هموم أهل الخليج تتضاعف وتتشعب. ويزداد معها عدد الجبهات المفتوحة في أكثر من ميدان. من اليمن الخاصرة الدامية جنوب شبه الجزيرة إلى قطر والمشكلة المستمرة استعصاء. ومن المواجهة المتصاعدة مع إيران من العراق إلى سورية فلبنان أخيراً وليس آخراً. ومن ليبيا إلى قضية فلسطين مجدداً، مع استعداد الإدارة الأميركية لطرح رؤيتها لاستئناف المفاوضات، وتصورها للتسوية. انخراط المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، ودول أخرى في مجلس التعاون، في هذا القوس الواسع من الجبهات المشتعلة مستمر بلا كلل، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً. إضافة إلى تحديات الداخل والسعي المتواصل إلى استراتيجيات مختلفة، في صلبها استعادة الإسلام الذي تختطفه من سنوات بل عقود حركات الإسلام السياسي المتشدد والتنظيمات الإرهابية على أشكالها. بالتوازي مع التقدم نحو تحديث في بنى الثقافة والمجتمع، وتنويع مصادر الدخل فلا يظل أسير النفط والغاز وما يتفرع منهما. ونحو توسيع الشراكات الاستراتيجية وتنويعها فلا تبقى أسيرة شريك استراتيجي واحد، وإن كان لا يزال على رأس النظام الدولي الذي ترغب قوى كثيرة أخرى في تبديل صورته وعناصره. لذلك تجهد الديبلوماسية الخليجية ليس لترسيخ فكرة استقلال دول مجلس التعاون وإمساكها مصيرها بيدها فحسب، بل لتقديم نفسها لاعباً فاعلاً يعوض الغياب العربي الكبير عن الساحة الدولية والإقليمية. لذلك تواصل نهج التوجه نحو قوى كبرى شرقاً وغرباً. من روسيا إلى الصين واليابان والدول الإسلامية الكبرى في آسيا، من باكستان وأندونيسيا وماليزيا.
«ملتقى أبو ظبي الاستراتيجي الرابع» اختصر، كعادته كل سنة، العناوين الكبرى للمشهد الاستراتيجي، دولياً وإقليمياً وعلى مستوى الداخل الخليجي. وهو ملتقى يعقده «مركز الإمارات للسياسات» بتعاون مع وزارة الخارجية في الإمارات و «مجلس الأطلسي» في الولايات المتحدة» و «مركز جنيف للسياسات الأمنية» في سويسرا. الدكتورة ابتسام الكتبي قدمت في افتتاح الملتقى قراءتها للمشهد العام. وأكدت «أن الخطوة الأولى لتجاوز الحالة التي تعصف بمنطقتنا وصياغة مستقبلها هو في إعادة بناء دول المنطقة، ومنظومتها الإقليمية على أسس من العقلانية السياسية والأخلاقية، والتوازنات الإقليمية والعيش المشترك وقيم السلم». وأكد وزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتي الدكتور أنور قرقاش، أهمية «أن نمسك مصيرنا بأيدينا»، والتعويل على دور السعودية الرائد وعودة مصر إلى دورها ومواجهة التدخلات الخارجية، خصوصاً الإيرانية، في شؤون المنطقة.
