يُعد عام 2017 مرحلة فارقة في تطور الصراع السوري طويل الأمد، حيث قادت روسيا تحركات حثيثة للحصول على دعم كلٍّ من إيران وتركيا باعتبارهما الطرفين الأكثر تأثيرًا في معادلة الداخل السوري من وجهة نظرها. ومع ذلك يُلاحظ أن علاقة موسكو بهذه الدول تقوم على توازن التهديد، لذا يُمكن القول إن مستقبل مصير سوريا خلال عام ٢٠١٨ مرهون بحفظ توازن التهديد بين تلك القوى.
وفي هذا الإطار، يُناقش هذا التحليل تحركات كلٍّ من روسيا وإيران وتركيا خلال العام المقبل من أجل حفظ مصالحهم في التسوية السياسية السورية. فيعرض أولًا لأبعاد مفاوضات أستانة كخطوة أساسية في تشكيل مستقبل سوريا، ثم يتناول نتائج هذه المحددات على عملية صياغة التسوية السياسية من خلال استعراض عددٍ من القضايا ذات الصلة بمحددات هذا التوازن على الخريطة السورية.
أسس التسوية:
دعت روسيا إلى عقد مفاوضات في أستانة، عاصمة كازاخستان، تجمع بين النظام السوري وجماعات المعارضة السورية برعايتها وكلٍّ من إيران وتركيا، وقد تبلورت أهداف هذه المفاوضات التي عُقدت جولتها الأولى في 24 يناير 2017، خلال البيان الختامي الذي ألقاه وزير خارجية كازاخستان، خيرت عبدالرحمنوف، وهي كالتالي:
1- لا حل عسكريًّا للأزمة السورية؛ فرغم تركيز مفاوضات أستانة حتى الآن على المسائل العسكرية والتقنية، إلا أنها تهدف بالأساس إلى تجميد العمليات العسكرية لصالح بدء عملية التسوية السياسية. وهو ما أشار إليه المتحدث عن كازاخستان في مجلس الأمن، السيد عمروف، بقوله: "إن محادثات أستانة تُشكل جزءًا لا يتجزأ من عملية جنيف. وجنيف هي المكان الرئيسي للمفاوضات بشأن تسوية سوريا تحت رعاية الأمم المتحدة؛ حيث يناقش الجزء السياسي من جدول الأعمال" مشيرًا إلى أن "نجاح عملية جنيف يرتبط بنتائج المفاوضات في أستانة".
2- آلية ثلاثية لمراقبة وقف إطلاق النار بهدف وقف العنف، وتحسين الحالة الإنسانية، وتهيئة الظروف المواتية للنهوض بالتسوية السياسية. وقد وقّعت الأطراف المتفاوضة بالفعل على اتفاق إبان الجولة الرابعة من المفاوضات على إنشاء مناطق "منخفضة التصعيد" في: إدلب، وحمص، والغوطة الشرقية، وجنوب سوريا. وقد دخل الاتفاق حيز التنفيذ في 6 مايو 2017، وأكد الفريق سيرغي رودسكوي، رئيس إدارة العمليات العامة في هيئة الأركان الروسية، أن الدول الراعية للهدنة تضمن عمل حواجز ونقاط مراقبة، كما يمكنها إشراك قوات تابعة لدول أخرى للعمل شرط التوافق فيما بينها.
ونتج عن الجولة السادسة من المفاوضات التي أُجريت في منتصف سبتمبر إعلان الدول الضامنة الثلاث عن اتفاقها على نشر مراقبين منها في إدلب الواقعة في شمال غرب سوريا على الحدود مع تركيا، ويخضع معظمها لسيطرة تحالف من فصائل المعارضة تقوده "جبهة النصرة" الجناح السابق لتنظيم القاعدة، والتي غيرت اسمها إلى "هيئة تحرير الشام". ولا يزال التفاوض من أجل التوصل لتفاهمات ميدانية حول ترسيم نقاط المراقبة بين الدول الثلاث، لتثبيت وقف إطلاق النار في الأراضي السورية.
3- محاربة تنظيم "داعش" و"جبهة النصرة"، وفصلهما عن سائر أطراف المعارضة الأخرى. وكانت فصائل من المعارضة السورية المسلحة قد أعلنت عن مشاركتها في أولى جولات المفاوضات، وهو ما جاء أعقاب الهزيمة التي مُنيت بها خلال معركة مدينة حلب التي تقع شمالي سوريا، والتي استعادت خلالها قوات النظام السوري سيطرتها عليها في 22 ديسمبر 2016 بمساعدة الضربات الجوية الروسية ومسلحين إيرانيين.
