تزايدت دعوات التحول إلى الجيوش العقائدية في البؤر الصراعية المسلحة العربية، وخاصة في سوريا والعراق، وهو ما تدفع في اتجاهه قوى إقليمية مثل إيران، مدعومة بتيارات شيعية داخلية، لعدد من الأسباب المتداخلة فيما بينها، منها تأسيس كيانات موازية مسلحة ما دون الهياكل النظامية الرسمية، وتعزيز بقاء النظم السياسية السلطوية في الحكم، ومواجهة التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود الوطنية، وتنامي حدة صراعات الميلشيات العسكرية، وتصاعد الاستقطابات الطائفية في التفاعلات الإقليمية، وإحداث تحولات في البنية الديموغرافية للدول العربية.
فقد شهدت عدة دول في المنطقة تدخلات للأحزاب السياسية الحاكمة أو الصاعدة إلى السلطة في بنية القوات المسلحة، لتصبح مؤسسة الجيش أداة في يد السلطة الحاكمة من خلال تسييسها وإلزامها بسياسات الحزب الحاكم والأيديولوجيا التي يؤمن بها، على نحو ما برز في حالات محددة وهى العراق وسوريا والسودان.
فعلى سبيل المثال، وُصف الجيش العراقي وخاصة في عهد الرئيس الأسبق صدام حسين خلال فترة حكم حزب البعث (1978- 2003) بالجيش العقائدي نظرًا لمحورية تمثيل المنتمين لحزب البعث داخله دون بقية القوى والأحزاب السياسية الأخرى. وكذلك الحال بالنسبة للجيش السوري الذي صار عقائديًا منذ هيمنة حزب البعث العربي الاشتراكي على هرم السلطة في سوريا في منتصف القرن الماضي، إذ لم يسلم الجيش من صبغة اشتراكية عقائدية محددة سعى الحزب لترسيخها في البلاد ككل.
غير أن النمط الأكثر ملاءمة للقوات المسلحة في دول المنطقة أن تكون وطنية، بعيدة عن التصنيفات الحزبية والانتماءات الطائفية والارتباطات القبلية، بما يجنبها الانزلاق إلى الصراعات السياسية ويحصر هدفها في حماية شرعية النظام الذي يحظى بتوافق مجتمعي عام وفق دستور واضح وكذلك الحفاظ على هياكل الدولة من أية أخطار داخلية وتأمين حدودها الجغرافية (من أرض وسماء ومياه) من مهددات خارجية، وهو ما يفسر التباينات في أداء الجيوش النظامية في التعامل مع تداعيات الحراك الثوري العربي أو الصراع الداخلي المسلح، إذ برزت الجيوش الوطنية في حالتى مصر وتونس في حين غلبت الطبيعة القبلية والحزبية على أداء الجيوش في حالتى اليمن وسوريا.
وتجدر الإشارة إلى أن هناك دوافع محددة من دعوات التحول إلى الجيوش العقائدية في بؤر الصراعات المسلحة العربية، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:
إزاحة عكسية:
1- تأسيس كيانات موازية مسلحة: بهدف إزاحة هياكل الجيوش النظامية العربية، وهو ما تحاول إيران القيام به في العراق، لا سيما في مرحلة ما بعد تحرير الموصل من تنظيم "داعش" عبر تقوية الميليشيات الشيعية التابعة لها. فالسياسة الإيرانية سعت خلال مراحل ضعف الدول الوطنية العربية إلى تأطير علاقتها بالفواعل المسلحة العنيفة مثل حزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن والميليشيات الشيعية الأفغانية والباكستانية في سوريا والحشد الشعبي في العراق، بما يؤدي تدريجيًا إلى إضعاف الجيوش النظامية في المنطقة العربية.
وفي هذا السياق، قال قائد "فيلق القدس" قاسم سليماني خلال مشاركته في تأبين أحد قتلى الحرس الثوري في سوريا في 10 يوليو الجاري: "إن الجيش العراقي في طوره ليصبح جيشًا عقائديًا بعد معركة الموصل"، مضيفًا: "إن الجيش العراقي يمكن الوثوق به مقابل أى اعتداء أجنبي وليس بحاجة إلى قوات خارجية تفرض نفسها على العراقيين بحجة دعم الجيش العراقي"، في إشارة إلى الأصوات التي تدعو إلى بقاء القوات الأمريكية العاملة ضمن قوات التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب فترة من الوقت لتعقب عناصر "داعش" التي ربما تكون قد هربت إلى بعض المحافظات العراقية.
