تنتشر عمليات تهريب الوقود المدعم، سواء البنزين أو المازوت أو السولار، في المنطقة العربية، وخاصة عبر الحدود الرخوة في بؤر الصراعات المسلحة، التي تقوم بها عصابات منظمة أو جماعات عشوائية، وهى جزء من التجارة الموازية التي تشكلت مع مافيا منظمة إقليمية ودولية، في إطار ما يطلق عليه "السوق السوداء للوقود"، إذ تضم المافيا عمال محطات البنزين والموزعين والسائقين، والذين لديهم دراية عميقة بجغرافيا المناطق.
وبوجه عام، تمر دورة التهريب بعدة مراحل من المُهرِّب في دولة ما إلى الشريك في الدولة الأخرى الذي يجمع الوقود من المحطات ثم المُهرِّب المتخصص إلى أن يصل للمُوزِّع وأخيرًا إلى صغار الباعة. وقد يستعمل المُهرِّبون الحمير أو الجمال كوسائل للتمويه في نقل أو تهريب الوقود عبر مسالك جبلية وعرة. في حين قد تتم عمليات التهريب، في بعض الحالات، تحت أعين قوات حرس الحدود أو ضباط الجمارك التي توفر لهم الحماية مقابل مبالغ مالية متفق عليها.
وقد تتم عمليات تهريب الوقود بشكل تقليدي بواسطة جالونات أو صفائح بلاستيكية، على نحو ما هو قائم بين خطوط الحدود بين ليبيا وإيطاليا، والمغرب والجزائر، والجزائر وتونس، والسعودية والأردن، ولبنان وسوريا، وسوريا وتركيا، والضفة الغربية وإسرائيل، لأسباب مختلفة، وفقًا لكل حالة على حدة، وهو ما يتعين معه تطوير استراتيجيات متنوعة للحد من اختراقات "لوبيات تهريب الوقود".
مؤشرات عاكسة:
إن ثمة مجموعة من المؤشرات التي تكشف عن انتشار هذا النمط من التجارة غير الشرعية في المنطقة العربية، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:
1- تفكيك شبكة لتهريب الوقود الليبي مرتبطة بالمافيا الإيطالية: شهدت الفترة الماضية سرقة وقود من المؤسسة الوطنية الليبية للنفط ثم نقله إلى سفينة في عرض البحر الأبيض المتوسط قبالة سواحل مالطا ومنها إلى محطات الوقود في عدة دول أوروبية مثل إيطاليا وفرنسا وإسبانيا، على نحو يشير إلى أن ثمة تحولات في شبكات تهريب الوقود من النطاق العربي الإفريقي إلى النطاق الأوروبي.
ففي 18 أكتوبر الجاري، ألقت شرطة صقلية الإيطالية القبض على ستة أشخاص وتسعى للقبض على آخرين بتهمة إدارة شبكة لتهريب الوقود من ليبيا، حيث يتم بيع شحنات الديزل بمبلغ 35 مليون دولار لمحطات وقود في إيطاليا، وهو سعر أقل بنسبة 60 في المئة من أسعار السوق. وقد نجحت الشرطة الإيطالية في ضبط تلك الشبكة عبر استخدام تكنولوجيا التنصت على المكالمات الهاتفية التي تجرى عبر الأقمار الصناعية.
2- إلقاء القبض على أفراد متهمين بتهريب الوقود على الحدود اللبنانية - السورية: تمكنت دورية تابعة للجيش اللبناني- على نحو ما جاء في بيان صادر عنه في 18 أكتوبر الجاري- من ضبط نحو 40,000 لتر من مادة المازوت الأخضر، بالإضافة إلى 3 مضخات و8 خزانات سعة الواحدة منها نحو 50,000 لتر، وعدد من الخراطيم الممتدة على جانبي الحدود، وذلك بالقرب من أحد الطرق القريبة من منطقة البقيعة.
3- إعلان جهاز الأمن الوقائي الفلسطيني، أو الضابطة الجمركية، ضبط كميات من السولار المغشوش: وذلك في شهرى أغسطس وسبتمبر الماضيين، حيث يتم تهريبه من إسرائيل إلى الضفة الغربية وتحديدًا في المناطق المصنفة "ج"، وتشغل ما يقرب من 60 في المئة من ساحة الضفة وتخضع للسيطرة الأمنية والإدارية الإسرائيلية بالكامل، ويتم تهريبها إلى المدن الفلسطينية لتوزيعها وبيعها إما بشكل فردي وإما إلى محطات تعبئة غير مرخصة.
ووفقًا لتصريح صادر عن مدير دائرة العلاقات العامة والإعلام في الضابطة الجمركية الرائد لؤى بني عودة لموقع "المونيتور" التحليلي في 21 سبتمبر 2017 فإنه "منذ بداية العام الجاري وحتى 31 أغسطس، تم ضبط 82 ألف لتر من السولار المغشوش والمُهرَّب، وهو رقم يفوق ما تم ضبطه طيلة عام 2016، وهو 58300 لتر".
