أقلّ ما يمكن قوله إنّه لأسباب كثيرة، يزداد المجتمع الأميركي انقساماً أكثر فأكثر، على خلفيّة أقوال الرئيس دونالد ترامب وأفعاله. وهو واقع يتّضح للعيان كلّ مساء على شاشات التلفزيون، حيث تتحوّل حتّى أكثر النقاشات تنظيماً إلى مباريات كلام شوارع، يحاول كلّ مشارك فيها تخطّي نبرة صوت الآخر، وهذا كلّه في دولة يفترض أن تكون الأكثر تقييماً للحق بحرّية التعبير المضمونة دستوريّاً، وحقّ حرّية التجمّع ضمن ظروف سلميّة، بموجب التعديل الأوّل لدستور الولايات المتّحدة. لكنّ هذين الحقّين ليسا راسخين كالحجر على صعيد الممارسة كما كنّا نتمنّى، إذ تعتمد المحكمة العليا عقائد بالغة التعقيد حيال هذين الحقّين، كتلك التي تعدّل طبيعة الزمان والمكان والطريقة التي تُفرض بها بعض القيود على حرّية التعبير والتجمّع.
ومع ذلك، وكما هو الحال بالنسبة إلى شؤون أخرى كثيرة، تبدو الأمور التي يفترض أن تكون مرتبطة بالدستور أكثر تعقيداً بكثير مما قد تبدو عليه في البداية، على صعيدي التطبيق والقيود التي يحتمل أن تُفرَض عليها.
فمن جهة، أصدرت محكمة عليا حكماً بأنّ «مفهوم الفكرة الخاطئة ليس موجوداً». ومن جهة أخرى، من الملفت أنّ القانون لا يغطّي الأحكام المتّصلة ببعض الأفعال الشرّيرة، مثل إطلاق إنذار كاذب باندلاع حريق داخل مسرح مكتظّ بالناس. ومن التداعيات الإضافية لذلك مثلاً، أنّ القائلين بسيادة اصحاب البشرة البيضاء لا يملكون الحقّ بتهديد الأفراد، أو المشاركة في أعمال عنف، أو حثّ الآخرين على انتهاك القانون. وفي المقابل وإن لم يكن ما سبق كافياً، اعتاد جميع الأطراف أن يزعموا أنهم يتمتعون بحرّية التعبير، في حين يحاولون باستمرار فرض القيود على حرية تعبير الآخرين.
أضف إلى ذلك أنّ الولايات المتحدة اليوم يحكمها رئيس مزاجيّ، يستمدّ طاقة هائلة من التحدّث أمام حشود منصاعة له، لا سيّما عندما يبتعد من النصوص المكتوبة ويتوجّه إلى قاعدة ناخبيه مباشرةً، معتمداً في بعض الأحيان نبرةً حادّة وكلاماً مغمّساً بسياسة الخوف، ملامساً بالتالي حدود المنطق المقبول ومتخطّياً إيّاها أحياناً، ما يشجّع على انطلاق نقاش يوميّ حول ما تعنيه أو لا تعنيه كلمات الرئيس، وحول القصد الفعلي من الكلام الذي قاله. وفي هذا الإطار، ويل لأي شخص يحاول التعالي على ترامب!
أمّا الحقوق الدستوريّة التي تحمل قيمة فورية كبيرة جداً في الكثير من الأحيان، على الرغم من قلّة وضوحها، فيجب أن يُبَتَّ مصيرها على الفور، وأن يمنحها عناصر الشرطة الأولويّة، أثناء قيامهم بعملهم الصعب القائم على اتّخاذ قرار حول ما إذا كانت الكلمات والتصرفات الصادرة تخدم المصلحة العامّة. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أنّ قراراً من هذا القبيل يُتَخذ على الفور، وفي الكثير من الأحيان قبل شهور من البت في المسألة بالطرق المناسبة في المَحاكم. علاوة على ذلك، يتّضح بالطريقة نفسها، لدى مشاهدة الكم الكبير من التظاهرات مؤخّراً على شاشات التلفزيون، أنّ عناصر الشرطة بمعظمهم رجال بيض البشرة، وهو ما يختلف كثيراً عن غالبيّة المتظاهرين.