تحالف شبكي:
2- تعزيز بقاء النظم السياسية السلطوية: وهو ما تعبر عنه حالة النظام السوري خاصة بعد تحول الثورة في مواجهة نظام بشار الأسد إلى صراع داخلي مسلح ممتد على مدى يتجاوز ستة أعوام. ويمكن القول إن أحد عوامل بقاء نظام الأسد، خلال تلك الفترة، يتعلق بمتانة المصالح الشبكية له. فقد نجح نظام حافظ الأسد منذ عام 1970 في دمج الجيش والنظام الحاكم والطائفة العلوية وحزب البعث بحيث أضحى هذا التحالف الرباعي بمثابة الدعامة الرئيسية لبقاء النظام وأصبح الترقي في المؤسسة العسكرية مرهونًا بالانتماء للطائفة العلوية أو حزب البعث.
لذلك لم تحدث انشقاقات استراتيحية في الوحدات الرئيسية للجيش السوري النظامي وصار قادرًا على البقاء مقارنة بغيره من الجيوش العربية الأخرى التي تفككت وانقسمت على ذاتها ما بين داعم للنظام من جهة ومعارض لاستمراره من جهة أخرى. في حين اتسم أداء الجيش السوري بتأمينه للشرعية السياسية لنظام الأسد، على الرغم من التآكل الحادث لها، لا سيما مع زيادة الخسائر البشرية والمادية للصراع السوري.
دحر الإرهاب:
3- مواجهة التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود الوطنية: تصاعدت دعوات خطباء ورجال الدين في صلاة الجمعة في المساجد بعدة مدن عراقية، على مدى السنوات الثلاث الماضية، لتكوين جيش عراقي عقائدي يكون قادرًا على مواجهة تهديدات التنظيمات الإرهابية، وخاصة تنظيم "داعش" بعد سيطرته على محافظات ذات مساحة جغرافية واسعة وكثافة سكانية مرتفعة، فضلا عن ثرواتها النفطية ومصادرها المائية.
وهنا تصبح متطلبات وجود جيوش حتى لو كانت عقائدية، في رؤية الاتجاه الذي تبنى هذه الدعوات، ضرورية لمواجهة أدوار التنظيمات الإرهابية في إحداث توترات مجتمعية وفوضى أمنية. وتكمن أهمية هذا النمط من الجيوش العقائدية، وفقًا لتلك الرؤية، في تصفية جيوب التنظيمات الإرهابية في بؤر الصراعات المسلحة العربية، وخاصة في سوريا والعراق.
فعلى الرغم من أن الفترة الماضية شهدت تراجعًا في المساحات الجغرافية التي تتواجد فيها تلك التنظيمات وخاصة "داعش"، إلا أن هناك تقديرات استراتيجية صادرة عن بعض مراكز البحث والتفكير الغربية تشير إلى أن ثمة أهدافًا محتملة لتلك التنظيمات خلال الفترة القادمة قد تشمل القوات الشرطية والعسكرية والمؤسسات العامة والمرافق الاقتصادية والخدمية، لا سيما بعد تعثر هدفها في استمرار تفكيك بنية الدولة الوطنية وتحويلها إلى دولة فاشلة مزمنة.
جيوش هجينة:
4- صراعات الميليشيات العسكرية: سواء القائمة على اعتبارات الطائفة أو القبيلة أو المنطقة، إذ أن الأخيرة تستغل تصدع مؤسسات الدولة لتقاسم السلطة السياسية فيما بينها أو المشاركة في غنائم الموارد الاقتصادية، وبرزت أشكال هجينة من القوات المسلحة المعنية بالأمن المحلي لدرجة أن بعض الكتابات رصدت ظاهرة "قوات مسلحة هجينة داخل دولة هجينة". وربما يعود تفاقم منسوب تلك الصراعات إلى تزايد التناقضات العقائدية فيما بينها، الأمر الذي يفرض على هذا الطرف الميليشياوي أو ذاك اتباع تكتيكات واستراتيجيات مغايرة في مواجهة الآخر، وهو السلوك المتوقع حدوثه خلال المرحلة المقبلة من تطور الصراع السوري.
