتها مع الدول الإفريقية عقبات عديدة لا تبدو هينة. يتمثل أولها، في تزايد التحفظات التي تبديها العديد من الاتجاهات داخل دول القارة إزاء الأهداف التي تسعى تركيا إلى تحقيقها من خلال ذلك، وحرصها على استخدام آليات أيديولوجية وتاريخية في هذا السياق، على نحو أدى إلى تصاعد حدة الجدل بين بعض التيارات الليبرالية والإسلامية داخل عدد من تلك الدول تجاه المسارات المحتملة للعلاقات مع تركيا.
وقد بدا ذلك جليًا في الجزائر، حيث رفضت تيارات علمانية زيارة أردوغان واعتبرت أنه "غير مرحب به" بسبب الإجراءات التي اتخذها تجاه القوى المعارضة له، فيما استعادت اتجاهات أخرى الذاكرة التاريخية لوصف السياسة التركية في سياق تحفظاتها العديدة إزاءها، في حين أبدت حركة "مجتمع السلم" ترحيبها بالزيارة واستنكرت بالتوازي مع ذلك "الابتهاج" بالزيارة التي أجراها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في ديسمبر 2017.
وينصرف ثانيها، إلى تزايد المخاوف الإفريقية تجاه احتمال انتقال الصراعات المذهبية وتعقيداتها إلى الساحة الإفريقية، لا سيما أن تركيا، على غرار دول أخرى، تسعى إلى استقطاب تيارات مؤيدة لوجودها داخل تلك الدول، من خلال تأسيس مراكز ثقافية وتعليمية وتقديم خدمات اجتماعية في هذه الدول، بما يعني أن الاتجاهات التي تبدي تلك المخاوف ترى أن السياسة التركية كانت سببًا رئيسيًا في تفاقم تلك الصراعات وعرقلة جهود تسويتها.
ويتعلق ثالثها، بمدى قدرة تركيا على موازنة نفوذ العديد من القوى الدولية، على غرار فرنسا، التي تبدي بدورها اهتمامًا خاصًا بتطوير علاقاتها مع دول القارة، وربما ترى أن الأنشطة التي تقوم بها أنقرة قد تؤثر على مصالحها، أو على الأقل لا تتوافق معها. وبالطبع، لا يمكن فصل ذلك عن اتساع نطاق الخلافات بين أنقرة وباريس حول بعض الملفات، وكان آخرها العملية العسكرية التي تقوم بها تركيا في عفرين، والتي أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في 31 يناير 2018، على أهمية عدم تحولها إلى "ذريعة لغزو سوريا"، وهو ما يمثل مؤشرًا جديدًا يكشف عن اتساع فجوة الثقة بين تركيا والدول الأوروبية بشكل عام خلال الفترة الماضية.
وعلى ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إنه رغم المساعي التي تبذلها تركيا من أجل تطوير علاقاتها مع دول القارة الإفريقية، إلا أن اتجاهات سياستها الخارجية التي تسببت في توسيع نطاق خلافاتها مع العديد من القوى الدولية والإقليمية المعنية بالمنطقة قد تضع حدودًا لقدرتها على تحقيق ذلك.