فاجأ المرجع الديني "آية الله علي السيستاني" كافة أطياف المشهد السياسي العراقي بدعوته في ديسمبر 2017 إلى حصر السلاح بيد الدولة، ودمج كافة الميليشيات في المؤسسات العسكرية. وقد جاءت هذه الدعوة في خضم الجدل المحتدم حول ضرورة إنهاء ملف الحشد الشعبي عقب تراجع تهديدات "داعش" لأمن الدولة العراقية، وتمكن الدولة العراقية من بسط سيطرتها على كافة أقاليم الدولة.
وينطوي دمج ميليشيات الحشد الشعبي في المؤسسات الأمنية والعسكرية على عدة تحديات، يتمثل أهمها في الجدل حول ضمانات الولاء والارتباط بإيران، والضغوط المالية التي يفرضها الاندماج على الدولة العراقية، الأمر الذي يثير تساؤلاً حول مدى قدرة البيئة العراقية الراهنة على إنفاذ دعوة السيستاني من عدمه؟
مركزية دور المرجعية:
تؤثر المرجعية الدينية في النجف على التطورات السياسية في العراق بشكل كبير، خاصة بعد تراجع دور الدولة بعد عام ٢٠٠٣ مقابل تزايد تدخل المؤسسات الدينية وعلى رأسها المرجعية الدينية الشيعية. وبعد سقوط الموصل في يد تنظيم "داعش" الإرهابي، وتهديده باقتحام بغداد والنجف وكربلاء وغيرها من المدن، وسيطرته على مناطق واسعة في الأنبار وصلاح الدين وغيرها؛ أصدرت المرجعية فتوى بضرورة تطوّع أبناء الشعب العراقي للدفاع عن الدولة. وتم إصدار الفتوى المعروفة باسم "فتوى الجهاد الكفائي" في يونيو ٢٠١٤، وبناء عليها تم تشكيل قوات من المتطوعين من مناطق الجنوب ذات الأكثرية الشيعية تحت إشراف مباشر من قبل الأحزاب والقوى السياسية الإسلامية، مثل: منظمة بدر، وتيار أهل الحق، والتيار الصدري، وغيرها.
كما قامت مؤسسات دينية -مثل إدارة العتبة العباسية- بتشكيل قوات عسكرية. وساهمت هذه القوات في تقديم الدعم للقوات الأمنية بعد الانهيار الكبير الذي شهدته المنظومة الأمنية إثر سقوط مناطق شاسعة في وقت قصير، بالتزامن مع هروب بعض قوات الأمن الموجودة على خطوط المواجهة، وتم التأكيد -وقتها- على أن الفرق المتطوعة يجب أن تنضم إلى القوات الأمنية عبر الآليات الرسمية، وبالتنسيق مع السلطات الحكومية، ويجب على الموظفين مراجعة الجهات الرسمية المعنية فيما يتعلق بتطوعهم، وأخذ الموافقة، وأن تحديد أعداد المطلوب تطوعهم يكون من قبل الجهات الرسمية.
ولم يتم الالتزام بهذه القرارات، حيث تشكلت قوات الحشد الشعبي بعيدًا عن سيطرة المؤسسات الأمنية، ودخلت هذه القوات الحرب ضد "داعش" مساندة للقوات الحكومية، وأثرت هذه النشأة على طبيعة تشكيل قوات الحشد الشعبي وتدريبها وعقيدتها العسكرية بحيث تحولت إلى كيان مستقل عن الجيش العراقي، وهو ما عزز من حدة الانتقادات لبقائها واستمرار دورها بعد انتهاء الحرب على تنظيم "داعش" واستعادة المؤسسات الأمنية والعسكرية العراقية سيطرتها على أقاليم الدولة.