ورغم أن المعارضة لم تحضر كافة الجولات المنعقدة، إذ أعلنت مقاطعتها لبعض جولاتها؛ إلا أن الملاحظ حرص الأطراف الضامنة للمفاوضات على حضور المعارضة. فعلى سبيل المثال؛ عندما تأخر وصول وفد المعارضة السورية في الجولة الثالثة، ذكر المفوض الخاص للرئيس الروسي بشأن سوريا، ألكسندر لافرينتيف، في 16 مارس 2017، أن الدول الضامنة قررت إبقاء قسم من وفودها "لإجراء مشاورات محتملة" مع وفد المعارضة حال وصوله، مشيرًا إلى اعتقاده بأنه "من الضروري مواصلة المفاوضات بين الدول الضامنة ووفد المعارضة السورية المسلحة في أستانة".
محددات التوازن:
تُشكل مفاوضات أستانة محاولة لصياغة مستقبل سوريا على الأرض؛ فكل من الأطراف المشاركة في الصراع السوري -بما فيها الضامنة- تسعى لتوسيع مناطق نفوذها في ميدان القتال عبر طاولة هذه المفاوضات. ولا يتصور أن تخرج التسوية السياسية عن سياق توازن التهديد الذي يحكم علاقات إقليم الشرق الأوسط في الآونة الأخيرة.
وفيما يتعلق بالدول الراعية لهذه المفاوضات، والضامنة لتنفيذ ما يخرج عنه؛ فإنها لا تختلف في سياق تحركاتها عن هذا التوازن. وفي هذا الصدد، نناقش عددًا من القضايا المرتبطة بواقع خريطة هذا التوازن ذات الصلة بالخريطة السورية:
1- بقاء الرئيس بشار الأسد، وهي مسألة جدلية بين الدول الراعية للمؤتمر كما هو بين أطراف المعارضة السورية. فإذا ما وقفنا على طبيعة الجدل بين الدول الراعية للمؤتمر، نجد أن روسيا وإيران تدعمان الرئيس السوري بشار الأسد، بينما تدعم تركيا فصائل معارضة. ورغم أن موسكو عبرت في بعض مواقفها إبان الأزمة عن قبولها التفاوض حول مسألة بقاء الرئيس الأسد بذاته، وغض أنقرة الطرف أحيانًا عن مسألة رحيله؛ إلا أن إيران تُصر على بقاء الأسد الذي تعتبره أقرب حليف عربي لها.
وتعتبر روسيا أكثر القوى المؤثرة في مسألة بقاء نظام الأسد، لكن التصريحات الروسية عن انسحاب جزء من قواتها الذي ساهم في تغيير موازين القوى لصالح النظام السوري على الأرض تكشف أن دعمها للرئيس الأسد ليس مطلقًا مما يسمح لها بإجراء ضغوط على النظام السوري. والترتيبات التي بدأها الرئيس الروسي، فيلاديمير بوتين، لتجهيز مؤتمر لبدء العملية السياسية في سوريا تعكس الرؤية الروسية بخصوص الرئيس الأسد كجزء من اللعبة الدبلوماسية. فقد استضاف بوتين كلًّا من الرئيس الإيراني حسن روحاني والرئيس التركي رجب طيب أردوغان في منتجع سوتشي على البحر الأسود، في 22 نوفمبر 2017، بعد يوم من استقباله الرئيس السوري بشار الأسد في نفس المكان في 20 نوفمبرالماضي.
2- النفوذ الكردي: إذ يُلاحظ أن تركيا وإيران لديهما أقلية كردية، ويعتبر تمدد النفوذ الكردي في الإقليم بمثابة تهديد لوجودهما. وتكشف تصريحات رئيس الأركان العامة في القوات المسلحة الإيرانية، اللواء محمد باقري، إبان زيارته لأنقرة التي استمرت ثلاثة أيام بدأها في 15 أغسطس 2017، عن اتفاق البلدين حول هذه المسألة.
