أثارت مباحثات المشير "خليفة حفتر"، قائد الجيش الوطني الليبي، مع وزيري الخارجية "سيرجي لافروف" والدفاع "سيرجي شويجو"، خلال زيارته لروسيا في 14 أغسطس الجاري العديد من التساؤلات حول دوافع تلك الزيارة، التي تأتي بعد أقل من شهر على لقائه رئيس حكومة الوفاق الوطني، فايز السراج، بباريس في 25 يوليو الماضي، وإصدارهما بيانًا مشتركًا من عشر نقاط لدفع التسوية السياسية للأزمة الليبية. وقد حملت المباحثات انتقادات غير مباشرة للوساطة الفرنسية في الأزمة.
أهداف الزيارة:
لم تكن زيارة حفتر الأخيرة إلى روسيا هي الأولى من نوعها، حيث قام خلال العام الماضي (2016) بزيارتين في شهري يونيو ونوفمبر أجرى خلالهما مباحثات مع وزيري الدفاع والخارجية الروسيين. وفي يناير 2017 زار حاملة الطائرات الروسية بالبحر الأبيض المتوسط "الأميرال كوزنيتسوف"، وقد أجرى مباحثات مع وزير الدفاع الروسي خلال تلك الزيارة عبر الدائرة التلفزيونية المغلقة.
ركز حفتر خلال مباحثاته الأخيرة مع وزيري الخارجية والدفاع الروسيين على سبل مواصلة التنسيق مع موسكو على مختلف الأصعدة، وكيفية تنشيط الدور الروسي في التسوية السياسية للأزمة، وما يمكن أن تقدمه من دعم عسكري للجيش الليبي في معركته ضد الإرهابيين، والدور الذي يمكن أن تلعبه في إلغاء حظر توريد السلاح إلى بلاده.
استغل المشير وجوده في روسيا لإطلاق تصريحات مثلت إخلالًا بالبيان المشترك بعد لقائه السراج في فرنسا، والذي نص على وقف إطلاق النار، والعمل على إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية جديدة، حيث صرح حفتر بأن "90% من الأراضي الليبية تحررت من الإرهابيين، وأنه سيتم مواصلة العمل حتى تحرير كافة أراضي الدولة"، في إشارة غير مباشرة لاحتمال تنفيذ تهديداته باقتحام العاصمة طرابلس. كما وجه انتقادات لرئيس حكومة الوفاق الوطني، واتهمه بالإخلال بالكثير من المبادئ التي تم الاتفاق عليها بباريس.
من جانبه، شدد وزير الخارجية الروسي خلال لقائه بحفتر على ضرورة تنشيط عملية التسوية السياسية للأزمة الليبية، مبديًا استعداد موسكو للمساهمة في تحقيق هذا الهدف، كما وجه -أيضًا- انتقادات غير مباشرة للوساطة الفرنسية في الأزمة، حيث طالب بضرورة "أن تتولى الأمم المتحدة الإشراف على كل جهود الوساطة"، وأنه "لا بديل عن توصل الليبيين بأنفسهم إلى حلول من دون تأثيرات خارجية". وأكد أن خطر التطرف والإرهاب في ليبيا لا يزال قائمًا.
الدوافع الروسية:
استهدفت روسيا من استقبالها الأخير للمشير حفتر تحقيق مجموعة من الأهداف، يتمثل أبرزها في الآتي:
1- الرغبة في تأمين مصالحها وتعزيز نفوذها في ليبيا، من خلال لعب دور محوري في التسوية السياسية للأزمة الليبية، وتقديم الدعم لحفتر الذي بات يُسيطر على معظم مناطق شرق وجنوب ليبيا بما يحول دون تجاهلها في أية ترتيبات جديدة للأزمة، وحتى لا تُكرر خطأ فبراير 2011 عندما تركت حلف شمال الأطلنطي (الناتو) يتدخل للإطاحة بالعقيد معمر القذافي، وينفرد بإدارة المشهد في ليبيا، مما أضر في النهاية بمصالحها ونفوذها في تلك الدولة.
2- استغلال تعيين "غسان سلامة" كمبعوث أممي جديد في ليبيا، وسعيه للتواصل مع مختلف الأطراف الدولية المعنية بالأزمة الليبية لبلورة تصور جديد بشأن حل الأزمة الليبية، بما يضمن إشراكها في تسوية الأزمة ومراعاة مصالحها باعتبارها لاعبًا أساسيًّا هناك؛ حيث أعلن لافروف خلال لقائه حفتر أنه يتوقع زيارة "سلامة" لروسيا قريبًا، بما يحول في النهاية دون انفراد الدول الأوروبية بالهيمنة على تصورات وأفكار المبعوث الأممي الجديد.
3- مزاحمة النفوذ السياسي والعسكري الأوروبي والأمريكي المتصاعد في ليبيا من خلال تقديم كافة أنواع الدعم لحفتر. ففرنسا تتمتع بنفوذ في الشرق بتقديمها دعمًا سياسيًّا وعسكريًّا لحفتر، وتزعمها جهود الوساطة مؤخرًا في ليبيا. وتتمتع كل من بريطانيا وإيطاليا والولايات المتحدة بنفوذ في المنطقة الغربية بدعمهم السياسي والعسكري لحكومة الوفاق الوطني، والقوات التابعة لها منذ عملياتها ضد تنظيم "داعش" في مدينة سرت أواخر العام الماضي. فضلًا عن بدء روما منذ مطلع شهر أغسطس الجاري نشر قطع بحرية حربية في المياه الإقليمية الليبية.
