مثَّلت الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند إلى مصر، في شهر أبريل 2016، استمراراً للعلاقات الجيدة بين البلدين؛ نظراً لما أسفرت عنه من اتفاقيات في عدد من المجالات المختلفة، وكذلك لنتائجها ودلالاتها السياسية في وقت اهتزت فيه العلاقات المصرية – الإيطالية على إثر الجدل المثار حول حادثة مقتل الباحث الإيطالي جوليو ريجيني، وأيضاً في ظل تنامي خطر الإرهاب والتوترات الإقليمية في الشرق الأوسط، ومحورية الدور المصري بالمنطقة، وعودة فرنسا لممارسة نفوذها مرة أخرى في الإقليم.
اتفاقيات اقتصادية
شهدت زيارة الرئيس الفرنسي إلى القاهرة توقيع نحو 30 اتفاقية وإعلان نوايا ومذكرات تفاهم بقيمة إجمالية بلغت حوالي 2 مليار يورو، في عدة مجالات متنوعة، كان في مقدمتها الجانب الاقتصادي.
وتُوِّجت الجهود المصرية نحو تعزيز مصادر الطاقة (الكهرباء، الغاز الطبيعي، البترول)، بالاتفاقيات التي أبرمتها الحكومة المصرية مع الوفد الفرنسي في هذا المجال؛ حيث تم توقيع اتفاق لتوصيل الغاز للمنازل بقيمة 68 مليون يورو مُقدمة من الاتحاد الأوروبي، وكذلك قرض لإنشاء محطة رياح شرق بورسعيد بقوة 250 ميجا وات بتكلفة 50 مليون يورو، والذي يعد جزءاً من الاستراتيجية القومية المصرية لتطوير الطاقة المتجددة وزيادة النسبة المنتجة 20% بحلول عام 2020.
واستمراراً لخطة الحكومة المصرية الهادفة إلى تجنب انقطاع الكهرباء خلال فصل الصيف في ظل ضغط الاستهلاك، تم توقيع اتفاقية تعاون بين شركتي "المصرية لنقل الكهرباء" و"جي جارد" الفرنسية لتطوير قدرات المحولات الكهربائية وتعزيز الطاقة، وإنشاء مركز تحكم إقليمي للشبكة الكهربائية بمنطقة الدلتا بتمويل يبلغ 50 مليون يورو، وكذلك توقيع مذكرة تفاهم لإنشاء محطة طاقة شمسية في سيناء بقدرة 400 وات.
وينسحب ذلك التعاون على مجالات أخرى خدمية، مثل اتفاق التعاون مع شركة فينسي الفرنسية لإنشاء الخط الثالث من مترو الأنفاق، ومنحة بمبلغ 80 مليون يورو من الحكومة الفرنسية لتطوير ترام رمسيس هليوبلس، بالإضافة إلى قرض قيمته 60 مليون يورو لتوسيع محطة صرف صحي بشرق الإسكندرية، للتخلص الآمن من النفايات.
وتأتي كل هذه الاتفاقيات لدفع مسار العلاقات الاقتصادية المصرية – الفرنسية نحو الأمام؛ خاصةً في ظل تراجع حجم التبادل التجاري بين البلدين خلال عام 2015 بنحو 1.14% ليبلغ 2.583 مليار يورو مقابل 2.61 مليار يورو في عام 2014، حسب تصريحات طارق قابيل وزير التجارة والصناعة المصري.
كما شهدت قيمة الصادرات المصرية في العام الماضي انخفاضاً بنحو 54.3% لتبلغ 472.7 مليون يورو مقابل 1.04 مليار يورو في عام 2014، بينما زادت الواردات المصرية بنحو 32.9% لتبلغ 2.1 مليار يورو مقابل 1.58 مليار يورو.
ويؤشر مستوى الشراكة الاقتصادية، والاتفاقيات ومذكرات التفاهم الموقعة بين البلدين، إلى حجم الأهمية الاستراتيجية لمصر في المنطقة، إذ أنه يدل على مدى الثقة التي تمنحها فرنسا لمصر برغم كل ما تمر به الأخيرة من أزمات، الأمر الذي سيساهم بدوره في تعزيز تعاون مصر مع دول أخرى في القارة الأوروبية.
وقد تسهم الزيارة في الترويج للسياحة المصرية، حيث دعا هولاند، خلال جولته في المتحف القبطي بالقاهرة، مختلف بلدان العالم إلى زيارة مصر، مؤكداً أن الفترة القادمة ستشهد تعاوناً بين مصر وفرنسا في مجال العمل الأثري.
تعاون عسكري
أسفرت زيارة الرئيس فرانسوا هولاند عن توقيع عقود اتفاقيات جديدة مع مصر في مجال التسليح بلغ إجمالي قيمتها ما يقرب من 1.1 مليار يورو. ووفقاً لما نشرته وكالة رويترز، فقد استحوذ اتفاق عسكري واحد على 30% من إجمالي قيمة الاتفاقيات الموقعة سواء العسكرية أو الاقتصادية (2 مليار يورو)، وبلغت قيمته 600 مليون يورو، ويتعلق بشراء مصر نظام اتصالات فضائي عسكري فرنسي.
وقد تعززت العلاقات العسكرية بين مصر وفرنسا بشكل لافت في الفترة الأخيرة، حيث بدأت الصفقات العسكرية بين البلدين في فبراير 2015، عندما اشترت القاهرة طائرات رافال الفرنسية (24 طائرة وفرقاطة بحرية وعدة صواريخ قصيرة المدى) في صفقة بلغت قيمتها نحو 5.2 مليار يورو.
