عندما تمعن النظر في أزمة قطر الحالية تجد أن لها علاقة مباشرة بالأزمة الخانقة التي يعاني منها النظام الإقليمي العربي منذ عقود. فأزمة قطر أزمة دولة عربية صغيرة تمارس دوراً إقليمياً لا يتجاوز حجمها وقدراتها فحسب، بل يتصادم مع مصالح دول عربية أخرى بعضها دول كبيرة. هناك ما يشبه الإجماع على أنه ليس واضحاً ما الذي تطمح قطر إلى تحقيقه محلياً وإقليمياً من الدور الذي يكلفها الكثير، ويبدو أنه سيكلفها أكثر مما توقعته بعد انفجار أزمتها الأخيرة. تحالفت في عهد أمير الدولة السابق، الشيخ حمد بن خليفة، مع العقيد معمر القذافي، وقد وصل الأمر حينها بالشيخ حمد أن اطمأن إلى الحديث مع القذافي لإقناعه بضرورة التعاون بينهما للتخطيط للإطاحة بالحكم السعودي. ولولا ظهور تسجيل هذا الحديث، ثم اعتذار الأمير عمّا ورد فيه للعاهل السعودي الراحل عبدالله بن عبدالعزيز في الرياض، لاعتبر الحديث عن الموضوع ضرباً من الخيالات المتفلتة من كل القيود، وإلا كيف يمكن استيعاب أن أميراً لدولة خليجية يفاتح شخصاً مثل العقيد الذي عُرف بالتهور، ولا يعرف عنه أي تعاطف مع أهل الخليج بما في ذلك قطر، في أخطر موضوع يمكن أن يتناوله هذا الأمير، ويتعلق بدولة كبيرة مجاورة، ولا حدود برية له إلا معها؟
كيف ولماذا ظهر تسجيل أخطر حديث في التاريخ السياسي العربي الحديث؟ من الواضح أن مخابرات العقيد هي من سرب التسجيل إما قبل مقتل العقيد، أو بعد مقتله، وذلك نكاية بالشيخ حمد الذي انقلب على حليفه بعد أن وصلت موجة الربيع العربي إلى عتبات حكمه في طرابلس. ولعلنا نتذكر كلمات القذافي عندما قال في إحدى خطبه قبيل سقوطه: «بارك الله فيكم يا إخوتنا في قطر، هذي آخرتها». السؤال الذي لا يعرف أحد جواباً له: لماذا تحالف الشيخ حمد مع القذافي ابتداءً؟ ثم لماذا انقلب عليه؟ لا يمكن أن يكون الربيع هو سبب الانقلاب، لأن التحالف مع القذافي حصل في أواخر تسعينات القرن الماضي، أي بعدما أصبح العقيد نموذجاً لطاغية متجبر ومتهور. لماذا التحالف معه في هذه الحالة أصلاً؟ السؤال نفسه يبرز في حالة الرئيس السوري بشار الأسد، فقد تحالف معه الشيخ حمد ونمت بينهما علاقة وطيدة، إلى حد أن تناول موضوع سورية بالنقد بات من الممنوعات على قناة الجزيرة إلى ما قبل الثورة. على خلفية هذه العلاقة ضغط بشار لإعطاء دور لقطر في الأزمة اللبنانية في أعقاب أحداث 7 أيار (مايو) 2008، فيما عرف لاحقاً باتفاق الدوحة الذي أنهى تلك الأزمة. بعد قيام ثورة الربيع في سورية انقلب الشيخ حمد على حليفه الآخر، وأصبح سقوط بشار هدفاً له. مرة أخرى، هل كانت الثورة سبب الانقلاب؟ لا يمكن، لأن الأسد لم يتغير سلوكه، ولم تتغير قناعاته وسياساته لا قبل الثورة ولا بعدها. الثابت في الحالتين الليبية والسورية هم الحلفاء، والمتغير، أو المتذبذب هو موقف الشيخ، وموقف قطر.
