تصاعدت مؤشرات أو مظاهر العبودية الحديثة، التي ترتكبها حكومات أو فاعلون مسلحون من غير الدول (تنظيمات إرهابية وعصابات إجرامية وجماعات هجينة بينهما) في الشرق الأوسط، خلال الأعوام القليلة الماضية، على نحو ما عبرت عنه جرائم محددة هى السبى والاسترقاق والعمل الجبري "السخرة" والزواج القسري والعنف الجنسي والاغتصاب الممنهج والاتجار بالبشر وخاصة بالأطفال والنساء، واستعباد المهاجرين في مراكز الاحتجاز، وغيرها من الممارسات التي تشبه الرق.
وقد تمثلت مظاهر الرق الجديد في حالات عملية هى انتعاش تجارة الرقيق في ضواحي مدينة طرابلس، واضطهاد الأقليات الدينية والمذهبية في بؤر الصراعات المسلحة، والانتهاكات القطرية لحقوق العمالة الأجنبية، وترحيل اللاجئين الأفارقة في إسرائيل، واسترداد ضحايا العبودية الجنسية في أفغانستان حياتهم المسلوبة، وإعلان الحكومة التونسية وضع جريمة التمييز العنصري على طاولة النقاش، وهو ما يمكن توضيحه بشئ من التفاصيل، على النحو التالي:
أسواق العبيد:
1- انتعاش تجارة الرقيق في ضواحي مدينة طرابلس: تستغل جماعات التهريب انهيار نظام الرئيس الليبي السابق معمر القذافي، وما نتج عنه من فراغ أمني وسقوط ضخم لمخازن أسلحة في أيدي الفاعلين المسلحين، بما يسمح لعشرات الآلاف من الأشخاص بعبور دول شمال إفريقيا إلى إيطاليا التي تقع على بعد 300 كم عن السواحل الليبية. فقد باتت ليبيا مركز مرور للمهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء (غينيا والسنغال ومالي والنيجر ونيجيريا وجامبيا) الساعين للوصول إلى أوروبا، بحيث تعرضوا للاغتصاب والتعذيب والعبودية، نتيجة عدم القدرة على ضبط حركة تدفق اللاجئين.
وفي هذا السياق، أشار تقرير بثته شبكة "سي إن إن"، في 14 نوفمبر الجاري، تم تداوله بشكل واسع على شبكات التواصل الاجتماعي، إلى عرض شابين للبيع في المزاد للعمل في إحدى المزارع، بمبلغ 1200 دينار ليبي، أى 400 دولار لكل منهما، ويحتجزون لشهرين أو ثلاثة في السجون. وقد أعلن نائب رئيس حكومة الوفاق أحمد معيتيق، في تصريحات صحفية في 19 نوفمبر الجاري، أن حكومة الوفاق "بصدد تكليف لجان مختصة للتحقيق في التقارير المنشورة لضبط المتهمين وتقديمهم للعدالة".
وقد أثار ذلك استياء القادة الغربيين والأفارقة والمنظمات الدولية على حد سواء. فعلى سبيل المثال، أعرب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عن صدمته، داعيًا إلى محاكمة المسئولين عن العملية بتهمة ارتكاب جريمة ضد الإنسانية، فيما أبدى رئيس الاتحاد الإفريقي ألفا كوندي استنكاره، وأعرب الاتحاد الأوروبي عن اشمئزازه، وطالبت فرنسا بعقد اجتماع عاجل لمجلس الأمن حول بيع مهاجرين أفارقة كرقيق في ليبيا، وفق ما أعلنه وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان في 22 نوفمبر الجاري.
ودعا مدير قسم غرب ووسط إفريقيا في منظمة العفو الدولية عليون تين في تصريحات صحفية إلى إدراج مسألة استئصال العبودية على جدول أعمال قمة الاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي في 29 و30 نوفمبر في أبيدجان عملاً باقتراح رئيس النيجر محمدو يوسفو، وأضاف: "ينبغي تشكيل لجنة تحقيق محايدة لمعرفة كيف يتم تنظيم عمليات التهريب هذه ومن هم المسئولون عنها، وليتحمل الكل مسئولياته".
كما أشارت منظمة الهجرة الدولية، في إبريل الماضي، إلى وجود "أسواق الرقيق" في ليبيا، إذ قال المتحدث باسم المنظمة ليونارد دويل: "إنهم يتحولون فيها إلى بضائع معروضة للشراء والبيع والرمى حين لا تعود لها قيمة". ونددت رئيسة منظمة "أطباء بلا حدود" جوان ليو في رسالة مفتوحة إلى الحكومات الأوروبية في سبتمبر الماضي بـ"شبكة واسعة من الخطف والتعذيب والابتزاز في ليبيا"، وأضافت: "في جهودها من أجل احتواء تدفق المهاجرين، هل ستكون الحكومات الأوروبية مستعدة لتحمل ثمن الاغتصاب والتعذيب والعبودية"، قبل أن تختم: "لن يكون بوسعنا القول إننا لم نكن نعلم".
