على مدار عام 2017، لم ينقطع الجدل حول الاختراق الروسي للنظم السياسية في الدول الغربية عبر التأثير على الناخبين. وقُبيل بداية عام 2018، تزايد الاهتمام بالزحف الهادئ (Quiet Encroachment) للتغلغل الصيني في الدول الغربية للتأثير على عملية صنع القرار بهذه الدول من خلال آليات متعددة، مثل: التمويل السياسي، ووسائل التواصل الاجتماعي، ووسائل الإعلام، وتوظيف الأقليات الصينية، والرقابة الأكاديمية، والعقوبات الاقتصادية.
وأطلقت بعض وسائل الإعلام الغربية، مثل مجلة الإيكونوميست، والمؤسسات البحثية مثل مجلس العلاقات الخارجية، على هذه السياسات "القوة الحادة" (Sharp Power)، والتي يقصد بها توظيف مختلف الأدوات السياسية والاقتصادية لاختراق الداخل، وتشكيل اهتمامات النخب السياسية أو "التأثير على القوى المؤثرة" (Influencing The Influencers)، والتأثير على عملية صنع القرار.
آليات التأثير السياسي:
لم تعد الصين تستخدم القوة الناعمة فحسب لتحقيق مصالحها، بل وصل الأمر إلى محاولة الاختراق، والتأثير على سياسات الدول الأخرى لتحقيق هذه المصالح، وبالتالي فإن الصين انتقلت من تطبيق مفهوم القوة الناعمة إلى تطبيق ما أطلق عليه القوة الحادة، ويتضح توظيفها لها من خلال عدد من العوامل:
1- اختراق النظم السياسية: أعلنت أستراليا تخوفها من تزايد التدخلات الصينية في نظامها السياسي؛ حيث قامت شركتان صينيتان بالتبرع للحزبين الرئيسيين في أستراليا بما يعادل 6.7 ملايين دولار، وذلك خلال 10 سنوات، بغرض التأثير على السياسة الأسترالية، كما جاءت 80٪ من التبرعات الأجنبية للأحزاب الأسترالية من الصين، وذلك خلال الفترة من عام 2000 إلى عام 2016.
كذلك قام نائب أسترالي من أصل إيراني يُدعى "سام داستياري" بالاستقالة من البرلمان الأسترالي على خلفية ظهور تسجيل صوتي له يؤكد فيه أنه يتعين على أستراليا احترام مطالب الصين في بحر الصين الجنوبي، وهذا يخالف توجه حزبه والحكومة الأسترالية. وجدير بالذكر أنه منذ عامين كانت هناك شبهات تدور حول تلقي هذا النائب أموالًا من رجل أعمال صيني على صلة وثيقة بالحزب الشيوعي الصيني الحاكم. وفي هذا الإطار، صرح رئيس الوزراء الأسترالي "مالكولم تورنبول" في ديسمبر 2017 "أن هناك تقارير تشير إلى أن الحزب الشيوعي الصيني يسعى للتدخل في بلاده، وأن قوى أجنبية تقوم بمحاولات غير مسبوقة ومتزايدة التعقيد للتأثير على العملية السياسية في أستراليا والعالم".
2- توظيف وسائل التواصل الاجتماعي: اتهمت الاستخبارات الألمانية في ديسمبر 2017 الصين بأنها تستخدم أسماء صفحات وشخصيات وهمية على موقع التوظيف الشهير linkedin للاتصال بحوالي 10 آلاف مواطن ألماني من بينهم سياسيون ومسئولون حكوميون وقضاة، وذلك لجمع بعض المعلومات عنهم وعن عاداتهم وهواياتهم، وقد أعلن جهاز المخابرات بعض أسماء هذه الصفحات والشخصيات الوهمية لكي لا يتم التعامل معهم مجددًا، واتضح وجود علاقات بين هذه الصفحات وبعض الساسة الأوروبيين.
3- عقوبات اقتصادية انتقائية: فرضت الصين عقوبات اقتصادية على النرويج بعد فوز المعارض الصيني "ليو شياوبو" بجائزة نوبل للسلام في عام 2010؛ إذ قامت الصين بإلغاء جميع الاجتماعات الثنائية رفيعة المستوى مع النرويج، كما فرضت عقوبات اقتصادية على بعض المنتجات الواردة من النرويج.
