لم يتمكن مؤتمر ميونخ للأمن الذي عُقد في منتصف فبراير 2018 من خفض حدة التوترات وتقليل احتمالات الصدام بين القوى الإقليمية والدولية؛ إذ هيمن على المؤتمر مظاهر متعددة للتصعيد، مثل: المواجهات الثنائية، والخطابات العدائية، والاتهامات المتبادلة، في ظل عدم الثقة المتصاعدة بين الحلفاء، والتعنت في الدفاع عن المصالح، ورفض التوصل لحلول وسطى، والدفاع عن الوضع الراهن، وهو ما أدى للتوصل لاستنتاج مفاده أن أنماط "دبلوماسية المسارات المتعددة" (Multi-Track Diplomacy) التي يعد المؤتمر أحد مظاهرها لم تعد تتمتع بالفاعلية في مواجهة الصراعات والتوترات العالمية.
مداخل استيعاب التناقضات:
أدى تصاعد الاستقطاب العالمي، وتراجع قدرة الدبلوماسية الرسمية على استيعاب تعقيدات الصراعات الدولية، إلى طرح مسارات بديلة للتواصل بين الفاعلين الدوليين وتسوية القضايا الخلافية، ففي ثمانينيات القرن الماضي طرح عدد كبير من الدبلوماسيين ومنظري العلاقات الدولية مفهوم "دبلوماسية المسار الثاني" (Track Two Diplomacy) والذي يشمل التفاعلات غير الرسمية بين الفاعلين من غير الدول حول القضايا الخلافية لدولهم، وتهدف للتأثير في توجهات الرأي العام بما يُسهم في تفكيك الصور الذهنية السلبية حول الصراعات.
وتشمل "دبلوماسية المسار الثاني": الدبلوماسية غير الحكومية، والاتصال والأنشطة غير الرسمية التي تتم بين الفاعلين من غير الدول. وتوصف بأنها "تحويلية" (Transformative)، حيث إنها تسعى لتغيير التصورات المتبادلة لدى أطراف النزاع، وتحفيز التحول من الاعتماد على القوة في إدارة الصراع إلى البحث عن سبل للتعاون والتوفيق بين المصالح والحلول الوسطى.
ومنذ طرح هذا المفهوم، تعددت الرؤى حول المسارات البديلة للدبلوماسية والتي انتهت بطرح مفهوم أكثر شمولًا وهو "دبلوماسية المسارات المتعددة" (Multi-Track Diplomacy) الذي طرحته "لويز دايموند" في تسعينيات القرن الماضي، ويقصد بها التزامن بين عدة مستويات للتفاعل بين المسئولين الرسميين والفاعلين من غير الدول والأفراد لدعم التواصل بين السياسيين والنخب والمواطنين في الدول المنخرطة في الصراعات والتوترات في ذات التوقيت.
ولقد حدد السفير "جون ماكدونالد" و"لويز دايموند" ما يُقدر بحوالي 9 مسارات للدبلوماسية تشمل: التواصل بين ممثلي الحكومات والمنظمات غير الحكومية ورجال الأعمال والأفراد والأكاديميين والباحثين والنشطاء ورجال الدين والمؤسسات التمويلية والإعلام، بحيث تؤدي التفاعلات بين المجموعات المختلفة إلى تخفيف التصعيد ومواجهة تعقيدات الصراعات وخفض حدة التوترات بين الفاعلين المنخرطين في الصراعات.
ويُعد "مؤتمر ميونخ للأمن" نموذجًا على التفاعل بين المستويات الرسمية وغير الرسمية في المناقشة حول كيفية خفض حدة التوترات العالمية ومواجهة تهديدات الصراعات الإقليمية والدولية، حيث يعد المؤتمر منصة فريدة لبحث القضايا الأمنية بين ممثلي الحكومات والنخب والفاعلين من غير الدول، وطرح حلول غير تقليدية للتوفيق بين المصالح المتعارضة.
وشهدت الجولة 54 من المؤتمر والتي انتهت في 18 فبراير 2018 مشاركة كثيفة من جانب مختلف الفاعلين، وكان من بين الحضور 21 رئيس دولة وحكومة، من بينهم: تيريزا ماي، ورئيس الوزراء الفرنسي إدوارد فيليب، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بالإضافة إلى ما يزيد على 75 من وزراء الخارجية والدفاع، وأكثر من 500 مشارك من الدوائر غير الرسمية من جميع أنحاء العالم. إلا أن طبيعة المشاركات قد كشفت عن احتدام الصراعات الدولية والإقليمية، وصعوبة التوصل إلى حلول توفيقية تراعي مصالح الفرقاء واستيعاب التناقضات بين الأطراف المختلفة.