سبايا "داعش":
2- مساعدة الأقليات المضطهدة في بؤر الصراعات المسلحة: تشير بعض التقارير الصادرة عن مراكز الأبحاث والتفكير والمنظمات الحقوقية ووسائل الإعلام إلى أن مسلحي تنظيم "داعش" خاصة في مناطق نفوذه الرئيسية السابقة في سوريا والعراق كانوا يبيعون النساء والفتيات للاسترقاق أو استغلالهم في الاستعباد الجنسي. ويكشف التقرير السنوي الصادر عن وزارة الخارجية الأمريكية عن جرائم اضطهاد ارتكبها هذا التنظيم من خلال الاغتصاب والخطف والعبودية.
وفي هذا السياق، طالبت السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي، في بيان نشر في 22 نوفمبر الجاري، بعد لقاء مع الأمين العام للأمم المتحدة، بتخصيص قسم من مساهمة الولايات المتحدة الأمريكية في برنامج الأمم المتحدة للتنمية إلى المسيحيين والأيزيديين في العراق بهدف تجاوز الأضرار التي لحقت بهم من جراء ممارسات تنظيم "داعش".
بعبارة أخرى، تهدف هذه المبادرة الأمريكية إلى دفع أموال أكبر إلى أقليات دينية في العراق بعد المآسي التي تعرض لها الرجال والنساء، سواء بالقتل أو الأسر أو الاستعباد أو التوظيف كمقاتلين، منذ سيطرة التنظيم على مناطق رئيسية في العراق وسوريا في منتصف عام 2014، كما تهدف إلى عودة هؤلاء إلى أوطانهم.
خطايا الدوحة:
3- الانتهاكات القطرية لحقوق العمالة الأجنبية: حرصت الحكومة القطرية على التغطية على الانتهاكات التي تقوم بها بالتوقيع على 36 اتفاقًا لحماية حقوق العمالة مع دول توفر لها معظم قواها العاملة في الثلث الأخير من أكتوبر 2017، وأغلبها آسيوية، وخاصة النيباليين، حيث يواجهون الاستغلال والإساءات التي ترقى إلى العبودية في العصر الحديث، وفقًا لما تحدده منظمة "العمل الدولية". فقد أعلنت الحكومة النيبالية وفاة 188 من رعاياها العاملين في الدوحة في عام 2014 و168 في عام 2013، وهو ما يعود إلى مدة العمل الطويلة والحرارة المرتفعة ونقص إجراءات السلامة في مواقع العمل وأوضاعهم المعيشية المزرية.
وتعلقت تلك الاتفاقات بالإعداد لوضع حد أدنى للأجور وإنشاء صندوق لدعم التوظيف سيساعد العمالة التي لها مستحقات لم تحصل عليها والسماح للعمالة بتغيير جهة العمل والعقود وفرض غرامات على أصحاب العمل الذين يصادرون جوازات سفر العاملين. كما أعلنت الحكومة القطرية، في العام الماضي، أن وزارة التنمية الإدارية والعمل والشئون الاجتماعية سوف تحقق مع الشركات المتعاقدة الضالعة في تلك الانتهاكات، ودأبت على نفى مزاعم انتهاك حقوق العمالة الوافدة.
ويأتي هذا التوجه كإجراء استباقي لتحقيق دولي محتمل كانت منظمة "العمل الدولية" ستجريه في انتهاكات تتعلق بحقوق العمالة الأجنبية، إذ تشير بعض التقارير الدولية إلى "الاستغلال والعبودية وسوء المعاملة وظروف عمل قاسية خاصة بالنسبة للعمال في مشاريع البنى التحتية والمنشآت الرياضية التي تعدها استعدادًا لاستضافة بطولة كأس العالم لكرة القدم عام 2022". ورغم الإجراءات التي اتخذتها الحكومة القطرية إلا أن الجماعات الحقوقية ترى أن تلك الإجراءات لم تلب الحد الأدنى المطلوب.
وقد زار وفد من منظمة "العمل الدولية" الدوحة في مارس 2016، وأجرى تقييمًا للإجراءات التي اتخذتها الحكومة القطرية لمعالجة المسائل التي أثيرت في شكوى قدمت بشأن مخالفة أحكام "اتفاقية العمل الجبري" و"اتفاقية تفتيش العمل" الصادرتين عن المنظمة. وأقر التقرير الذي أعده الوفد بالخطوات التي اتخذتها الحكومة القطرية لمعالجة انتهاكات حقوق العمالة الأجنبية، لكنه أشار إلى استمرار وجود الكثير من الخروقات. لذا، أرجأت المنظمة اتخاذ قرار بشأن ما إذا كان يتعين تشكيل لجنة تحقيق بخصوص قطر إلى مارس 2017 ثم إلى نوفمبر من العام نفسه.
