ما شهد الأزهر في السنوات الأخيرة التي حفلت بالمؤتمرات والندوات لمكافحة التطرف والإرهاب، مؤتمراً فيه هذا الحشد الديني والثقافي والسياسي لنُصرة القدس. وقد بدأت القصة قبل شهرين ونيف، حين قرر الرئيس الأميركي الاعتراف بالقدس عاصمةً للكيان الصهيوني على أرض فلسطين. يومها رفض شيخ الأزهر أحمد الطيب استقبال نائب الرئيس الأميركي مايك بنس بناءً على طلبه. وقد قوبل موقف شيخ الأزهر بفرحة عارمة من جانب العرب والمسلمين. وإثر ذلك أعدَّ الأزهر لمؤتمر لنُصرة القدس انعقد على مدى يومين (27 و28 يناير)، وصدرت عنه توصيات اتّسمت بالحزم واللغة الصريحة، ووضع الهم المقدسي والفلسطيني على رأس الأولويات.
حضرت المؤتمرَ وفودٌ حاشدةٌ عربية وإسلامية وعالمية. وتلقّى شيخ الأزهر رسالةً من البابا فرنسيس تعهد فيها بالعمل دائماً لحل الدولتين، وللمكانة المتميزة للقدس باعتبارها مناط أفئدة معتنقي الديانات الإبراهيمية الثلاث. وقد انضوت المحاضرات الخمس والأربعون تحت ثلاثة محاور: هوية القدس ورسالتها، القدس عاصمةً لدولة فلسطين، المسؤوليات الدينية والدولية تجاه القدس وفلسطين. وتميز المؤتمر بحديث شيخ الأزهر والرئيس محمود عباس وبابا الأقباط وأمين عام الجامعة العربية، والأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي في الجلسة الافتتاحية.
ثم توالت المحاضرات من جانب نخبة من رجال الدين من سائر الديانات، ونخبة من المسؤولين السياسيين الحاليين والسابقين، ووزراء الأوقاف والشؤون الإسلامية، ورؤساء الكنائس العربية والعالمية. ووضع شيخ الأزهر والرئيس عباس السقف، فما دعا أحدٌ صراحةً لحرب مقدسة أو جهاد عالمي. وأشاد كثيرون بالمبادرة العربية للسلام. وعبروا عن عرفانهم لمواقف أكثرية الدول بمجلس الأمن والأُمم المتحدة. لكنهم جميعاً شكوا من أنّ القرارات الستمائة في الأمم المتحدة، والستة والثمانين قراراً بمجلس الأمن لم ينفذ منها شيء. فمقولة لابد عن السلام إلا بالسلام، صحيحة لكن للقوة الناعمة حدودها وحدود قدراتها. وكان هناك تمايز بالمواقف في الإجابة على الأسئلة والتساؤلات، مثل إلى متى تظل المبادرة العربية سارية، رغم عدم استعداد إسرائيل للسلام بأي شكلٍ من الأشكال؟ وما البدائل فيما إذا ظل هناك احتلال، ولم تكن هناك إمكانية حقيقية للتفاوض إذا جرى رفض الوساطة الأميركية، بعد إظهارها انجذاباً إلى الصهاينة بالكامل؟ كان هناك من رأى أنه لابد من سياسات ثابتة في الإصرار على إنفاذ القرارات الدولية من جانب الكتلة العربية والإسلامية. ولابد من الاستمرار في تحميل الدول الكبرى المسؤولية. فيما رأى البعض الآخر أنه إلى جانب الاستعانة بالمجتمع المدني العالمي، لابد من انتفاضة، ومن إمكانية اللجوء للقوة في آخر المطاف. لكن كان هناك من قال إن العرب جربوا الحرب وخسروا مراراً، أما مقاومة الميليشيات المسلَّحة مثل الذي يلحس المبرد. وكان هناك من فكر بالتضامُن العالمي الذي ظهر والذي ينبغي الاستمرار في استثماره. وقد ثار نقاشٌ عندما عُرضت رسالة البابا المؤيدة لحل الدولتين، ولوضع خاصٍ ودولي للقدس الشرقية بالذات.
وتحدث الأزهر في البيان الختامي للمؤتمر عن البرامج التربوية التي وضعها لطلاب المدارس والجامعات. واستحث الدول العربية والإسلامية على إقرارها لتأكيد الوعي بشأن القدس، وبشأن فلسطين. وذكّرنا أكمل الدين إحسان أوغلو، الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي السابق، بأنّ أهل القدس هم في ضيق من النواحي الصحية والتعليمية والدينية والمعيشية. صحيح أنه أقيمت أوقاف للقدس والأقصى منذ الأزمنة الغابرة لكننا نريد الآن مزيداً من مبادرات الدعم، لازدياد الاحتياجات وعجز الفرقاء العاملين.
أما أكبر جدل حصل فبشأن دعوة العرب والمسلمين والمسيحيين لزيارة القدس تضامناً مع الشعب الفلسطيني. هذه الدعوة حملها الرئيس عباس والدكتور محمود زقزوق من أركان الأزهر، والدكتور فارس سعيد الذي قدم للمؤتمر ورقة صاغها مسيحيون فلسطينيون ولبنانيون. أما معارضة الزيارة فقادها الشيخ عباس شومان وكيل الأزهر، وآخرون بينهم فلسطينيون ولبنانيون. ورأى أكثر رجال الدين الحاضرين أن مسألة الزيارة ليست مسألة دينية، وإنما تسير فيها الدول أو لا تسير بناءً على تقدير خاص للمصالح. لذلك فإن الخلاف حولها هو خلاف في تقدير المصالح، وتقدير الملاءمة في هذا الزمان.
كان مؤتمر الأزهر استعادةً للوعي وتجديداً له بشأن القدس وفلسطين. وكانت الاستجابة حاضرةً وحماسية. وسيكون على لجنة المتابعة التي شكّلها شيخ الأزهر عمل ثقيل يتعين تأديته بالكفاءة وسعة الأفق الضروريتين.
*نقلا عن صحيفة الاتحاد