انحسار عصر الدبلوماسية:
صدر "تقرير ميونخ للأمن" قبل انعقاد المؤتمر، وطرح رؤية غير متفائلة لحالة الأمن العالمي، حيث جاء التقرير تحت عنوان "إلى حافة الهاوية – والعودة" (To The Brink- and Back)، مؤكدًا أن العالم كاد أن يشهد تفجر صراعات دولية وإقليمية غير قابلة للسيطرة نتيجة للتوترات حول قضايا، مثل: الملف النووي لكوريا الشمالية، والصدام بين روسيا وحلف شمال الأطلسي، وصراعات النفوذ بين الولايات المتحدة من جانب وروسيا والصين من جانب آخر، وسياسات الهيمنة الإيرانية في الشرق الأوسط.
وفي ختام المؤتمر، أقر "فولفجانج إيشنجر"، رئيس مؤتمر ميونخ للأمن، بأن المشاركين في المؤتمر ركزوا فقط على طرح المخاطر والتهديدات العالمية دون أن يقدموا حلولًا وخطوات عملية لمواجهتها، وتمثلت أهم مظاهر حالة التوتر والتصعيد التي سادت المؤتمر فيما يلي:
1- المواجهات الثنائية: شهد مؤتمر ميونخ مواجهات ثنائية متعددة بين المشاركين، حيث هاجم رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو" في كلمته إيران، ووصفها بأنها التهديد الأكبر للعالم، ورفع نتنياهو قطعة معدنية من حطام الطائرة بدون طيار التي تم إسقاطها منذ أسابيع في حركة وصفتها الصحافة العالمية بالمسرحية، متهمًا إيران بتوجيه هجمات ضد تل أبيب، ورد وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف (ممثل إيران في مؤتمر ميونخ) على خطاب نتنياهو ووصفه بأنه "سيرك هزلي لا يستحق الرد عليه".
كما حدثت مواجهة ثنائية أخرى بين وزير الخارجية التركي "مولود جاويش أوغلو" والمسئولين الألمان في ظل العداء الشديد بين "أوغلو" وزعيم حزب الخضر الألماني "جيم أوزدمير" الذي ينتمي لأصول تركية والذي وجه انتقادات حادة في مناسبات عديدة لسياسات تركيا الداخلية، وقمع حكومة حزب العدالة والتنمية للمعارضة، وملاحقة الصحفيين، وهو ما دفع الشرطة الألمانية لحماية "أوزدمير" خشية أن يتعرض للاعتداء من جانب الحرس التركي المصاحب لوزير الخارجية.
2- الخطابات العدائية: تبنّى بعض المشاركين في المؤتمر خطابًا عدائيًّا تجاه دول الجوار، ففي خضم دفاعه عن التدخل العسكري التركي في عفرين، هاجم وزير الخارجية التركي الأمين العام لجامعة الدول العربية "أحمد أبو الغيط" بعد مطالبته أنقرة بالانسحاب من سوريا، ورد "أوغلو" بلهجة عدائية تضمنت اتهامات متعددة للدول العربية، وهو ما دفع المتحدث الرسمي باسم الأمين العام لجامعة الدول العربية لانتقاد "الرد العصبي وغير المبرر" لوزير الخارجية التركي، قائلًا إن "المداخلة الانفعالية للوزير التركي تعكس نوعًا من المزايدة، وتنطوي على استعلاء ليس غريبًا على تيار العثمانية الجديدة الذي نعرف جميعًا ما يُكنِّه للعالم العربي من مشاعر".
3- الاتهامات المتبادلة: تبادل عدد كبير من المشاركين في المؤتمر اتهامات بتهديد الأمن وإثارة الاضطرابات السياسية، حيث اتهم مستشار الأمن القومي الأمريكي "هيربرت ماكماستر" روسيا بالتدخل في انتخابات الرئاسة الأمريكية في عام 2016، مؤكدًا أن تقرير لجنة التحقيق التابعة لمكتب التحقيقات الفيدرالي يتضمن أدلة قاطعة على التدخل الروسي، وهو ما نفاه المسئولون الروس المشاركون في المؤتمر.
