في تعليقه على قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب نقل سفارة بلاده إلى القدس، كتب الحاخام «دفيد مير» في صحيفة «لوموند» الفرنسية (7 ديسمبر) أن هذه الخطوة ستعزز الاتجاه الإسرائيلي واليهودي إلى الانتقال من تصور ديني لقداسة «أورشليم» إلى تصور وثني يتعلق بالأرض والسيطرة الإقليمية بدل العلاقة الروحية الرمزية بالمدينة. وفي هذا السياق، يميز «مير» بين القداسة والسيادة، معتبراً أن المقاربة السيادية السياسية تفضي في نهاية المطاف إلى إلغاء المنظور الديني القداسي وإفراغ اليهودية من شحنتها الرمزية والقيمية لتتحول إلى إيديولوجيا للحكم والسيطرة، وبذا فإن الخطوة الأميركية لا تسير في العمق في اتجاه مصلحة إسرائيل واليهود.
وليس هذا الكلام بالمعزول في الفكر اليهودي الذي عرف منذ تشكل المشروع الصهيوني في بدايات القرن العشرين نقاشاً حاداً بين الخط الذي يدعو إلى نقل الهوية اليهودية إلى مفهوم قومي يكون أساس مشروع سياسي لدولة وطنية وفق النموذج القومي الأوروبي، والخط المناوئ الذي حذّر من هذا التوجه واعتبره تجسيداً عملياً لمسلك العداء للسامية الذي ينزع إلى إغلاق اليهود على اختلاف قومياتهم وانتماءاتهم في «غيتو» واسع، ولو في شكل وطن بديل وفق السيناريو الاستيطاني الاستعماري الأوروبي.
وما لا يدركه كثيرون هو أن أهم الوجوه الفلسفية والفكرية اليهودية الأوروبية من ماركس إلى هرمان كوهن وفرويد وانتهاءً بحنة آرندت وسارتر رفضوا دوماً المشروع الصهيوني، ورأوا فيه إيديولوجيا عنصرية ذات غطاء لاهوتي مزيف.
والمثير في الأمر أن الفكر السياسي العربي لم يستطع منذ قيام «إسرائيل» عام 1948 تحقيق هدفين أساسيين مترابطين هما من جهة احتضان واستيعاب اليهود العرب الذين ينتمون إلى النسيج القومي والثقافي العربي الإسلامي ولهم جذور عميقة في ساحاتهم الأصلية، ومن جهة أخرى التواصل مع الأوساط اليهودية غير الصهيونية التي طورت في السنوات الأخيرة خطاباً نقدياً مهماً لنسف السردية الإسرائيلية في أبعادها الأسطورية المؤسسة. إن هذا الخطاب يتمحور حول اتجاهات فكرية وأكاديمية من بينها المؤرخون الإسرائيليون الجدد والمدرسة ما بعد الصهيونية وحلقة الدراسات الثقافية ما بعد الكولونيالية وحلقة الدراسات الاستيطانية الاستعمارية.. وما يجمع بين هذه الاتجاهات هو تفكيك المتخيّل الصهيوني في مكوناته الأساسية: أسطورة أرض الميعاد، ووهم الهوية اليهودية المتعالية على التاريخ، وأسطورة العودة... مع إبراز الطابع الاستعماري الاستيطاني للمشروع الصهيوني ذاته الذي بلوره «هرتزل» وطرحه بوضوح في سياق الحركة الاستعمارية الأوروبية لخلق «جدار عازل مع آسيا والقيام بمهنة التمدين ونقل الحضارة التي تضطلع بها الأمم الأوروبية في العالم» حسب عبارات «هرتزل» نفسه.
ووفق هذه الرؤية، لا فرق بين المشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين ومشروع الاستيطان والفصل العنصري في جنوب أفريقيا من حيث الرؤية والآليات العملية، كما بين عالم الاجتماع «باروخ كمبرلينغ» في كتابه «الصهيونية والأرض» معتبراً أن السيطرة على الأرض تمت حسب ثلاث آليات هي: التملك القسري والمزارع الجماعية والسيطرة العسكرية، وأفضت إلى فرض نظام فصل وتمييز في الأراضي المحتلة وحتى في حدود 1948 بالإشارة إلى وضع السكان العرب المضطهدين الذين يمثلون خمس السكان.
واليهود العرب أنفسهم (من السفارديم) تعرضوا للتمييز ذاته من خلال النظرة القدحية الدونية، وأخضعوا لمسار تقويضي لهوياتهم القومية والثقافية لفصلهم عن محيطهم الأصلي انطلاقاً من السردية القومية اليهودية المختزلة في المكون الأوروبي.
وما نريد أن نبيّنه هو أن المطروح اليوم أمام توقف مسار التسوية السلمية وعقم خيار عسكرة العمل السياسي الذي لا تتوفر أدواته الموضوعية (على رغم محاولات الاستغلال السياسي والتوظيف المصلحي لدى بعض الدول والمجموعات السياسية) هو نقلة جديدة في إدارة الصراع مع «إسرائيل». فمع الإقرار بالأبعاد القومية والدينية في الملف الفلسطيني، إلا أن النجاعة العملية تقتضي التركيز على الأبعاد الإنسانية والقانونية لنظام الاستعمار الاستيطاني في فلسطين، واعتماد نفس آليات المواجهة التي اعتمدتها الحركة الوطنية في جنوب أفريقيا. وفي هذا السياق، نشير إلى حركة مقاطعة إسرائيل النشطة في الجامعات الأوروبية ومقاطعة البضائع الإسرائيلية المنتجة في الأراضي المحتلة بصفة متزايدة في العالم، فضلًا عن قرار منظمة اليونسكو التاريخي بشأن القدس الذي ينفي أي حقوق سيادية لإسرائيل في المدينة المقدسة.
لقد بكينا طويلًا مصير القدس الإسلامية والمسيحية -وحق لنا البكاء- بقي علينا اليوم أن نحول موضوع القدس وفلسطين إلى محكمة الضمير الإنساني.
*نقلا عن صحيفة الاتحاد