ويُذكر أن الجماعات الكردية السورية والفصائل المسلحة التابعة تسيطر حاليًّا على نحو ربع أراضي الدولة السورية، وقد أعلنت في مارس 2013 إقامة نظام فيدرالي في مناطق سيطرتهم التي قسموها إلى ثلاثة أقاليم، هي: الجزيرة (محافظة الحسكة، شمال شرق)، وعفرين (ريف حلب، شمال غرب)، وكوباني (عين العرب، شمال وسط)، وسُميت هذه المناطق "روج آفا" أي "غرب كردستان" باللغة الكردية. وهي تعرب عن أملها البدء في مرحلة جديدة من المفاوضات من شأنها أن تدعم حكمها الذاتي في شمال سوريا.
وترى تركيا أن وحدات "حماية الشعب الكردية" أكبر هاجس أمني لها، وتُعد الوحدات جزءًا من تحالف سوريا الديمقراطية الذي تدعمه الولايات المتحدة الأمريكية لمقاتلة تنظيم "داعش" في شرق سوريا، الأمر الذي تعارضه أنقرة وعبرت عن استيائها تجاهه مرارًا، مؤكدةً أن هذه الوحدات تُشكل امتدادًا لحزب العمال الكردستاني الذي يحارب الدولة التركية منذ عقود، والذي تصفه تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بأنه جماعة إرهابية.
ويُمثل أكراد سوريا ورقة ضغط مزعجة في تركيا، في صياغة توازنات التهديد على طاولة المفاوضات. فعلى سبيل المثال، خلال الأزمة الدبلوماسية بين موسكو وأنقرة إثر إسقاط الطيران التركي لطائرة مقاتلة روسية فوق الحدود السورية في نوفمبر 2015، أُعلن عن افتتاح ممثلية أكراد سوريا في روسيا يوم 10 فبراير 2016، وذكر رئيس الممثلية، رودي عثمان، أن الأكراد السوريين مستمرون بالتعاون مع روسيا.
من ناحية أخرى، تم تسريب مقترح روسي لصياغة دستور سوريا، في مايو 2016، جرى نفيه في وقت لاحق، يشير إلى رؤية حول تشكيل دولة فيدرالية على أساس المحاصصة الطائفية والعرقية. وهو ما يُفسر دعم تركيا لمفهوم وحدة وسلامة الأراضي السورية الذي يتوافق مع أهداف إيران التي تعتبر سوريا نقطة عبور رئيسية لشحنات الأسلحة الإيرانية إلى جماعة حزب الله في لبنان.
كما يفسر ترحيب تركيا بالمبادرة الروسية بشأن مؤتمر الحوار الوطني السوري في "سوتشي" بعد نجاحها في الوصول لاتفاق بشأن نشر مراقبين في إدلب يسمح لها بالحيلولة دون إعلان الحكم الذاتي الكردي في عفرين المجاورة، ومنع الأكراد من الاقتراب أكثر من البحر المتوسط. وكان أردوغان قد أكد على ذلك في 17 نوفمبر 2017: "نحتاج لتطهير عفرين من الكيان المسمى بمنظمة وحدات حماية الشعب الإرهابية".
3- الجماعات المسلحة؛ حيث يعمل على أرض سوريا العديد من الجماعات المسلحة التي يحظى معظمها بدعم من قبل دول لها مصلحة في متغيرات الصراع السوري. وتشكل الجماعات السنية المسلحة تهديدًا مشتركًا للدول الراعية الثلاث، وإن كان بصور متفاوتة. فبينما تنظر روسيا وإيران إلى هذه الجماعات بوصفها تهديدًا رئيسيًّا، إذ تنشر الفوضى وتؤثر تداعياتها على روسيا في القوقاز، وعلى طهران في العراق؛ فإن أنقرة تنظر إلى الجماعات الكردية المسلحة في سوريا بوصفها التهديد الرئيسي لأمنها الداخلي. ويُشار في هذا الصدد إلى ما قاله وزير الخارجية التركي قبيل الجولة الأولى لمفاوضات أستانة عن أنه إذا أرادت الولايات المتحدة دعوة المقاتلين الأكراد السوريين إلى محادثات أستانة فلتدع كذلك تنظيم "داعش".
ويُلاحظ أن وجود مراكز قيادة بعض جماعات المعارضة السورية المسلحة في تركيا، يعطيها ورقة ضغط تمارسها حينًا على الجماعات المسلحة نتيجة سيطرتها على خطوط الإمداد الحيوية لهذه الجماعات، وحينًا أخرى على طاولة المفاوضات مع روسيا وإيران لتوسيع نطاق نفوذها.