دوافع دعوة الإدماج:
لم تكن دعوة السيستاني إلى إدماج الحشد الشعبي في المؤسسات الأمنية والعسكرية العراقية تغيرًا غير متوقع في المشهد السياسي العراقي بقدر كونها محاولة للضغط للتطبيق الفعال للتشريعات التي تم إقرارها مُسبقًا. ففي نوفمبر 2016 صدر قانون الحشد الشعبي، وأكد في مواده على ارتباط الحشد الشعبي بالقائد العام للقوات المسلحة (رئيس الوزراء)، وأن يتألف هذا التشكيل من قيادة وهيئة أركان وألوية مقاتلة، مع إخضاع هذا التشكيل للقوانين العسكرية، وأن يتم تكييف أوضاع المقاتلين وفقًا لقواعد المؤسسات الأمنية من تراتبية ورواتب ومخصصات وعموم الحقوق والواجبات، وأن يتم فك الارتباط بين مقاتلي هيئة الحشد الشعبي والمؤسسات السياسية والحزبية مع عدم السماح بالعمل السياسي لهؤلاء المقاتلين.
وكان الهدف الأساسي من هذا التشريع ضمان تطبيق المادة (9) من الدستور العراقي التي تحظر تشكيل أي ميليشيات مسلحة خارج سلطة الدولة، فتوزيع القوات في المحافظات مخول بشكل حصري للقائد العام للقوات المسلحة، وتعيين قائد الفرقة يكون بموافقة مجلس النواب واستنادًا لمواد الدستور، وهو ما يعني ضمنًا عدم وجود أية هياكل عسكرية منفصلة عن كيان الجيش العراقي أو غير خاضعة لسلطة رئيس الوزراء.
وجاءت دعوة المرجع السيستاني الأخيرة في ديسمبر للتأكيد على تسليم سلاح الذين شاركوا في الحرب ضد "داعش" للدولة، وضرورة دمجهم في مؤسسات الدولة، لتضيف تأكيدًا جديدًا حول ضرورة إنهاء ملف الحشد مع تراجع تهديد "داعش" للعراق. وقد رحب رئيس الوزراء العراقي "حيدر العبادي" بهذه الدعوة، كما أعلن الشيخ "قيس الخزعلي" زعيم عصائب أهل الحق، و"مقتدى الصدر" زعيم التيار الصدري، تأييدهم لخضوع قواتهم لسلطة وأوامر رئيس الوزراء ومؤسسات الدولة.
ويرجع هذا التركيز على إدماج الميليشيات في الجيش العراقي والمؤسسات الأمنية إلى عددٍ من الأسباب، وعلى رأسها الخوف من أن يتم استغلال ملف الحشد ودوره في الانتصار على "داعش" انتخابيًّا، كما أن النخب العراقية تحتاج لنفي الاتهامات بأن الميليشيات المسلحة وعلى رأسها قوات الحشد تشكيلات عابرة للحدود تتلقى أوامرها من جهات خارجية وخاصة إيران.
ويرتبط تصاعد هذه الاتهامات بمشاركة بعض فصائل الحشد الشعبي في الحرب في سوريا، الأمر الذي تعارضه الحكومة العراقية وتعتبره ضد مصالح الدولة، إذ يؤدي ذلك إلى تصاعد الضغوط الإقليمية والدولية على العراق، وقد يتسبب في توتر العلاقات مع دول الجوار، بالإضافة إلى تزايد تهديدات أمن الحدود، وهو ما تأكد عقب صفقة حزب الله مع تنظيم "داعش" في أغسطس 2017، والتي نصت على نقل المنتمين لـ"داعش" من جرود عرسال على الحدود السورية - اللبنانية إلى دير الزور السورية بالقرب من الحدود العراقية السورية، وهو ما أثار احتجاجات كافة القيادات والتيارات السياسية العراقية وفي صدارتهم رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي.
وفي السياق ذاته، يُنذر الترابط المتزايد بين ميليشيات الحشد الشعبي والحرس الثورى الإيراني باحتمالات تفجر مواجهات عسكرية بينه وبين القوات الأمريكية المتواجدة في العراق والتي تعتبر الحرس الثوري الإيراني قوات معادية، خاصة إذا وصل التوتر الأمريكي مع إيران إلى مستوى المواجهة العسكرية. ويضاف إلى ذلك تصاعد الانتهاكات التي قام بها بعض أفراد الحشد الشعبي، مثل إطلاق نار على تظاهرات للمسيحيين في محافظة نينوي في ديسمبر 2017.
