يُشير إعلان الحكومة الإيطالية، في منتصف أغسطس الجاري، أنها ستعيد سفيرها إلى القاهرة، بعد أكثر من عام من استدعائه على خلفية مقتل الباحث جوليو ريجيني؛ إلى تغير حسابات روما ليس فقط تجاه القاهرة، وإنما تجاه أزمات منطقة شمال إفريقيا ككل، والتي بات الفاعلون الإقليميون فيها يملكون أوراقًا متبادلة للضغط، بحكم تشابك الملفات وتداخلها.
إذ يسعى الإيطاليون في سياق تحركاتهم النشطة بالمنطقة إلى حصد أكبر عدد من أوراق اللعب، دفاعًا عن مصالحهم السياسية والاقتصادية، ودرءًا للتهديدات المتصاعدة (الإرهاب العابر للحدود، والهجرة غير الشرعية) منذ سقوط الأنظمة الحليفة لروما في جنوب البحر المتوسط، والذي يُشكِّل نطاقًا حيويًّا لتحركات الدولة الإيطالية، كونه الخاصرة الخلفية لأمنها القومي.
فبناء على أن القاهرة تُمثِّل "مفتاحًا مفصليًّا" في تفاعلات شمال إفريقيا، لا يمكن لروما الاستغناء عنها، أو حتى استمرار قضايا عالقة تشكل مواطن للتوتر بينهما، لا سيما في ظل مشهد إقليمي يتنامى فيه الدور المصري في ديناميات الأزمة الليبية، بخلاف أهمية القاهرة لروما في ملفات أخرى تقتضي تعاونًا بين الجانبين، (مثل: مكافحة الإرهاب، أو الهجرة، أو الطاقة).
معضلة ليبيا:
على الرغم من تبرير وزير الخارجية الإيطالي أنجلينو ألفانو توقيت إعلان بلاده بالتقدم إلى القاهرة بطلب الموافقة على تعيين السفير الجديد جيامباولو كانتيني بالمساعدة في تعزيز التعاون القضائي مع مصر لإجلاء حقيقة مقتل "ريجيني"، إلا أنه لا يمكن عزل ذلك عن حسابات روما الراهنة في تكريس نفوذها في الشأن الليبي، وهو أمر يحتاج إلى تنسيق إقليمي مع مصر.
ويتعاظم ذلك الأمر بالنسبة لإيطاليا في ضوء ميل موازين القوى في الداخل الليبي لصالح المشير خليفة حفتر (قائد الجيش الوطني الليبي) والذي سيطر على معظم شرق وجنوب ليبيا، مقارنة بحكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج التي تعاني وضعية هشة أمنيًّا واقتصاديًّا في غرب البلاد.
فقد سبق إعلان ألفانو ذلك موافقة البرلمان الإيطالي على إرسال سفينتين عسكريتين إلى سواحل طرابلس في مطلع أغسطس الجاري لمساعدة حكومة الوفاق في مكافحة الهجرة غير الشرعية التي تؤرق الأمن الإيطالي، بعد أن بلغ تدفق المهاجرين على سواحل إيطاليا في السنوات الأربع الماضية نحو 600 ألف شخص.
تلك الخطوة العسكرية الإيطالية، التي أثارت غضبًا واحتجاجات في طرابلس وبنغازي، استهدفت بالأساس بناء أوضاع استباقية ميدانية لمواجهة ما قد تسفر عنه جهود الوساطة الفرنسية والروسية في الأزمة الليبية من نتائج لا تنظر لها روما بارتياح؛ حيث تخشى تهميش مصالحها من قبل القوى الغربية، وهو ما بدا جليًّا في غضبها العلني من تدخل باريس لاستضافة لقاء حفتر والسراج في الشهر الماضي.
أضف إلى ذلك، فإن روما تسعى إلى دعم حليفها السراج أمام الجيش الوطني، تحسبًا سواء لنتائج عملية تعديل اتفاق الصخيرات المتعثر منذ توقيعه في ديسمبر 2015، أو خشية إقدام حفتر على مد نفوذه للعاصمة طرابلس، بما يؤثر على مصالحها، في ظل تصاعد التوتر الإيطالي معه بين حين وآخر، حتى إن الجيش الوطني الليبي هدد مؤخرًا بقصف أي سفينة تدخل المياه الليبية دون إذن.