4- الرقابة الأكاديمية: تمنع الصين الأكاديميين، سواء من داخلها أو خارجها، من المشاركة في أي مؤتمرات تنظمها الحكومة الصينية في حالة قيامهم بانتقاد سياساتها، خاصة في قضايا مثل: مظاهرات الميدان السماوي، وقضيتي تايوان والإيغور. وتقوم الصين بحجب مصادر المعلومات الصحيحة عن الباحثين الصينيين مما يؤدى إلى تشويه المعلومات، بالإضافة إلى ضآلتها، وهو ما يؤثر سلبًا على إمكانية تقديمهم للعون والمساعدة لصناع القرار في بلادهم. وفي هذا السياق، طلبت الحكومة الصينية في أغسطس الماضى من عدد من الأكاديميين تنقيح قواعد المعلومات من أي مقالات تتناول موضوعات حساسة، مثل تايوان وأقلية الإيغور، وقد سبق وصرح رئيس الاستخبارات الأسترالية بأن مراقبة الصين لطلابها الذين يدرسون في أستراليا يُعد تدخلًا صريحًا في سياسة التعليم الأسترالية.
5- وسائل الإعلام الصينية: قام 16 نائبًا بالكونجرس الأمريكي في عام 2016 بمراجعة قيام بعض الشركات الصينية بالاستحواذ على عدد من وسائل الإعلام الأمريكية؛ فعلى سبيل المثال قامت مجموعة "داليان واندا" الصينية بشراء سلسلة المسارح الأمريكية الشهيرة (AMC Theaters) بما يقدر بحوالي 2.6 مليار دولار في عام 2010، كما قامت بشراء شركة (Legendary Entertainment) التي تُعد إحدى أكبر شركات الإنتاج في هوليود بما يعادل 3.5 مليار دولار، كما سبق وأجرت رويترز تحقيقًا في عام 2015 حول قيام الصين بدعم بعض وسائل الإعلام مثل إذاعة الصين العالمية المنشئة والتي يتم بثها من 14 دولة منها أستراليا وأمريكا، ومن الجدير بالذكر أن هذا الدعم غير معلن بل يتخفى وراء بعض الشركات الصينية وذلك لبث أخبار إيجابية عن الصين بعدة لغات، وعلى الرغم من أن وكالات الأنباء العالمية تقلص عدد مكاتبها في العالم فإن وكالة الأنباء الصينية "شينخوا" تقوم بافتتاح المزيد من المكاتب خاصة في الولايات المتحدة.
6- دعم الأقليات الصينية: اتهمت بعض التقارير الصين بدعم بعض المواطنين من أصول صينية عن طريق الدعم المالي للوصول إلى مناصب رفيعة في الحكومة النيوزيلاندية والكندية. فعلى سبيل المثال، تُشير هذه الاتهامات إلى دعم الصين لأحد أبرز نواب البرلمان النيوزيلاندي "يانج جيانج" والذي يشتبه في تلقيه تدريبًا على يد الاستخبارات الصينية، ويحاول يانج منذ عام 2008 دفع الحزب الوطني الحاكم للتقارب بشكل أكبر مع الصين.
وفي هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى أن أستراليا ونيوزيلندا هما من أكثر الدول عرضة للاختراق وذلك بسبب سياسات الانفتاح على تدفقات المهاجرين والتجارة، وبالتالي أكثر عرضة للتأثير، فضلًا عن أنهما يعتمدان على الصين كشريك تجاري واقتصأدى بشكل كبير، فالصين هي الشريك التجاري الأكبر لأستراليا، كما وقّعت نيوزيلندا اتفاقية تجارة حرة مع الصين عام 2008. من جانب آخر تعد كل من أستراليا ونيوزيلندا وكندا والمملكة المتحدة وأمريكا أعضاء في تحالف الاستخبارات الخماسي، وبالتالي فإن أي اختراق لدولة عضو في هذا التحالف هو مكسب ليس بالقليل للصين، حيث ستتمكن من خلاله من الضغط على أي من الدولتين ليكون موقفها محايدًا من أي صراع تكون الصين طرفًا فيه في بحر الصين الجنوبي، وبالفعل قد رفضت أستراليا الانضمام للمناورات الأمريكية في بحر الصين الجنوبي.
إجراءات المواجهة الغربية:
أدى تزايد المؤشرات التي تؤكد تزايد الاختراق الصيني للنظم السياسية الغربية إلى محاولة اتخاذ إجراءات رادعة من قبل الحكومات، ومن الأمثلة على هذه الإجراءات ما قامت به الاستخبارات الأسترالية من إصدار تحذير لأكبر حزبين في البلاد بسبب تلقي التبرعات من الصين، بيد أن الأحزاب الأسترالية استمرت في تلقي الأموال الصينية، وهو ما دفع الحكومة الأسترالية في ديسمبر 2017 إلى إقرار قانون يقصر تلقي التبرعات للأحزاب على المواطنين الأستراليين.
وتقوم أستراليا بتطبيق إجراءات لفحص الاستثمارات الأجنبية بقدرٍ أكبر من الدقة للحماية من خطر الاختراق الصيني، كما يواجه هذا التدخل رفضًا في الأوساط الأكاديمية، فمثلًا قامت أستاذة في جامعة "كانتربري" بنيوزيلندا بإعداد دراسة في مطلع عام 2017 للتحذير من تزايد خطر التدخل الصيني في البلاد.