4- السعي لاستخدام الملف الليبي ومدى حساسيته للأمن القومي الأوروبي، لتدفق موجات الهجرة غير الشرعية نحو الدول الأوروبية انطلاقًا من السواحل الليبية، واستغلال التنظيمات الإرهابية للفوضى في ليبيا لإقامة معسكرات للتدريب والإعداد لشن عمليات إرهابية في الغرب، كورقة ضغط للحصول على تنازلات من الدول الأوروبية في ملفات أخرى كالأزمة الأوكرانية، والعقوبات الغربية المفروضة عليها.
دوافع حفتر:
في المقابل، يستهدف حفتر من زيارته الأخيرة إلى روسيا تحقيق جملة من الأهداف التي يتمثل أبرزها فيما يلي:
1- الاستعانة بروسيا لموازنة أية ضغوط محتملة من قبل فرنسا بصفة خاصة، والقوى الأوروبية بصفة عامة، للالتزام بالنقاط العشر التي تضمنها البيان المشترك الصادر عن اللقاء بالسراج في باريس في 25 يوليو الماضي، خاصة وأنه قد صرح من قبل بأن كل الأمور التي وردت في البيان لا يمكن أن تتحقق.
2- تأمين مزيد من الدعم العسكري الروسي للجيش الليبي، سواء كان في صورة أسلحة أو تدريبات عسكرية أو تعاون استخباري؛ حيث إن لدى حفتر قلقًا من استخدام فرنسا دعمها العسكري له كورقة ضغط لتقديمه تنازلات لخصومه، ومنعه من تنفيذ تهديداته باقتحام العاصمة طرابلس بهدف إنجاح وساطتها في الأزمة الليبية. وفي هذا الشأن أعلن المشير خلال زيارته إلى موسكو أنه لن يتوقف حتى يسيطر على كافة التراب الليبي.
3- استكمال هدفه المتمثل في الحصول على اعتراف دولي بشرعية تحركاته العسكرية على الأرض، والانتصارات التي حققها مؤخرًا على التنظيمات المتطرفة في شرق وجنوب ليبيا.
4- تأمين فيتو روسيا في مجلس الأمن للحيلولة دون صدور أية قرارات من المجلس ضد الجيش الوطني الليبي، خاصة في حال تنفيذ تهديداته باقتحام العاصمة الليبية طرابلس، فضلًا عن قطع الطريق على أية محاولات لرفع جزئي لحظر التسليح عن ليبيا بالسماح لحكومة الوفاق الوطني والأجهزة الأمنية التابعة لها والتي يأتي على رأسها "جهاز الحرس الرئاسي" بالحصول على الأسلحة من الخارج.
التحركات المستقبلية:
من المرجح إقدام روسيا خلال الفترة المقبلة على مجموعة من الخطوات تجاه ليبيا يتمثل أبرزها في الآتي:
1- زيادة دعمها السياسي والعسكري لحفتر باعتباره الحليف الأساسي لها في ليبيا في مواجهة التنظيمات المتطرفة، والأداة الأساسية لموازنة النفوذ الأمريكي والأوروبي في طرابلس.
2- تعزيز قنوات الاتصال مع قوى الغرب الليبي ممثلة في حكومة الوفاق الوطني، والتي بدأتها باستقبال رئيسها "السراج" في مارس 2017، وذلك تمهيدًا للعب دور مستقبلي أكبر في تسوية الأزمة الليبية يوازن الدور الأوروبي، وذلك بعدما تركت في السابق القوى الغربية تنفرد بإدارة ملف التسوية السياسية للأزمة.
3- مزاحمة التواجد العسكري الأوروبي بمنطقة البحر الأبيض المتوسط المتمثل في العملية العسكرية البحرية الأوروبية "صوفيا" قبالة السواحل الليبية، والتي تم تمديدها مؤخرًا في 25 يوليو لنهاية عام 2018، والذي تعزز أيضًا بعد نشر إيطاليا سفنًا حربية في المياه الإقليمية الليبية.
وفي الختام، تستهدف التحركات الروسية الأخيرة تجاه الأزمة الليبية بالأساس تعزيز نفوذها في ليبيا بصفة خاصة وفي منطقة البحر الأبيض المتوسط بصفة عامة؛ بما يجعلها لاعبًا أساسيًّا في ليبيا ومنطقة شمال إفريقيا، وهو ما يسعى المشير خليفة حفتر لاستغلاله وتوظيفه للحصول على مزيد من الدعم السياسي والعسكري الروسي في مواجهة خصومه من التنظيمات المسلحة في الغرب الليبي، وفي مواجهة الضغوط الإقليمية والدولية لتقديمه تنازلات كالاعتراف بشرعية حكومة الوفاق الوطني، والالتزام بتنفيذ الاتفاق السياسي الموقّع في مدينة الصخيرات المغربية في 17 ديسمبر 2015 لدفع التسوية السياسية.