يبدأ أهل الخليج بأنفسهم. لا يوفرون مجلسهم للتعاون من النقد والتشريح. ويرون أن الأزمة مع قطر أضرت بمنظومتهم التي بدت لعقود عصية على السقوط. لذلك قد لا ترقى المقاربة لحل هذه الأزمة إلى مرحلة الحسم، كأن طرفيها يتحاشيان الوصول إلى هذه المرحلة من الخيارات. في المقابل تتكرر الدعوات إلى نقل التعاون إلى مرحلة قيام اتحاد بين دول المجلس. وإلى بناء قوة حقيقية رادعة وقادرة على التعامل مع التحديات والتدخلات. وإلى تبديد مخاوف الدول الصغرى من الكبرى بين أعضائه، وتوسيع المشاركة في اتخاذ القرار، وتغيير الميثاق، فلا تظل قرارات المنظومة رهن إجماع لن يتوافر ما دامت دوله لا تبدي استعداداً للتنازل عن جزء من سيادتها، كما الحال مثلاً في الاتحاد الأوروبي. فلا يخفى مثلاً أن أي قرار سيطاول قطر ومستقبل بقائها في المجلس لا يمكن أن يحظى بالإجماع، فالكويت تلتزم موقفاً حيادياً ولا تزال تقوم بوساطتها، في حين أن سلطنة عمان نأت بنفسها عن هذه الأزمة. وبالتالي لا يتوافر لأي قرار أكثر من ثلاثة أصوات يشكل أصحابها طرف الأزمة مع الدوحة. ونادى بعضهم بتغيير المنظومة وتوحيد العقيدة العسكرية والأمنية، وبديبلوماسية جماعية بديلاً من العلاقات الثنائية التي تقيمها كل دولة من الدول الست مع الخارج. إنها دعوة صريحة إلى خلق مجلس جديد بآليات مختلفة، خصوصاً أن محاورين عدوا الأزمة مع الدوحة «جوهرية وبنيوية وطويلة».
بالطبع ما يثقل على شبه الجزيرة هو «ثقل» إيران وسياستها التوسعية. وتفاقم المخاوف من حرب أخرى في المنطقة التي عانت من تبعات حروب مدمرة في العقود الثلاثة الماضية. من حرب الخليج الأولى إلى غزو صدام حسين الكويت، ثم تحرير هذه الدولة، وأخيراً الغزو الأميركي للعراق. إضافة إلى الحروب التي اشتعلت على حدود مجلس التعاون، من العراق إلى اليمن، وغرب البحر الأحمر حتى مصر التي لا تزال تخوض حربها على الإرهاب. لا تريد دول المجلس الذهاب إلى الحرب. لكنها تعلن صراحة ترحيبها بالسياسة التي ينهجها الرئيس دونالد ترامب لمواجهة الجمهورية الإسلامية. لقد عانت طويلاً من سياسة سلفه باراك أوباما بغض الطرف عن سياسات طهران في سبيل إبرام الاتفاق النووي. ودعم قوى الإسلام السياسي لعلها تشكل رافعة للتغيير على غرار النموذج التركي. لكن هذه الحسابات أثمرت ما أثمرت من فوضى في كل الإقليم. وساهمت في تشجيع التطرف، نتيجة تغول أحزاب الإسلام المتطرف واستعجالها في سياسة «التمكين» وإن بالقوة والإرهاب، ونتيجة أيضاً لسياسات الجمهورية الإسلامية في «العواصم الأربع»، بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء. من هنا لا تعارض دول المجلس تغيير نظام هنا أو هناك إذا كانت البدائل ما حدث ويحدث في «دول الربيع».
بالتأكيد لا تسعى دول في مجلس التعاون إلى حرب مع إيران التي لا يمكنها أن تكون «دولة أمة» و»دولة ثورية» في وقت واحد. تدعم سياسة احتوائها وهز العصا بوجهها إذا صح التعبير. والحديث عن الحرب ارتفعت وتيرته إثر الأزمة التي أشعلتها استقالة سعد الحريري. فقد طغت على هامش الندوات التي تناولت طوال يومين معظم التحولات والتطورات الدولية والإقليمية، ومآل الأزمات في الدول العربية التي تعاني حروباً متنوعة. كأن لبنان قفز فجأة بعد هذا الاهتمام العربي والدولي بخطوة الحريري وتداعياتها، إلى صدارة النزاعات القائمة في جواره. أو كأن لبنان قاب وقوسين وأدنى من انفجار كبير سيجر المنطقة كلها إلى صراع واسع مفتوح. وبمقدار ما شكلت خطوة الحريري «صدمة» ترددت أصداؤها بعيداً، أشاعت مخاوف من تأثيرها على الاقتصاد اللبناني، وحتى على الحضور اللبناني في بعض دول الخليج إذا لم يتصرف الحكم في بيروت حيال سياسة «حزب الله» الذي اتهمته السعودية واتهمت إيران بأنهما وراء إطلاق الصاروخ الباليستي على الرياض.