تحديات إدماج الحشد:
لا تُعد عملية إدماج تشكيلات الحشد الشعبي في هياكل القوات الحكومية والمؤسسات المدنية أول عملية لضم ميليشيات في جسد الدولة، إذ سبق وتم دمج مجموعات كبيرة من المقاتلين المناوئين للنظام العراقي الحاكم قبل 2003 في مؤسسات الدولة بعد انهيار نظام صدام حسين عام 2003، مثل دمج قوات المؤتمر الوطني وفيلق بدر (قبل أن يتحول إلى منظمة)، وغيرها من التشكيلات العسكرية، وقد أصبحت هذه الميليشيات نواة لقوات الجيش والشرطة في مرحلة ما بعد 2003. وعلى الرغم من الخبرة العراقية في هذا الأمر، إلا أن هناك عددًا من التحديات تواجه عملية إدماج الحشد الشعبي وعلى رأسها ما يلي:
1- ضمانات الولاء: يصعب ضمان ولاء هذه الميليشيات للدولة والدستور، حيث من المحتمل أن يظل ولاؤها للجهات السياسية والدينية المنتمية إليها، كما قد يصعب إخضاعها وإلزامها بالقوانين العسكرية، بالإضافة إلى عدم وجود ضمان لإذعانهم للعقوبات التي تُوجَّه إليهم كأي تشكيل أمني رسمي.
2- تهديدات التماسك: قد يترتب على سيناريو إخفاق دمج الميليشيات تهديدات لتماسك القوات المُسلحة العراقية نتيجة محاولة بعض عناصر الميليشيات التمرد على نظام المؤسسات العسكرية العراقية، وتشكيل كيانات منفصلة داخلها تعبر عن مصالحها وتدافع عن رؤيتها وعقيدتها العسكرية المستقلة، وهو ما يعني أن الدمج الكامل لهذه الميليشيات يتطلب التعامل مع المنتمين إليها كأفراد، وتفكيك بنيتها ومؤسساتها وتسليم مقراتها للدولة العراقية.
3- التواصل مع إيران: تتواصل بعض الميليشيات التي ترتبط بمرجعيات دينية وسياسية خارج العراق مع جهات خارجية يأتي على رأسها إيران، وقد دعمت إيران الحشد الشعبي لفترات طويلة بالعتاد والتدريب، وحتى في حالة إبعاد هذه الميليشيات عن النفوذ الإيراني فإنه يظل على العراق إقناع الشركاء السياسيين والحلفاء الإقليميين والدوليين، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، بأن هذا التشكيل يمثّل العراق وليس جهات دولية أخرى.
4- العجز المالي: تشير بعض الإحصاءات إلى أن عدد هذه الميليشيات يقدر بحوالي 120 ألف عنصر، ومن ثمّ تحتاج الحكومة العراقية إلى زيادة الميزانية المخصصة لقوات الأمن، وتحديدًا فيما يتعلق ببنود الرواتب وتكاليف عمليات التأهيل والتسليح والتدريب، وهو ما يصعب حدوثه في ظل حالة التقشف التي تفرضها الحكومة العراقية لضبط النفقات.
ختامًا، تكشف مراجعة المشهد السياسي العراقي عن وجود حالة من التوافق الملحوظ بين المرجعية الدينية في النجف بزعامة المرجع السيستاني الذي أوجد الحشد الشعبي بفتواه، وبين رئاسة الحكومة العراقية ممثلة في حيدر العبادي، وهو ما يجعل الطرفين حريصين على إبقاء ملف الحشد الشعبي العراقي تحت سيطرة مؤسسات الدولة العراقية، والتصدي للتحديات المترتبة على عمليات الإدماج بهدف استعادة تماسك وقوة المؤسسات العسكرية.