مصر هي الدولة غير الخليجية الوحيدة التي دخلت مع السعودية والإمارات والبحرين في التحالف الرباعي ضد الممارسات القطرية الداعمة للإرهاب. صحيح أن هناك دولاً عربية وأفريقية وآسيوية عدة عانت من سياسات الحكومة القطرية في السنوات الأخيرة واتخذت إجراءات ضد الدوحة، لكن تظل لشراكة مصر الكاملة في التحالف المناهض للإرهاب معانٍ ودلالات كثيرة، بحكم ثقل دور مصر، وكونها من أكثر الدول التي تضررت من جموح الدور القطري، والذي تدخل في ملفات عدة ذات علاقة مباشرة بالأمن القومي المصري.
جموح الدور القطري لم يقتصر على محاولة المساس بالأمن القومي المصري، بل تخطاه ليشمل أمن دول الخليج والأمن القومي العربي، في تناقض غريب بين إمكانات دولة صغيرة، لكن ثرية وضعيفة في الوقت ذاته نتيجة وضعيتها الجيوسياسية والسكانية. هذا التناقض المأسوي يذكر بمحاولة ليبيا القذافي لعب دور ثوري عربي وعالمي، يتجاوز إمكانات ليبيا كدولة وأوضاعها الجيوسياسية، والمدهش أن فكرة ومضمون الدور في الحالتين الليبية والقطرية بعيد تماماً عن الواقع الفعلي للسياسة الداخلية في البلدين، فجماهيرية القذافي لم تكن ثورية ولا ديموقراطية، كذلك فإن الحكم في الدوحة ليس ديموقراطياً ولا يؤمن بالتعددية أو يسمح بوجود معارضة من أي نوع، حتى يدعي أنه ينشر ويدافع عن الديموقراطية والتغيير في المنطقة العربية!
ويبدو أن صانع السياسة القطرية تجاهل عن عمد حقائق التناقض بين الأدوار الإقليمية والدولية التي يمكن أن يقوم بها، وبين الإمكانات والأوضاع الجيوسياسية التي يعلمنا التاريخ أنها تؤطر وتحدد أي أدوار أو سياسات خارجية وتتحكم بها، لذلك ظهر كثير من التقارير والآراء التي ترى أن قطر لا تلعب منفردة، وإنما تقوم بلعب أدوار وتنفذ سياسات مرسومة لها، خصوصاً في ظل الحراك السياسي الكبير في المنطقة والذي عرف بالربيع العربي، وكانت إدارة باراك أوباما راهنت على هذا الحراك لإعادة تقسيم وتفتيت بعض الدول العربية، بالتحالف مع أنظمة إسلاموية معتدلة في المنطقة تقودها جماعة «الإخوان». وبغض النظر عن صحة التحالف القطري- الأميركي وبخاصة في عهد أوباما، فالمعتقد أن مجمل السياسات القطرية شكل خروجاً غير مسبوق عن ثوابت وتقاليد السياسة الخليجية والعربية، وقدم نموذجاً من الشطط والجموح بين الأدوار والإمكانات الجيوسياسية.
من هنا فإن الأزمة القطرية الحالية قد تأتي بنتائج ترشد أداء السياسة الخارجية القطرية من خلال إعادة التوازن بين الإمكانات والأدوار في السياسات الخارجية، وأتصور أنه إذا نحينا خطاب الدوحة الخاص بالمظلومية والتدخل في شؤونها الداخلية، فإن مطالب الدول الأربع من حكومة قطر تصب في مصلحة الشعب القطري، لأن تنفيذها يعقلن السياسة الخارجية القطرية، ويضعها في المسار الصحيح، بعيداً من الدخول في أزمات وإنفاق أموال طائلة لا تعود بمكاسب سياسية أو معنوية على قطر، وإنما تورطها في مزيد من الأزمات، حيث تقوم الحكومة القطرية بدعم أطراف وجماعات إرهابية تعمل في دول لم يكن بينها وبين قطر علاقات اقتصادية أو تاريخية من أي نوع.