هواجس تل أبيب:
4- ترحيل اللاجئين الأفارقة في إسرائيل: الذين فروا من بلادهم، رغم أن بعضهم يقيم فيها على مدى يزيد عن عشر سنوات. وقد أعلنت الحكومة الإسرائيلية، في 30 يونيو 2017، أن هناك 38043 مهاجرًا إفريقيًا في البلاد بينهم أكثر من 27 ألفًا من إريتريا و7896 مهاجرًا من السودان، بينما قدم الباقون من دول إفريقية غير محددة.
وفي هذا السياق، زار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في سبتمبر الماضي، منطقة جنوب تل أبيب مع تزايد سخط قطاعات من الرأى العام الإسرائيلي من قدوم المهاجرين الأفارقة إليها، حيث قام الإسرائيليون بتشكيل "جبهة تحرير جنوب تل أبيب" للضغط على الحكومة من أجل اتخاذ إجراءات قاسية ضد الوافدين الجدد.
وقد تعهد نتنياهو أمام وسائل الإعلام الإسرائيلية بـ"إعادة جنوب تل أبيب إلى الإسرائيليين، إذ أن الأفارقة هناك ليسوا لاجئين بل متسللين غير شرعيين، حصلوا على تأشيرات إقامة قصيرة المدى"، وهو ما يعبر عن إدراك الحكومة الإسرائيلية لمخاطر بقاء الأفارقة حتى لو كانوا يعاملوا كـ"عبيد" في الداخل.
الباشا بازي:
5- استرداد ضحايا العبودية الجنسية في أفغانستان حياتهم المسلوبة: برزت ظاهرة اغتصاب الذكور كآفة خفية يعاني منها عدد من الفتيان تم استعبادهم جنسيًا على مدى عدة سنوات في العاصمة الأفغانية كابول، ويعانون من نظرات الاحتقار. وعلى الرغم من ذلك، عندما يصبح هؤلاء الضحايا أحرارًا، يواجهون صعوبات للتحرر من الدور الذي فرض عليهم، وتحديدًا التحول إلى أنثى أو ما يطلق عليه "الباشا بازي"، على نحو دعا الرئيس الأفغاني أشرف غني للمرة الأولى في هذا العام إلى فرض عقوبات على ممارسي "الباشا بازي".
وفي بعض الأحيان، يلجأ بعض هؤلاء الفتيان إلى التوصل لصفقات سرية مع حركة "طالبان" التي تجند فتيانًا استعبدوا جنسيًا ويريدون الانتقام مما حدث لهم على مدى سنوات وقتل مغتصبيهم في صفوف قوات الشرطة، لا سيما بعد أن لحق العار بالآباء والأمهات الذين يحاولون مساعدة أبنائهم الناجين الذين تعرضوا لانتهاكات وحشية. فقد يكون الضحايا محظوظين في الهرب من المعتدين عليهم لكن يظل ماضيهم عائقًا أمامهم حسب بعض الاتجاهات.
التمييز العنصري:
6- إعلان الحكومة التونسية وضع جريمة التمييز العنصري على طاولة النقاش: وهو ما أشار إليه الوزير المكلف بالعلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان مهدي بن غربية، في 21 مارس 2017، على نحو يكشف عن وجود اتجاه لسن إطار تشريعي واضح يعاقب كل مرتكب جريمة بدافع اللون أو الدين أو الجنس، إذ تسعى الحكومة إلى إقرار مشروع القانون بصيغة تشاركية مع مكونات المجتمع المدني، وبالتعاون مع المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان لمواجهة حالات التمييز العنصري.
فقد شهدت تونس، في 24 ديسمبر 2016، الاعتداء بالعنف على طالبتين كونغوليتين تدرسان بإحدى الجامعات التونسية. وأثارت هذه الحادثة الرأى العام التونسي، لدرجة دعت إلى إعلان رئيس الحكومة يوسف الشاهد 26 ديسمبر من كل عام، يومًا وطنيًا لمناهضة التمييز العنصري في البلاد. وقد اعترف الشاهد في تصريحات إعلامية سابقة بأن بلاده لا تزال من الدول التي يعاني فيها ذوو البشرة السوداء داخل المجتمع، مع العلم بأن إلغاء الرق في هذه الدولة كان إحدى الخطوات السباقة لحاكم تونس أحمد باشا باي في 23 يناير 1864.
حالات متعددة:
خلاصة القول، شهدت بعض دول الإقليم، وخاصة في بؤر الصراعات المسلحة، زيادة في حالات الاتجار بالبشر، والعمالة القسرية، عبر مناطق محددة تعد مصدر عبور وهدف للرجال والنساء والأطفال، يتعرضون للاستغلال من قبل أرباب العمل عبر الحصول على أجور متدنية وإساءة المعاملة الجسدية والاحتجاز على متن السفن، فضلاً عن الابتزاز من قبل رجال الأمن، على نحو يعكس تعدد حالات العبودية الحديثة، الأمر الذي يظهر جليًا في تقديرات واستطلاعات منظمة "العمل الدولية" ومنظمة "الهجرة العالمية".