لبنان فرض حضوره، من الباب الواسع الذي تناول «تفكيك شيفرة إيران» ودورها في عدد من أزمات المنطقة. من اليمن، خصوصاً حيث طرح نائب رئيس الجمهورية رئيس الوزراء السابق خالد بحاح ثلاثة سيناريوات لمسار الأزمة، مركزاً على وجوب ما سماه «إعادة هندسة الشرعية». ونالت ليبيا نصيبها من التشريح، في ضوء المساعي والمقاربات التي يقودها المبعوث الدولي الدكتور غسان سلامة. وفي ضوء تناحر القوى المحلية على ثروة البلاد، وتعدد المواقف العربية المتناقضة حيال التسويات. وكذلك كان العراق حاضراً وحيث يراد لميليشيات «الحشد الشعبي» أن تكون على غرار «الحرس الثوري». ولم يقتصر الحديث على تدخلات الجمهورية الإسلامية. تطرقت الحوارات إلى تركيا تحت عنوان «إحياء أمة أم تراجعها»، فهي تبتعد اليوم عن حلفائها التقليديين لتعمق التفاهم مع روسيا وإيران. فهل هذا النهج مجرد انعطافة مرحلية وبراغماتية فرضتها ظروف المنطقة، أم أن تركيا أردوغان التي تتغير جذرياً في الداخل لن تتغير سياستها وخياراتها الخارجية وستبقى علاقاتها بالغرب «جوهرية واستراتيجية»؟ أما سورية التي تمثل «قلب التوسع الإيراني» فتفتقر إلى سياسة أميركية مختلفة لا تقوم على مجرد التسليم بأن بلاد الشام من مسؤولية روسيا. ولا يتوقع كثيرون أن تنجح موسكو في إرساء تسوية مقبولة، ما لم تحد من نفوذ طهران. وهي تشكو بعد كل اتفاق على التهدئة في هذه الناحية أو تلك من أن الجمهورية الإسلامية والميليشيات تتصرف كأنها ليست معنية. وهي عملياً لا تمارس ضغوطاً لازمة عليها في هذه المرحلة ما دام التفاهم مع واشنطن يبدو بعيد المنال. لذلك يظل مآل الأزمة السورية معلقاً بين التهدئة واستمرار الحرب. وتملك الدول المعنية برفع قبضة إيران وإخراجها من سورية خيارات واسعة لإرغامها على ذلك، عندما ترى روسيا مصلحة في تقليص انخراطها العسكري.
وكما في كل ملتقى ثمة قراءات في دور روسيا وطموحها لإحياء ما كان لها أيام الاتحاد السوفياتي، وهل هي «رؤية متقادمة لعالم يتجدد» فعلاً بخلاف «عودة آسيا إلى المستقبل، من قراءات في حال الصين والهند واليابان. وكان لحركات الإرهاب نصيب من الحوارات التي لم تتفق على مستقبل الإسلام السياسي، هل باق ومستمر أم أنه إلى انقراض. كلها عناوين تعبر عن اهتمام أهل الخليج الذين يستعدون لتحولات كبرى في شتى الميادين، ويخوضون مواجهات في أكثر من ميدان وجبهة، فهل ينجحون في تجاوز التحديات الداخلية والخارجية والمبادرة إلى فرض التغيير المطلوب بما يلبي مصالحهم وأمنهم واستقرار الإقليم وإعادة إحياء الدور العربي المغيب؟
*نقلا عن صحيفة الحياة