حالات أخرى تشهد على سمة التذبذب ذاتها، فالدوحة تدعم «حماس» كحركة مقاومة فلسطينية، في الوقت نفسه تقيم علاقة مهمة لها مع إسرائيل. هذا ما قاله يوماً الشيخ حمد نفسه على قناة الجزيرة، ويفسرها ذراعه الأيمن الشيخ حمد بن جاسم بقوله في التسجيل المذكور مع القذافي بأنها (أي العلاقة مع إسرائيل) تساعد في التخفيف من الضغط السعودي على قطر. ما لم يفصح عنه في هذا الحديث هو طبيعة الضغط السعودي الذي يشير إليه، ولماذا العلاقة مع إسرائيل تحديداً هي السبيل الوحيد لتخفيف هذا الضغط؟ الأمر الواضح أن تزاوج العلاقة مع إسرائيل مع دعم «حماس» في السياسة القطرية يعني أن قطر تتبنى مبادرة السلام العربية بالكامل، وهي المبادرة التي طرحتها السعودية على قمة بيروت العربية عام 2002، وتمت الموافقة عليها في هذه القمة بالإجماع. السؤال المربك أمام هذه الحالة: ما هي مشكلة قطر في عهد الشيخ حمد مع السعودية؟ ولماذا كان مهجوساً بإحداث انقلاب على الحكم فيها؟
تتفاقم الإشكالية في أن السياسة القطرية هذه لم تصل إلى خواتيمها بعد تنحي الشيخ حمد عن الحكم لابنه الشيخ تميم عام 2013، بعد انكشاف تسجيلات حديثه مع القذافي واعتذاره للسعوديين عنها، بل استمرت ومعها سمة التذبذب ذاتها، هل لأن الشيخ تميم يتبنى سياسات والده؟ أم أنه لا يستطيع الفكاك من سطوته ونفوذه على السياسة الخارجية؟ هذا هو السؤال الذي تطرحه وثائق اتفاق الرياض عام 2013 بعد تسلم الشيخ تميم للحكم، واتفاق الرياض الإلحاقي عام 2014. فمع أن الدوحة وقعت على هذين الاتفاقين، وما يضمانه من بنود وتعهدات مشتركة مع دول مجلس التعاون، وبوساطة من أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الصباح، إلا أن سياسة قطر لم تتغير كما تقول الدول الأربع التي تقاطع قطر الآن، وهو ما يعني أن أزمة الدور القطري استمرت قرابة عقدين من الزمن، وبسبب ذلك تقول هذه الدول (السعودية والإمارات والبحرين، ومعها مصر) إنها اضطرت للمقاطعة، ووضع مطالب محددة من قطر، باعتبار أن ذلك هو الأسلوب الوحيد الذي تبقى لها لتغيير هذه السياسة. وإذا ما تأكد أن «الأمير الوالد»، وهو اللقب الذي يعرف به الشيخ حمد في قطر الآن، لا يزال يمارس نفوذه على السياسة القطرية، فإنه لا حل للأزمة الحالية قبل وضع حد لهذا النفوذ.
المربك في الموضوع ليس فقط تذبذب وتناقض السياسة الخارجية القطرية، بل إنكار الدوحة أنها تأخذ بهذه السياسة. تقول قطر إن من حقها أن يكون لها دور مستقل في المنطقة، وهذا من حقها تماماً، لكن هل استقلال هذا الدور يتطلب مناكفة دول كبيرة مثل السعودية ومصر؟ أو محاولة التآمر على السعودية؟ حاولت الكويت من قبل ممارسة هذا الدور من دون أن تتورط في المناكفة أو المؤامرة، وتمارسه مسقط حالياً، ولم تتعرض أي منهما لأزمة بحجم ما تمر به الدوحة حالياً. ثم إن قطر لا تطرح مشروعاً إقليمياً يعبر عنه الدور الإقليمي الذي تمارسه. وهي في الحقيقة لا تملك طرح مثل هذا المشروع ليس فقط نظراً لحجمها وإمكاناتها، وإنما قبل ذلك وبعده نظراً لطبيعة الحكم فيها، فهي لا تختلف في هذا عن بقية دول مجلس التعاون، ولا عن بقية الدول العربية، ولا تعطي أي مؤشر على أنها تريد أن تختلف.
هنا يبرز الجانب الأكثر إرباكاً في مشهد الأزمة، وهو أن أكبر دولتين عربيتين، هما السعودية ومصر، ومعهما دول أخرى تشتكي من دولة صغيرة، هي قطر. طبيعة الأمور، أو ما يفترض أنه كذلك، تقتضي أن يكون الأمر على العكس من ذلك تماماً، لكن الوضع العربي ليس طبيعياً، وهذه حقيقة لا مفر من الاعتراف بها ومواجهتها. لا تملك قطر، ولا تستطيع تقديم مخرج من هذا الوضع، كل ما تملكه هو اللعب في الفراغات الآيديولوجية والسياسية والعسكرية التي يعاني منها هذا الوضع، وهو الوضع الذي قال عنه وزير الخارجية السعودي الراحل سعود الفيصل بأنه يعاني من خواء استراتيجي. وكم كان محقاً في ذلك. وقطر للحقيقة ليست استثناءً هنا. الميليشيات دخلت من هذه الفراغات لتنافس الدول. ومن خلالها دخلت إيران إلى عمق العالم العربي. «حزب الله» استفاد منها، بمساعدة من إيران وسورية العربية، ليتحول من ميليشيات إلى ذراع إقليمية لدولة غير عربية. بدورها دخلت روسيا وتركيا وأميركا عبر كوارث سياسات النظام السوري، والآن دخلت تركيا إلى الخليج العربي عبر أخطاء قطر في الأزمة الحالية. قبل ذلك حاول القذافي إرباك مصر بالدور ذاته في عهد كل من السادات ومبارك. إسرائيل أيضاً تستفيد من الفراغات وتصدع النظام الإقليمي العربي لتصعيد سياساتها الاستيطانية، بخاصة في القدس. اتفاق وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون، الأخير مع الدوحة أتى من البوابة ذاتها. ماذا يعني كل ذلك؟ يعني أن وضع حد نهائي للدور القطري خطوة ضرورية، وتمسك الدول الأربع بهذا المطلب وتصميمها عليه هو الموقف الصحيح، لكنه ليس أكثر من خطوة أولى في طريق طويل. يجب التعامل مع الأزمة القطرية كمدخل لتصحيح الوضع العربي، وسد الفراغات فيه التي تتسلل منها ما أسميه بظاهرة الدور القطري التي لا تقتصر على قطر وحدها. السؤال الآخر، وما أكثر أسئلة الحالة العربية، هل تتعامل دول المقاطعة الأربع مع الأزمة من هذا المنطلق؟ وما هي العناصر الأهم لمثل هذا التعامل؟
*نقلا عن صحيفة الحياة