والثابت أن مصر كانت من أكثر الدول التي تضررت نتيجة جموح وشطط السياسة الخارجية القطرية. من هنا كان من الطبيعي أن تشارك مصر في محاولة احتواء السلوك القطري وعقلنته، دفاعاً عن مصالحها الوطنية، ولدعم جهود الحرب على الإرهاب، وضمان الاستقرار في الخليج والعالم العربي، ويمكن القول إن هناك أربعة محددات للموقف المصري من الأزمة القطرية هي:
1- خبرة التعامل مع جموح السياسة القطرية: لم تشهد العلاقات بين قطر ومصر أي أزمات أو توترات، ربما باستثناء قيام الدوحة بقطع علاقتها مع مصر بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد، وذلك في إطار الموقف العربي والخليجي الموحد من القاهرة آنذاك، ولكن مع تولي الأمير حمد بن خليفة آل ثاني الحكم عام 1995- بعد انقلابه على والده- شهدت العلاقات بين البلدين العديد من الأزمات المكتومة والمعلنة، الأمر الذي اعتبر تحولاً مهماً وغير مسبوق، يرجع بالأساس إلى جموح وعدم عقلانية السياسة القطرية، وسعيها إلى التدخل في السودان ودول حوض النيل وإريتريا والبحر الأحمر وقطاع غزة، وهي ملفات تاريخية مرتبطة بحسابات الأمن القومي المصري، مما شكل إزعاجاً وربما تهديداً لهذا الأمن. من جانب آخر كانت معالجات محطة «الجزيرة» للأوضاع الداخلية المصرية أثناء حكم الرئيس مبارك سبباً في حدوث بعض الأزمات.
ومع ثورات الربيع العربي وما جرى في مصر دخلت العلاقات بين البلدين مرحلة جديدة من التوتر، فالدوحة تحالفت مع الرئيس محمد مرسي وجماعته (الإخوان)، وتدخلت أكثر مما ينبغي في الصراع السياسي الداخلي عامي 2012 و2013، وتقاطع تدخلها مع أنشطة بعض الأجهزة السيادية المصرية. وبعد الإطاحة بمحمد مرسي وحكم «الإخوان»، ناصب الحكم القطري النظام الجديد العداء، وواصل دعم «الإخوان» والجماعات الإرهابية في مصر وليبيا وسورية مالياً وإعلامياً. هكذا تسبب الجموح القطري في توتير دائم للعلاقة مع مصر، على رغم تغير الرئاسات من مبارك وحتى السيسي مروراً بالرئيس مرسي، ما يعني تصلب موقف الدوحة وعدم رغبتها في تغيير مواقفها أو مراعاة المراحل الانتقالية الصعبة التي مرت بها مصر بعد ثورة 2011.
2- اعتبارات الأمن القومي المصري والتحالف الاستراتيجي مع السعودية ودول الخليج: يربط الرئيس السيسي بقوة بين متطلبات الأمن القومي المصري والأمن الخليجي والأمن القومي العربي، وفي هذا السياق كانت السياسة القطرية- كما سبقت الإشارة- تحاول العبث في ملفات استراتيجية تتعلق بالأمن القومي المصري، وقد ارتفعت وتيرة العبث القطري بعد الإطاحة بحكم «الإخوان»، وفي مرحلة انتقالية تحارب فيها مصر الإرهاب وتحاول تثبيت دعائم الدولة، مما اعتبر تهديداً مباشراً لأمنها القومي، حيث ثبت أن كثيراً من الدعم الذي تتلقاه الجماعات الإرهابية التي تعمل في سيناء ومصر يأتي عبر ليبيا وأحياناً قطاع غزة، ومن خلال أطراف ذات علاقة بقطر، كما أصبحت الدوحة مقراً لإقامة عشرات الإرهابيين الفارين من مصر والمدانين والمتهمين في قضايا أمن دولة وعمليات إرهابية داخل مصر، ووظفت الحكومة القطرية قناة «الجزيرة» وأخواتها لبث دعاية مضادة لنظام الرئيس السيسي تعتمد على الإثارة ونشر الكراهية والحض على العنف والإرهاب. وهي ممارسات بعيدة تماماً من القواعد المهنية في العمل الإعلامي.