استقطاب طائفي:
5- تفاقم الاستقطابات الطائفية في التفاعلات الإقليمية: وخاصة التي تشعل فتيلها السياسة التي تتبناها إيران في مواجهة بعض القوى الإقليمية الداعمة للاستقرار، في سياق الحرب الباردة القديمة الجديدة بينها، واتساع نطاق التنافس على تقوية النفوذ الإقليمي ومواجهة التهديدات الأمنية القادمة من بؤر الصراعات العربية في سوريا والعراق واليمن، بل إن إيران تستغل الأزمة القطرية، حسب اتجاهات عديدة، لتفكيك تماسك الكتلة السنية في مواجهتها، لا سيما أن تركيا تتخذ موقفًا منحازًا للدوحة، في ظل التوافق بين نخبة الحكم في الدولتين بشأن دعم جماعة الإخوان المسلمين. كما أن تركيا، وفقًا لتلك الاتجاهات، تخشى من أن تكون الهدف الثاني للقوى الغربية بشأن محاربة تمويل الإرهاب.
تحول ديموغرافي:
6- إحداث تحولات في البنية الديموغرافية للدول العربية: تشير بعض الكتابات إلى أن هناك مخططًا إيرانيًا في سوريا يقوم على أساس دمج الميليشيات العقائدية الشيعية داخل بنية الجيش السوري ليتم إحلال عناصرها مع أسرهم محل العائلات السنية التي نزحت خارج موطنها الأصلي، وهو جزء من تغيير ديموغرافي تسعى من خلاله إيران إلى تكريس نفوذها في سوريا أو التمدد في أراضي عربية أخرى بهدف توظيف تلك الميليشيات في حروب أخرى في المنطقة أو التوجه نحو محاولة تشييع جماعات محلية داخل بعض دولها.
وما يدعم الهدف الإيراني في سوريا لإنشاء الجيش العقائدي الجديد هو إصدار النظام السوري مرسومًا بتجنيد الشباب السوري للخدمة العسكرية، مما أدى إلى هجرة مئات الألوف منهم خلال السنوات الماضية، وهو ما يساعد إيران في ملء فراغ هجرة الشباب السنة وإخلاء الأراضي السورية لتأتي العناصر الأفغانية والباكستانية والإيرانية والعراقية المرتزقة لتشكل نواة ذلك الجيش العقائدي.
إشكاليات العودة:
غير أن ثمة تحديات تواجه عودة ظهور الجيوش العقائدية المبنية على قواعد حزبية في دول المنطقة منها تراجع تأثير أدوار النخب العسكرية العقائدية، التي برزت في إطار مرحلة التحرر الوطني في عدة دول عربية، والتي سبق أن تحالفت مع طبقات العمال والفلاحين عبر دعم مبدأ العدالة الاجتماعية، ووظفت تفاعلات الصراع العربي- الإسرائيلي كمبرر لبقائها في السلطة، وهى تفسيرات لم يعد لها وجود في تلك المرحلة.
كما أن بناء وتغذية الفكر العقائدي داخل القوات المسلحة في بعض دول المنطقة يمثل تجاوزًا لحقوق جزء من مكونات البناء الوطني، بما يقود إلى تجاوز الوطن ككل. فالوحدة الوطنية لا تتجزأ والقوات المسلحة هى قوات لكل الوطن، بغض النظر عن التصنيفات والتقسيمات المختلفة، مع الاعتراف في الوقت ذاته بتصاعد ظهور الجيوش العشائرية أو القبلية أو الجهوية أو الكتائب المناطقية التي صارت أقرب إلى الجيوش الموازية في عدة دول عربية.
فضلا عن أن عودة الجيوش العقائدية سوف تسهم في انتعاش الصراعات الفئوية في صفوف المؤسسات العسكرية المتهالكة من جراء مواجهة تبعات ثورات شعبية أو محاربة تنظيمات إرهابية تمتلك مقومات "أشباه الدول". ومن ثم، من المحتمل أن يعود نمط "اقتتال الأخوة" حيث ساد داخل العديد من الجيوش العربية في خمسينيات القرن الماضي وحتى أواخر سبعينياته. كما أن ظاهرة الجيوش العقائدية تمثل محكًا فاصلا في بقاء وتماسك الدولة الوطنية كفاعل إقليمي، لأنه لا يمكن للحزبية أن تتجاوز الوطنية إلا في حالات استثنائية تجعل الاستقرار هشًا سياسيًا وأمنيًا.