وحذّر وزير الخارجية الألماني "زيجمار جابريل" من التداعيات السلبية للسعي الصيني للقيام بدور قيادي في العالم، واستخدام روسيا للقوة العسكرية في العلاقات الدولية، متهمًا الدولتين بمحاولة تقسيم أوروبا. واتهم الرئيس الأوكراني "بترو بوروشنكو" موسكو بتهديد أمن القارة الأوروبية، ورفض مقترحات تخفيف العقوبات على روسيا بسبب تسليح روسيا للمتمردين في شرق أوكرانيا.
وفي المقابل، وجه وزير الخارجية الروسي "سيرجي لافروف" انتقادات متعددة للدول الغربية، من بينها اتهام حلف الناتو بعدم تجاوز مرحلة الحرب الباردة، والإعراب عن قلقه من عودة النازية إلى الدول الأوروبية، وتحميل الولايات المتحدة مسئولية تأجيج سباق تسلح نووي عالميّ، بالإضافة للرد بحدة على الاتهامات بالتدخل في الانتخابات بالدول الغربية أو محاولة تقويض الديمقراطيات الغربية، وقال لافروف في هذا الصدد: "سوف نعمل قدر الإمكان على توضيح موقفنا في ظل هوس الزملاء الغربيين غير الواضح حيال الأمن والتجسس الإلكتروني".
4- تفكك التحالفات: بدت مظاهر عدم الثقة واضحة بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين خلال المؤتمر، حيث أشار رئيس مؤتمر ميونخ "فولفجانج إيشينجر" إلى تراجع دور الولايات المتحدة كقوة ضامنة للأمن في القارة الأوروبية، متهمًا سياسات الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" بزعزعة استقرار النظام الدولي، وهو ما يفرض على الدول الأوروبية صياغة سياسة أمنية مشتركة. وتبنى وزير الخارجية الألماني "زيجمار جابريل" ذات التوجه بتصريحاته حول غياب الثقة في الإدارة الأمريكية تحت قيادة الرئيس "دونالد ترامب" قائلًا: "لم نعد متأكدين مما إذا كان لا يزال بإمكاننا التعرف على الولايات المتحدة، هل هي الأفعال أم الأقوال أم التغريدات التي يجب أن نقيم على أساسها الولايات المتحدة؟".
5- عسكرة السياسات: تضمن المؤتمر تركيزًا كبيرًا على توظيف القوة العسكرية في مواجهة التهديدات الخارجية، وهو ما ظهر في تصريحات رئيس الوزراء البولندى "ماتيوش مورافيتسكي" الذي قال إن أوروبا "لا تحتاج لمراكز بحوث جديدة، ولكن لعدد أكبر من الدبابات"، مؤكدًا أهمية امتلاك عدد أكبر من منظومات تسلح لمواجهة التهديدات الروسية، كما هدد رئيس الوزراء الإسرائيلي باستخدام القوة العسكرية في مواجهة إيران وحلفائها في سوريا ولبنان، مؤكدًا أن تل أبيب "ستتحرك ضد إيران إذا لزم الأمر وليس ضد وكلائها فحسب"، كما تضمنت تصريحات مستشار الأمن القومي الأمريكي "هيربرت ماكماستر" تهديدات مماثلة لطهران ردًّا على تهديداتها لأمن الشرق الأوسط.
دوافع التصعيد المتبادل:
لم يتمكن مؤتمر ميونخ للأمن من احتواء التصعيد المتبادل بين القوى الإقليمية والدولية، فخطابات "اللوم المتبادل" والتركيز على تناقضات المصالح أثرت سلبًا على المفاوضات واللقاءات الثنائية التي عُقدت على هامش المؤتمر بين المسئولين السياسيين والتي تطرح خلالها رؤى متعددة حول كيفية مواجهة التهديدات وتسوية الخلافات واحتواء التوترات الدولية والتوفيق بين المصالح المتعارضة. ولا ينفصل ذلك عن هيمنة المسؤولين السياسيين الرسميين على فعاليات المؤتمر في مقابل تراجع أدوار المشاركين غير الرسميين من ممثلي النخب السياسية والفكرية والإعلامية والفاعلين من غير الدول مقارنة بتمتعهم بمساحات أوسع للحركة في الأعوام الماضية.