لذلك يمكن النظر إلى انضمام مصر للتحالف الرباعي ضد الإرهاب باعتباره عملاً من أعمال الدفاع عن أمنها القومي، من زاوية أن تعديل السلوك القطري من شأنه إضعاف أحد أهم وأكبر مصادر دعم وتمويل الإرهاب والدعاية له. ومن جانب آخر فإن السيسي يسعى لاستعادة دور مصر الإقليمي ولعب أدوار أكثر قوة وتأثيراً لمواجهة الإرهاب، خصوصاً في مصر وليبيا، ولمواجهة تحديات التوسع الإيراني والتركي في المنطقة، والجموح الإثيوبي في قضية المياه، علاوة على التحدي الإسرائيلي التقليدي، لكن رؤية السيسي للدور الإقليمي المصري تنطلق من ضرورة التحالف الاستراتيجي مع السعودية والإمارات ودول الخليج، ما يعني أن الدور المصري يتحدد بمعطيات هذا التحالف الاستراتيجي العربي والمفتوح لانضمام أي دولة عربية توافق على العمل لمحاربة الإرهاب ومجابهة التهديدات الإقليمية، بالتالي فإن موقف مصر من جموح السياسة القطرية مرتبط بالتحالف الاستراتيجي بين مصر والسعودية والإمارات ومؤثر ومتأثر به، إضافة إلى متطلبات الدفاع عن الأمن القومي المصري والعربي.
3- الاعتبارات الاقتصادية وأوضاع العمالة المصرية في قطر: يرتبط الشعبان المصري والقطري بعلاقات أخوية طيبة لا تعكر صفوها سوى أزمات السياسة وضجيج الحملات الإعلامية، التي سرعان ما تتجاوزها الشعوب، ويعمل في قطر بحسب تقدير وزيرة الهجرة المصرية حوالى 70 ألف مصري مسجلين رسمياً، ولكن العدد المتوقع قد يصل إلى حوالى 300 ألف يعملون في مجالات مختلفة. وتعتبر ورقة العمالة إحدى أدوات الضغط الذي يمكن أن تمارسه الدوحة ضد القاهرة، لكن يبدو أن هناك محاذير اقتصادية وشعبية تمنع ترحيل العمالة المصرية من قطر. وبافتراض أن الدوحة استخدمت ورقة العمالة فأعتقد أن مصر تستطيع استيعاب عودة المصريين بقدر محدود من المشاكل، ما يعني أن القاهرة لن تتأثر كثيراً، لا سيما أنها قد أوقفت صادراتها إلى قطر على رغم أنها كانت تحقق فائضاً يصب في مصلحة الاقتصاد المصري الذي يعاني من أزمة صعبة، وبلغ حجم التجارة الخارجية مع قطر خلال 2016 نحو 325 مليون دولار، منها 282 مليون دولار صادرات مصرية و43 مليون دولار واردات قطرية، كما بلغ إجمالي حجم التجارة بين البلدين خلال الربع الأول من العام الحالي نحو 118 مليون دولار، منها 108 ملايين صادرات مصرية إلى قطر و10 ملايين واردات مصرية من قطر. القصد أن اعتبارات الأمن القومي المصري والتزامات مصر بالتحالف الاستراتيجي لمحاربة الإرهاب يفوق مكاسب مصر الاقتصادية في علاقتها مع قطر.
*نقلا عن صحيفة الحياة