من هنا، قد تكون مساعي روما لاستعادة علاقاتها الكاملة مع القاهرة في هذا التوقيت، مدخلًا لمنع سيناريو تمدد الجيش الوطني الليبي إلى طرابلس، في ضوء أن مصالح إيطاليا ترتكز أكثر في ليبيا على منطقتي الغرب والجنوب، فالأولى تعد مصدرًا لتصدير الغاز وساحة لحلفائها في طرابلس ومصراته، والثانية تمثل معبرًا للهجرة القادمة من إفريقيا جنوب الصحراء، مرورًا بليبيا، واتجاهًا نحو سواحل إيطاليا.
مصالح ثنائية:
بموازاة ذلك، ثمة حسابات إيطالية أخرى وراء السعي إلى إنهاء التوتر مع القاهرة تتعلق أكثر بطبيعة المصالح الثنائية بين البلدين، والمتشابكة -في الوقت نفسه- مع ملفات إقليمية، وهو الأمر الذي دفع مصر -بالمقابل- إلى الترحيب بقرار إعادة السفير الإيطالي، وتأكيد اعتزامها ترشيح السفير المصري هشام بدر لدى روما بشكل متزامن، خاصة أن موعد إعادة سفير روما لم يتحدد بدقة.
واقتصاديًّا، تُعد إيطاليا الشريك التجاري الأول لمصر على مستوى الاتحاد الأوروبي، حيث بلغت التجارة الثنائية بين البلدين قرابة 5.5 مليارات دولار في عام 2015، فضلًا عن استثمارات روما في مجالات متعددة في مصر (مثل: قطاعات النقل، والمصارف، وتكنولوجيا المعلومات، وغيرها).
والأهم من ذلك، مجال الطاقة، حيث تتولى شركة "إيني" اكتشاف حقل الغاز الطبيعي "ظهر" في منطقة امتياز شروق أمام السواحل المصرية في البحر المتوسط، والذي أعلن عنه في أغسطس 2015 وتقدر استثماراته بـ12 مليار دولار.
أيضًا، يمتد تعاون البلدين إلى مجالات مكافحة الإرهاب، وبرامج تدريب الشباب لمنع الهجرة غير الشرعية، بخلاف أن مصر ترغب في استعادة السياحة الإيطالية التي كانت قد بلغت قبل ثورة يناير 2011 قرابة مليون سائح، ثم تراجعت لتصل -وفقًا لبعض التقديرات- إلى أقل من نصف مليون سائح في عام 2015. هذا بالإضافة إلى وجود جالية مصرية في إيطاليا، تقدرها إحصاءات وزارة القوى العاملة المصرية في عام 2014 بـ82 ألف مصري.
ملفات متداخلة:
وتكتسب تلك المصالح الثنائية بين القاهرة وروما أهمية مضاعفة نظرًا لتشابكها مع ملفات أخرى في شمال إفريقيا. ذلك أن سقوط نظام القذافي في عام 2011 خلف تهديدًا للمصالح الإيطالية، بما دفع حكوماتها إلى الرهان أكثر على كل من مصر والجزائر وتونس لتعويض ما فقدته في ليبيا، ولكون هذه الدول مشتبكة أيضًا في ملفات مكافحة الهجرة والإرهاب والطاقة.
فعلى سبيل المثال، مع تأثر تدفقات الغاز الليبي إلى إيطاليا بعد عام 2011، فضلًا عن مخاوفها من تعطل إمدادات الغاز الروسي إليها إثر أزمة أوكرانيا في عام 2014، اتجه الإيطاليون إلى كلٍّ من مصر والجزائر كخيارات بديلة، وإن كانت الدولتان الأخيرتان تملكان بدورهما أوراق ضغط أخرى عبر ليبيا.