وأدى هذا التدخل إلى تزايد موجات المعاداة للصينيين، حيث وقعت مظاهرات عنصرية متعددة في أستراليا ونيوزيلندا للمطالبة بتهجير الصينيين، فضلًا عن وقوع حوادث متفرقة للاعتداء على الطلبة الصينين، مما يُمثّل تحديًا كبيرًا من حيث ضرورة الموازنة بين الحفاظ على الأمن القومي للدول وفي الوقت ذاته عدم تعزيز موجات معاداة للصينيين، ومن المتوقع أن يقوم الكونجرس بعقد عدد من الجلسات لمناقشة الاتهامات الخاصة بمحاولة الصين التأثير في السياسة الأمريكية.
سيناريوهات مستقبلية:
يتوقع الخبراء أن يكون عام 2018 "عام الاختراق الصيني" بسبب تصاعد اعتماد بكين على سياسات التغلغل في دوائر صنع القرار بالدول الغربية، وعدم قدرة الأخيرة على اتخاذ إجراءات عقابية حادة تجاه الصين خشية تأثر العلاقات السياسية والاقتصادية معها ولعدم اتباع سياسات تتعارض مع النموذج الليبرالي الذي تتبعه الدول الغربية.
يضاف إلى ذلك أن الاقتصاد الصيني يعد قاطرة للاقتصاد العالمي بأسره، وهو ما يجعل الدول الغربية تتجنب توتر العلاقات مع بكين مثلما حدث مع الاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة، خوفًا من تأثر مصالحها الاقتصادية أو اتخاذ الصين إجراءات عقابية ذات تكلفة مرتفعة في ظل عدم استقرار أوضاع اقتصادات الدول الغربية.
وفي بعض الأحيان قد تضطر الدول إلى تغليب الجانب الاقتصادي، فعلى سبيل المثال، اعترضت اليونان على بيان الاتحاد الأوروبي الذي تضمن انتقادًا لسجل حقوق الإنسان في الصين، وجاء هذا الاعتراض في أعقاب استثمار شركة صينية في ميناء بيرايوس اليوناني، وتتمثل أهم سيناريوهات مستقبل الاختراق الصيني للدول الغربية فيما يلي:
1- تواصل سياسات الاختراق: ويتمثل هذا السيناريو في استمرار سياسات التغلغل الصيني ومحاولات التأثير في عملية صنع القرار بهذه الدول في حالة عدم تمكن الدول الغربية من منع هذه الاختراقات، واضطرار هذه الدول لمهادنة الصين للحفاظ على مصالحها الاقتصادية معها، أو على أقل تقدير قد تتخذ موقفًا محايدًا مثل امتناع أستراليا عن المشاركة في مناورات بحر الصين الجنوبي.
2- تفعيل إجراءات المواجهة: قد تقوم الدول الغربية باستجابة متعددة الأبعاد للسيطرة على محاولات الاختراق الصيني لنظامها السياسي والإعلامي والتعليمي، وهو ما يتطلب التمسك بقيم الديمقراطية الغربية في مواجهة النموذج الصيني الذي يرى أن استخدامه القوة الحادة ليس بالسياسة المعادية بل هو جزء من المنظومة القيمية الصينية لتحقيق وضمان الاستقرار.
3- تصاعد العداء للصين: قد يؤدي تصاعد الاختراق الصيني للدول الغربية إلى تنامي الغضب الشعبي تجاه المواطنين من الأصول الصينية وازدياد موجة معاداة للصين، وهو ما يؤدي إلى تأثر الصورة الذهنية للصين وفقدانها جزءًا كبيرًا من قوتها الناعمة، بالإضافة إلى عودة بعض المهاجرين الصينين في الدول الغربية.
ختامًا، لا يختلف توظيف الصين للقوة الحادة وأدوات التأثير في عملية صنع القرار مع سياسات الولايات المتحدة والدول الغربية تجاه الدول النامية، حيث تقوم هذه الدول بتوظيف أدوات متعددة في إطار مفهوم "القوة الذكية" التي تدمج بين القوة الصلبة والناعمة، وتتمثل أهم هذه الأدوات في التدخل العسكري، والعقوبات الاقتصادية، والتأثير الإعلامي والفكري، وتكوين شبكات من النخب الموالية لها القريبة من دوائر صنع القرار، وهو ما يعني تزايد احتمالات الصدام بين الصين والدول الغربية نتيجة التوظيف المتبادل لأنماط القوة لتحقيق المصالح وتعزيز المكانة في النظام الدولي.