4- ازدياد الإقبال على تهريب الوقود التونسي خلال فصل الصيف (يونيو- سبتمبر 2017): نظرًا لتوافد عدد كبير من السياح الجزائريين والليبيين إلى تونس، وعادة ما يستخدم هؤلاء السياح سيارات عائلية مزودة بخزان إضافي يهربون فيها كميات من الوقود للتنقل دون حاجة للتزود من محطات البنزين التونسية.
وفي هذا السياق، قال حمادي الخميري الكاتب العام للغرفة الوطنية النقابية لشركات توزيع النفط في تونس، في ندوة حول "التجارة الموازية للمحروقات" بالعاصمة تونس في 5 ديسمبر 2016: "إن قطاع المحروقات في البلاد يخسر نحو نصف مليار دينار (217 مليون دولار) نتيجة تفاقم تهريبها للأسواق المحلية". وأضاف: "إن 30 بالمئة من مبيعات المحروقات في السوق المحلية مصدرها قنوات تهريب، تتم عبر الحدود مع ليبيا والجزائر.. وإن قطاع المحروقات يشتكي من التهريب منذ أكثر من عشرين عامًا، ولم يكن يجاوز حينها 10 بالمئة من الاستهلاك، لترتفع النسبة اليوم إلى 30 بالمئة".
وتجدر الإشارة إلى أن هناك مجموعة من العوامل التي تفسر ازدياد تهريب الوقود في المنطقة العربية، ويتمثل أبرزها في:
استثمار الفوضى:
1- تفاقم الفوضى الأمنية: على نحو ما هو قائم في ليبيا بعد انهيار نظام معمر القذافي في عام 2011، حيث انتشرت شبكات التهريب، سواء للبشر أو الآثار أو الوقود. وقد ساهمت تلك الفوضى في توقف الإنتاج في أبرز الحقول والموانئ النفطية. وهنا تشير الحالة الليبية إلى شبكة فساد مترامية الأطراف لتهريب الوقود بدءًا من مالكي محطات الوقود وسائقي السيارات الصغيرة، وصولاً إلى الكتائب المسلحة.
وقد انطلقت عملية "عاصفة المتوسط" في مايو 2017 لمكافحة تهريب الوقود عبر السواحل الليبية، حيث قام المُهرِّبون بنقل الوقود في شاحنات صهاريج إلى دول الجوار مثل تونس غربًا والنيجر وتشاد والسودان جنوبًا، وفي سفن إلى السواحل الأوروبية، ولا سيما مالطا. ويعد من بين الجهات التي استهدفت (شركات التوزيع- مشرفي محطات الوقود- بعض مسئولي شركة البريقة لتسويق النفط- الشركات الناقلة للوقود)، إلا أن عمليات التهريب لازالت مستمرة.
لذا، قال رئيس لجنة أزمة الوقود والغاز التابعة للمؤسسة الوطنية للنفط ميلاد الهجرسي، في تصريحات صحفية في 10 مايو الماضي: "إن إجمالي كميات الوقود المُهرَّبة عبر الحدود البرية تقدر بأربعة ملايين لتر يوميًا، ومن ناحية البحر تصل إلى حد 15 مليون لتر". وأضاف: "لضمان استمرار مكافحة عمليات تهريب الوقود المدعوم يتطلب الأمر مساندة ودعم من وزارة الدفاع ومن قوات حرس الحدود والقوات البحرية والجوية وحرس السواحل".
الأطراف الرخوة:
2- اختراق الحدود السائلة: انتشرت في تونس ظاهرة تهريب الوقود بشكل كبير من دول الجوار الإفريقي إليها، وتحديدًا من الجزائر عبر الحدود الغربية ومن ليبيا عبر الحدود الشرقية بواسطة شبكات تهريب متخصصة ومنظمة. وتستخدم شبكات تهريب الوقود من ليبيا إلى تونس شاحنات خفيفة وثقيلة كما تستخدم الخزانات المضاعفة في الشاحنات أو حتى السيارات العائلية المزودة بخزان إضافي.
في حين تستخدم شبكات تهريب الوقود من الجزائر إلى تونس الحمير نظرًا لوجود سلسلة جبلية وعرة. لذا، فإن تهريب الوقود الجزائري يرفع أسعار الحمير في تونس. وقد تستخدم الشبكات شاحنات مزودة بخزانات كبيرة. ويمكن لزائر المدن التونسية الحدودية أن يلاحظ تواجد البنزين الجزائري على جوانب الطرق.
نقاط الاشتعال:
3- اشتعال الصراعات المسلحة: التي تحولت من النطاق الداخلي إلى السياق الإقليمي. إذ ضبط الجيش اللبناني، في أكتوبر الجاري، كميات من مادة المازوت النفطية المُهرَّبة بين لبنان وسوريا، وهو ما يأتي في سياق تداعيات الحرب السورية على الحدود اللبنانية- السورية، التي ساهمت في تكوين جماعات مصالح اقتصادية على طول خطوط الحدود، وصار من مصلحتها استمرار تلك الصراعات نظرًا للمكاسب الاقتصادية التي تقتطفها.