لذا، سارعت روما إلى دعم اتجاهات الاستقرار في المنطقة، انطلاقًا من مصر، بحسبانها القوة المحورية، بجانب الجزائر التي تجاوزت أساسًا مسار الثورات. فبعد سقوط نظام الإخوان المسلمين في مصر في يونيو 2013، سعت الحكومة الإيطالية إلى توطيد علاقتها مع الرئيس السيسي الذي زارها في عام 2014، وفي المقابل، قام ماتيو رينزي (رئيس الوزراء الإيطالي السابق) بزيارتين إلى القاهرة في عامي 2014 و2015.
ومع اكتشاف جثة الطالب الإيطالي جوليو ريجيني في فبراير 2016 في القاهرة، تعرضت العلاقات الثنائية للتوتر بين البلدين، لا سيما إثر استدعاء السفير الإيطالي من القاهرة في إبريل من العام نفسه. وفي ظل ضغوطات المعارضة على حكومة رينزي آنذاك، اتخذ مجلس الشيوخ الإيطالي قرارًا في يونيو 2016 بوقف تزويد مصر بقطع غيار عسكرية لطائرات الـ"إف 16" احتجاجًا على مقتل "ريجيني"، وهو ما واجهته -آنذاك- مصر بالتلويح بتأثير ذلك على تعاون البلدين في ملفات إقليمية مشتركة، في إشارة غير مباشرة للأزمة الليبية وملفات أخرى.
ولأن العقوبات الإيطالية جاءت في مجال تملك فيه القاهرة خيارات بديلة لا تجعلها تتأثر كثيرًا، لذا فهمت على أنها رسالة ضغط إيطالية، كي تتعاون مصر في التحقيق حول "ريجيني"، أكثر من كونها رغبة في القطيعة بين البلدين.
وقد استمر هذا التوجه الإيطالي الذي يتحسس خطواته كي لا يفقد الثقل المصري في شمال إفريقيا، بدءًا من حكومة رينزي إلى خليفته باولو جنتيليوني، والذي حرص منذ توليه رئاسة الوزراء في ديسمبر 2016 على الفصل أو على الأقل عدم تأثر التعاون المصري-الإيطالي في ملفات، مثل: ليبيا، والإرهاب، والطاقة، والهجرة، بمسار قضية ريجيني.
وبدا ذلك جليًّا في عدم تأثر الاستثمارات والمشروعات الإيطالية في القاهرة، بما أعطى رسالة بوجود دوافع مشتركة للبلدين لتجاوز أزمة ريجيني، وهو ما وضح في زيارة وفد روما برئاسة نيكولا لاتوري رئيس لجنة الدفاع بمجلس الشيوخ الإيطالي في الشهر الماضي، والذي التقى الرئيس السيسي، في مسعى لإزالة أية توترات، ودعم التعاون الثنائي في مجالات متعددة. ولعل البعض ربط بين زيارة الوفد الإيطالي، وما أشارت إليه وكالة "أنسا" الإيطالية مؤخرًا من أن القاهرة قد بعثت في الأسابيع الأخيرة التي سبقت قرار إعادة سفير روما للقاهرة بوثائق مهمة تشير لتقدم التعاون حول قضية "ريجيني".
على أن اتجاه روما لإنهاء التوتر مع القاهرة تواجهه تحديات تتعلق بالداخل الإيطالي الذي يشهد تصعيدًا من المعارضة ضد قرار حكومة جنتيليوني (يسار الوسط) بإعادة سفيرها للقاهرة، خاصة وأن قضية "ريجيني" تكتسب زخمًا حقوقيًّا وتوظيفًا سياسيًّا في أروقة الرأي العام، مما دفع الحكومة إلى تأكيد أن قرارها بإعادة السفير الإيطالي لمصر يسهم في استجلاء الحقيقة حول "ريجيني".
إلا أن الضغوطات على حكومة جنتيليوني تتجاوز قضية ريجيني إلى انتقاد المعارضة إدارة روما لملفات كالهجرة، وأزمة ليبيا، ما قد يُلقي بظلاله على الانتخابات العامة المقرر إجراؤها في مايو القادم، والتي تصبّ التوقعات باتجاه صعود "حركة النجوم الخمسة" الشعبوية التي عرفت بروزًا لافتًا في الانتخابات المحلية الأخيرة في عام 2016.