من جهة أخرى، تُعد الجماعات المسلحة الشيعية إحدى أدوات إيران في بناء "قواعد ارتكاز" صلبة لها في صميم البنى السياسية والأمنية والعسكرية والاجتماعية في العديد من دول المنطقة، مثل "حزب الله"، غير أن روسيا وتركيا لا تنظران إلى هذه الجماعات كتهديد مباشر لمصالحها، ومن ثم نجد تعاون روسيا مع "حزب الله" في الحرب السورية قد ساهم في تطوير قدرات قواته إلى حد كبير.
4- المكاسب التجارية العسكرية: تخضع روسيا وإيران لعقوبات اقتصادية غربية تستهدف قطاعات الطاقة فيها. بينما تبلغ نسبة الغاز الذي تستورده تركيا من روسيا 56%، ومن إيران 18%.
من ناحية أخرى، تُشكل عوائد تجارة السلاح أحد مصادر الدخل الروسي التي لا غنى عنها، لا سيما في ظل تراجع أسعار النفط، وتراجع معدل التبادل التجاري مع الدول الغربية بعد سيطرتها على شبه جزيرة القرم.
وتُعد سوريا مسرحًا لاستعراض حدود قدرات الأسلحة في ظل المعارك الحقيقية. وكانت "روسيا اليوم" قد نشرت في 26 مايو 2017 إعلان رئيس اللجنة العسكرية العلمية في القوات المسلحة الروسية، الفريق إيغور ماكوشيف، عن أن الباحثين العسكريين الروس درسوا سير استخدام أكثر من 200 نموذج سلاح استخدمت على أرض المعركة بشكل حقيقي في سوريا، مُركزين على أحدث نماذج الأسلحة بما في ذلك الموجودة في مرحلة الاختبار، وشملت الطائرات الحربية والصواريخ والدبابات، مما سمح بتعديل خطط تصميم وتحديث نظم السلاح الروسي.
وكشف مستشار الرئيس الروسي للشئون العسكرية والتقنية، فلاديمير كوجين، خلال مقابلة مع قناة "منينيا"، أن معدلات الطيران ومن ضمنها المروحيات والطائرات تأتي بالمرتبة الأولى بحصة تبلغ 50% من إجمالي الصادرات العسكرية الروسية.
من ناحية أخرى، أعلن أردوغان في 12 سبتمبر 2017 عن توقيع عقد مع روسيا لشراء منظومات صواريخ إس-400 المضادة للطيران، الأمر الذي أكدته روسيا فيما بعد. وهو ما يعكس رغبة أنقرة في تحدي حلف شمال الأطلسي الذي تشكل جزءًا من عضويته، خاصة في ظل استيائها من الموقف الأمريكي الداعم لقوات "الشعب الكردية".
ويُلاحظ في هذا الصدد، أن الحكومة التركية كانت قد سمحت منذ يوليو 2015 لواشنطن باستخدام قاعدة إنجرليك، وهي قاعدة تابعة لحلف شمال الأطلسي، لمحاربة تنظيم "داعش" في سوريا بعد 3 أيام من هجوم شنه التنظيم المتطرف داخل تركيا أسفر عن سقوط 33 قتيلًا. من جهة أخرى، أعلنت روسيا في 16 أغسطس 2016، عن استخدامها قاعدة همدان الجوية في إيران في حملتها الجوية على سوريا، وهو ما يشير إلى مستوى التنسيق الروسي الإيراني من جهة، والتنسيق التركي الأمريكي من جهة أخرى.
تأثيرات تسوية الصراع:
تكشف المتغيرات السياسية الداخلية والإقليمية للأزمة السورية أن مسألة الوصول إلى تسوية سلمية مستدامة في سوريا تعكس مدى إدراك الدول الراعية لمفاوضات أستانة للتهديد من وراء الصراع السوري، وإمكانية استحواذ أحدها بصياغة مصير سوريا.
لذا، تسعى الدول الراعية من خلال إطلاق نفوذها على الأطراف السورية للأزمة إلى تكريس وجودها، بحيث تزيد تكلفة محاولة أي طرف منها أو غيرها الانفراد بصناعة القرار. ووفقًا لبيان مشترك يضم الدول الثلاث في 22 ديسمبر 2017، من المقرر أن يجتمع مسئولون من الدول الثلاث في سوتشي يومي 19 و20 يناير 2018 للإعداد لاجتماع أوسع بين ممثلي النظام السوري والمعارضة يومي 29 و30 من الشهر ذاته وفقًا للبيان.