تنمية غير متوازنة:
4- استفحال الأزمة الاقتصادية: وهو ما قد تلجأ إليه قوات حرس الحدود التونسية إزاء أهالي المناطق الجنوبية الحدودية الفقيرة، وفقًا لاتجاهات عديدة، وذلك للمساهمة في التعامل مع إشكالية التنمية غير المتوازنة، والحد من الاحتقان الاجتماعي الذي تعاني منه قطاعات واسعة من الشباب بسبب الفقر والبطالة، وهو ما يفسر تصاعد الاحتجاجات المناطقية في ولاية تطاوين، التي تطالب بنصيب من الثروة الطبيعية على نحو ما انعكس في الاحتجاجات التي رفعت فيها شعارات كتب عليها "أين البترول؟".
وتدفع تلك الأوضاع السلطات التونسية المختصة إلى تجنب إتباع استراتيجية "الخنق الكلي" لتجارة الحدود غير الشرعية. وتشير بعض التقديرات غير الرسمية إلى أن نسبة الوقود التونسي المُهرَّب يقدر بنحو 40 في المائة من مجموع الوقود المستهلك في البلاد، وارتبط قاطنو المناطق الحدودية بمستوى معيشة معين يعتمد على التجارة مع ليبيا سواء عبر القنوات الرسمية أو التهريب بما يؤمِّن مورد رزق أو يساهم في توفير مواد استهلاكية ذات أسعار منخفضة.
تجارة مربحة:
5- إغراء العوائد المالية: الناتجة عن التجارة غير الشرعية في المناطق الحدودية. إذ أن تهريب الوقود ذو مردود عالٍ لا يمكن للسكان العيش من دونه في بعض الحالات، لا سيما في ظل غياب برامج تنموية أو مشروعات استثمارية في بعض المناطق داخل الدولة العربية تخفف من وطأة الفقر وتستوعب البطالة، وهو ما ينطبق جليًا على ساكني المناطق الجنوبية التونسية مقارنة بالعاصمة أو المحافظات الكبرى مثل صفاقس وسوسة وقابس والمهدية. وتجدر الإشارة إلى أنه توجد عائلات تونسية تقدم نفسها على أنها متخصصة في تجارة المحروقات.
استهلاك مرتفع:
6- ارتفاع معدلات الاستهلاك وتراجع الإنتاج المحلي: على نحو ما هو قائم في الجزائر، لا سيما بعد تفاقم الكميات التي يتم تهريبها. فقد قدر وزير الداخلية السابق دحو ولد قابلية، في 14 يوليو 2013، كميات الوقود لا سيما مادة البنزين المُهرَّبة بنحو 25 بالمائة من الإنتاج الوطني. كما كشف تقرير رسمي صادر عن الحكومة الجزائرية من أربع سنوات بأن قيمة الوقود المُهرَّبة عبر الحدود يفوق مليار دولار سنويًا، بما يعادل مليون طن كل عام.
فروق التسعير:
7- تذبذب أسعار الوقود: برزت في السنوات الأخيرة عمليات تهريب الوقود بشكل علني على بعض الطرق والمنافذ الحدودية بين الأردن والسعودية، عززتها فروق الأسعار بين الدولتين. فقد أدى الارتفاع الحاد في أسعار الوقود في الأردن إلى تكوين تجارة نفط رائجة بين مجموعة من الأفراد الذين يقطنون المحافظات التي تقع على الحدود المشتركة، وتمثلت هذه التجارة في شراء الوقود السعودي– الأرخص سعرًا مقارنة بأسعاره في الأردن- حيث تقوم هذه المجموعات بتهريبه مستخدمين خزانات وقود إضافية لسياراتهم العادية، ومن ثم بيعه بمبالغ تصل إلى أضعاف سعره الأساسي. إلا أن السلطات السعودية اتخذت إجراءات عديدة خلال الفترة الماضية للحد من تلك الظاهرة.
مسارات متوازية:
خلاصة القول، لقد صارت ظاهرة تهريب الوقود في المنطقة العربية ذات أبعاد اقتصادية ومجتمعية وسياسية وأمنية، ولا يمكن القضاء عليها بشكل نهائي وإنما الحد منها إلى أدنى المستويات، وهو ما يتطلب السير في اتجاهات متوازية، منها تطوير قدرات العاملين في حرس الحدود، والاستعانة بقوات الشرطة في مواجهة مافيا التهريب أيضًا، وتغيير شبكة المرشدين السريين العاملين ضمن مخابرات حرس الحدود، فضلاً عن إعادة النظر في المقاربات الحكومية حيال تنمية المناطق الحدودية في المناطق المهمشة على نحو ما هو قائم في جنوب تونس، وتيسير الإجراءات الجمركية المتعلقة بالتجارة مع ليبيا، باعتبارها المورد الوحيد لغالبية السكان، وتخصيص جزء من العائدات التي يتم تحصيلها من معبر رأس جدير الحدودي للتنمية المحلية.