وترجع أجواء التوتر التي سادت المؤتمر إلى تصاعد أزمات الثقة بين القوى الدولية والإقليمية، خاصة بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة في إطار حلف الناتو، وهو ما جعل سياسات الاعتماد على الذات والبحث عن بدائل أمنية أوروبية للحلف هي المهيمنة على مداخلات قادة وممثلي الدول الأوروبية الذين أكدوا استمرار الاتحاد الأوروبي في تطبيق سياسات تحقق الاستقلالية العسكرية في مواجهة التهديدات الإقليمية كرد فعل على تصريحات وسياسات الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" التي تطالب أوروبا بتحمل تكلفة الأمن.
وقد فسّرت "جوليان سميث" مدير برنامج الاستراتيجية في مركز الأمن الأمريكي الجديد، فشل مؤتمر ميونخ بفقدان الولايات المتحدة للشجاعة والقيادة، وذلك في مقالها المنشور بمجلة "الفورين بوليسي" في 20 فبراير 2018، حيث كشفت مداخلات المسئولين الأمريكيين عن انحسار الدور العالمي للولايات المتحدة، ووجود حالة من الفوضى والاضطراب داخل النظام الأمريكي منذ وصول "ترامب" إلى سدة الرئاسة، كما أن الدول الغربية لم تمتلك رؤى تُساعد على حل الأزمات القائمة، وكانت أقصى طموحاتها تتمثل في الدفاع عن الوضع الراهن قدر الممكن.
ويتفق مع هذا التفسير"نيكولاس جفوسديف" في مقاله المنشور بمجلة "ناشيونال إنترنست" الأمريكية في 23 فبراير 2018 تحت عنوان "مؤتمر ميونخ يصارع إلقاء الولايات المتحدة لأعبائها"، ويقصد بذلك عدم قدرة الولايات المتحدة على الاستمرار في تحمل التكلفة الضخمة للقيادة العالمية، وأنه أصبح من الواضح أن الولايات المتحدة باتت تفاوض على معايير جديدة لانخراطها في الشئون العالمية تضمن تخلّيها عن الأعباء الأمنية العالمية والمسئوليات التي لم تعد قادرة على تحمل تكلفتها.
ووفقًا لريتشارد هاس فإن أجواء توترات الحرب الباردة باتت تسيطر على التفاعلات الدولية، ففي مقاله المنشور على موقع "بروجيكت سنديكيت" في 23 فبراير 2018 بعنوان "الحرب الباردة الثانية" أشار "هاس" إلى أن حالة التصعيد الراهنة وتناقضات المصالح بين روسيا والدول الغربية جعلت تفجر الحرب الباردة من جديد أمرًا حتميًّا في ظل تطلع الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" لاستعادة المكانة التاريخية لروسيا في النظام العالمي، وتراجع قدرة الولايات المتحدة على تحمل أعبائها العالمية.
وفي المقابل، استغلت الصين الفراغ الذي نجم عن الانسحاب الأمريكي من الشئون الدولية لتقديم نفسها كقوة قادرة على استعادة التوازن العالمي، وهو ما أطلقت عليه "تشارلوت جاو" الخبيرة الأمريكية في الشئون الآسيوية "دبلوماسية الصين الناعمة في مؤتمر ميونخ للأمن"، حيث تبنى المسئولون الصينيون في مداخلاتهم خلال المؤتمر خطابًا متزنًا يقوم على التهدئة وتجنب التورط في التصعيد المتبادل بين روسيا والدول الغربية، وأكدت الصين خلال المؤتمر تطلعها لنظام عالمي يقوم على التكامل بين الدول في تحقيق المصالح المشتركة، وتجاوز التوترات بين القوى الدولية، كما أكدت تمسكها بمبدأ "عدم الاستخدام الأول" للأسلحة النووية، والذي يقتصر -وفق بكين- على الرد على هجوم نووي من جانب قوى معادية.
إجمالًا، كشفت مداخلات المشاركين في المؤتمر عن أن التناقضات الإقليمية والدولية والمصالح المتعارضة أصبحت أكبر من أن يتم احتواؤها من خلال مؤتمر دولي يُعقد مرة في العام لأيام معدودة، إذ يبدو أن "دبلوماسية المسارات المتعددة" قد تراجعت أولويتها في سياسات العديد من الدول وفقاً لرؤية العديد من المحللين، ولم تعد قادرة على تسوية الصراعات، كما تراجعت فاعلية الآليات التقليدية مثل التفاوض والوساطة والتوفيق وحلول الوسط بصورة كبيرة، وهو ما يتضح في تعثر مسارات تسوية الصراعات الداخلية والإقليمية، ولجوء مختلف الفاعلين لآليات صراعية تقوم على توظيف القوة العسكرية في التعامل مع التهديدات.