كما اتفقت الحكومة المصرية، في أكتوبر الماضي، على شراء سفينتين حربيتين من طراز ميسترال بقيمة 950 مليون يورو، بعد شهرين فقط من تراجع فرنسا عن بيع السفينتين لروسيا بسبب العقوبات المفروضة عليها جراء النزاع في أوكرانيا.
وفي مارس 2016، أجرى الجيش المصري مناورات عسكرية بحرية وجوية مشتركة مع قوات الجيش الفرنسي، على السواحل المصرية تحت اسم "رمسيس 2016"، وشاركت فيها قطع عسكرية اشترتها القاهرة من باريس.
ومما لا شك فيه أن تلك الصفقات مثَّلت نقلة نوعية هامة في العلاقات العسكرية بين مصر وفرنسا، كما حققت منافع متبادلة لكلٍ منهما؛ فمن ناحية ساهمت في تعزيز قدرات مصر العسكرية، ونوَّعت مصادر تسليحها، حيث لم يعد اعتمادها في هذا الشأن قاصراً على دول بعينها. ومن ناحية أخرى، حققت فرنسا، من وراء صفقاتها العسكرية مع مصر، مكاسب اقتصادية، فضلاً عن الترويج لمقاتلاتها العسكرية، وتوقيع صفقات مماثلة مع دول أخرى.
تنسيق في الملفات الإقليمية
بدا التوافق ملحوظاً في عدد من الملفات الإقليمية التي تعرَّضت لها المباحثات بين الجانبين الفرنسي والمصري؛ ومن أهمها ما يلي:
1- مكافحة الإرهاب: اكتسبت هذه القضية أهمية خاصة في المناقشات بين الوفد الفرنسي والجانب المصري، في ظل خطورة التهديدات الإرهابية التي أصبحت تهدد منطقة الشرق الأوسط وأوروبا، ما يتطلب مزيداً من التنسيق والتعاون بين البلدين لمواجهة هذه التحديات الخطيرة.
وأكد الرئيسان السيسي وهولاند على أهمية العمل المشترك للتعامل مع ظاهرة المقاتلين الأجانب، ومكافحة الإرهاب بصفة عامة، واستكشاف سُبل مواجهته، من خلال مقاربة شاملة لا تقتصر فقط على المعالجة الأمنية، ولكن تشمل أيضاً التصدي للأفكار المتطرفة.
2- الأزمة الليبية: كانت التطورات في ليبيا على رأس المباحثات بين الرئيسين الفرنسي والمصري، على اعتبار أن تدهور الوضع الأمني في ليبيا يمثل هاجساً لكل من القاهرة وباريس، ويؤثر على مصالحهما، وبالتالي فهما أولى بإيجاد حلول للأوضاع هناك.
وأكد الرئيسان هولاند والسيسي على دعمهما لحكومة الوفاق الوطني بقيادة فايز السراج، وللجيش الليبي، بما يساهم في تحقيق الأمن والاستقرار في البلاد، والتصدي للجماعات الإرهابية، وفي مقدمتها تنظيم "داعش" الإرهابي.
3- الصراع في سوريا: أبرزت زيارة هولاند إلى القاهرة مدى التفاهم بين البلدين فيما يتعلق بالملف السوري، حيث أكد الرئيس السيسي أنه تم الاتفاق مع نظيره الفرنسي على تنسيق الجهود المشتركة للتوصل إلى حل سياسي في سوريا.
وتحرص مصر على إيجاد تسوية سياسية للصراع في سوريا، بما يحفظ وحدتها الإقليمية ويتوافق مع إرادة السوريين، ويساعد على إعادة اللاجئين والنازحين منهم إلى وطنهم. وترى القاهرة أن هذه التسوية يمكن أن تسفر عن حكومة وطنية يتم الاتفاق عليها عبر مفاوضات يشارك فيها كل الأطراف من النظام والمعارضة السورية.
وقد دعمت فرنسا هذا الحل السياسي مؤخراً، وهو ما أكده وزير خارجيتها لوران فابيوس، في سبتمبر 2015، بأن الحل في سوريا يمر عبر تشكيل حكومة وحدة وطنية تضم أطرافاً من النظام والمعارضة، معتبراً أن المطالبة برحيل الرئيس بشار الأسد كشرط مسبق لحل الأزمة ليس واقعياً.
4- القضية الفلسطينية: في ظل عودة فرنسا لممارسة دورها في الشرق الأوسط، سعى الرئيس هولاند لحشد التأييد لمبادرة "باريس" الهادفة إلى إحياء عملية السلام في المنطقة. ومن جانبه، أعرب الرئيس السيسي عن دعم بلاده للمبادرة الفرنسية ولكافة الجهود الصادقة التي تهدف إلى إرساء الأمن والاستقرار بين الإسرائيليين والفلسطينيين في إطار حل الدولتين وإنشاء دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية.
دلالات الزيارة
يمكن القول إن زيارة الرئيس الفرنسي هولاند إلى القاهرة حملت دلالات عديدة في إطار العلاقات بين البلدين، ومن أبرزها ما يلي:
1- أنها أكدت أن مصر شريك أساسي لفرنسا في منطقة الشرق الأوسط، بالنظر إلى محورية دور القاهرة في الملفات الإقليمية المختلفة التي تهم باريس.
2- أوضحت الزيارة دعم فرنسا للنظام المصري الحالي وللاستحقاقات السياسية التي ساهم في إنجازها خلال الفترة الأخيرة، وآخرها انتخابات مجلس النواب الذي زاره هولاند.
3- جاء توقيت الزيارة في ظل توتر العلاقات المصرية - الإيطالية على خلفية قضية ريجيني، وبالتالي من الممكن أن تلعب باريس دور الوساطة بين القاهرة وروما.