وتظهر تعقيدات جديدة متى فكّر المرء في مسألتين مترابطتين أخريين، الأولى منهما هي ببساطة حقّ الاستماع. فمع الإصغاء إلى الشكاوى على خلفيّة التجمعات التي حصلت في الآونة الأخيرة، يتّضح أنّه حتى المشاركون فيها يعتبرون أنّ أعداداً كبيرة من الراغبين في التظاهر لم يحصلوا على فرصة لمشاركة الآخرين حقّهم في حرّية التعبير، إما بسبب الافتقار إلى عدد كافٍ من مكبّرات الصوت في ميدان التجمّع، أو أسوأ من ذلك، في حال كان المتأخّرون في الوصول إلى التظاهرات، من أشخاص مصابين بإعاقات وغيرهم، قد مُنعوا ببساطة من الاقتراب بما فيه الكفاية لاستيعاب ما يحصل. وقد ازدادت الأمور سوءاً في تظاهرة حصلت مؤخراً في بوسطن للدفاع عن حرية التعبير، إذ إنّ محتجّين على موضوع التظاهرة راحوا يسيرون خلف أوركسترا صاخبة جدّاً.
أمّا التعقيد الثاني، فناتج عن السؤال حول ما إذا كان عناصر الشرطة البيض البشرة بمعظمهم قادرين على احترام النوايا السلمية للشبان السود المشاركين في التظاهرة، بسبب الفكرة السائدة بأنّهم ينتمون إلى فئة خطيرة من المجرمين، وبالنظر إليهم على أنّهم بمثابة «أسلحة مشحونة»، بحسب ما قاله شاب أسود أخيراً، وهو يصف الوضع الراهن على التلفزيون، ناهيك عن أن عدداً كبيراً من القادمين إلى التظاهرات لا يكتفون بالقدوم حاملين أسلحتهم الخاصة، بل يحملون أيضاً لافتات معلّقة على أعمدة يمكن استعمالها كأسلحة من نوع آخر.
وأخيراً، نرى أنه في هذه الحقبة التي يسود فيها الغضب حيال التماثيل والأنصاب التي تذكّر بالحرب الأهلية الأميركية في ستينيات القرن التاسع عشر، تسود مخاوف حقيقية من عودة التوتر العرقي الماضي في غضون ثوانٍ، ومن اشتعال حرب أهليّة ثقافية، وسط أجواء تتّسم بالتفرقة العرقيّة والخوف ممّن ينتمون إلى عرق آخر. ويرى بعض الأشخاص، مثل رئيس بلدية شارلوتسفيل في ولاية كارولاينا الجنوبية، حيث بدأت كل الجلبة، أنّه من الحذر كسب الوقت، والاكتفاء بتغطية تمثالين مثيرين للجدل بقماش أسود. وعلى الرغم من اتخاذ خطوات في هذا الاتجاه، والعمل مثلاً على إزالة تماثيل مثيرة للجدل في أوستن بولاية تكساس، ونقلها إلى متحف محليّ، ثمة أمل بأن تصبح، هي والكتابات المنقوشة عليها، موضوع دراسات تندرج ضمن البحوث التاريخيّة.
أمّا عن المقولة القديمة حول إلقاء اللوم على حامل الرسالة بدلاً من الرسالة نفسها، فنرى أن المتحدثة باسم ترامب في البيت الأبيض، سارة هاكابي- ساندرز، تحاول تحوير المسؤولية عن حالة الفوضى كلّها، وإلقاءها على الصحافة بدلاً من الرئيس البذيء اللسان الذي تخدمه. وكم هو صحيح كلام الكاتب الإنكليزي ألدوس هكسلي، الذي أدلى يوماً بملاحظة حكيمة عندما قال: «إنّ اليقظة الدائمة ليست فقط ثمن الحرية، إنما أيضاً ثمن الكياسة البشرية».
*نقلا عن صحيفة الحياة