مع إعلان الانتصار على تنظيم "داعش" في مدينة الموصل، بدأت ميليشيا "الحشد الشعبي" في الترويج للدور الذي قامت به، رغم وجود شركاء عديدين في المعارك التي اندلعت مع التنظيم، حيث لا يمكن إغفال دور الولايات المتحدة الأمريكية إلى جانب دور جهاز مكافحة الإرهاب خاصة فى عملية تحرير الجانب الأيمن من الموصل، وهو الجانب الأكثر صعوبة في العمليات بالنظر إلى كونه يتضمن المدينة القديمة الأكثر تكدسًا بالسكان.
ولكن بالنظر إلى الجدل القانوني والتداعيات السلبية لدور "الحشد" فى المعارك من تكريت إلى الفلوجة إلى الموصل، يعاد طرح السؤال حول مستقبل تلك الميليشيا داخل العراق، فى ضوء الخطاب السياسي الذي تتبناه والذي يركز على مستقبلها ككيان مسلح وطبيعة الأداور التى يمكن أن تتولاها على المستويين المحلي والإقليمي.
رسائل متعددة:
حرصت ميليشيا "الحشد الشعبي" على توجيه رسائل عديدة إلى الأطراف الداخلية والإقليمية والدولية المعنية بالحرب ضد تنظيم "داعش" وبالصراع في سوريا، حول الدور المستقبلي الذي يمكن أن تقوم به. وقد أشار أبو مهدي المهندس نائب رئيس هيئة "الحشد" إلى تلك الرسائل في كلمته أمام اجتماع الجمعية العامة لاتحاد الإذاعات والتلفزيونات الإسلامية الذي انعقد في مدينة مشهد الإيرانية في بداية يوليو الحالي، ويتمثل أبرزها في:
1- الانتشار والسيطرة: من خلال إصرار "الحشد" على البقاء في كل أماكن تواجدها الحالية وعدم ترك مواقعها، وهو ما يعنى من الناحية العملية أن لديها خطة عمل خاصة ربما تختلف عن الخطة الأمنية المرتقب وضعها فى الموصل بعد انتهاء العمليات، وليس من المعروف ما إذا كانت الحكومة العراقية ستمنح "الحشد" هذا الدور وفقًا لتلك الخطة أم أنها ستتحرك من تلقاء نفسها، بشكل يزيد من احتمالات ظهور تباين مع الحكومة فى هذا السياق.
2- توسيع النفوذ: وهو ما يبدو جليًا في نفى احتمالات حل "الحشد" والتلميح إلى إمكانية التحرك لمنع حدوث ذلك، بشكل بات ينظر إليه على أنه تهديد استباقى لهذه الخطوة حال أقدمت عليها الحكومة. بل إن اتجاهات عديدة تشير إلى أن "الحشد" باتت تعتبر نفسها "قوة فوق الحكومة"، وهو ما انعكس في تأكيد أبو مهدي المهندس على أن "تشكيل الحشد حصل بفتوى مرجعية شرعية، وهو حركة أمة".
3- تكريس الدور السياسي: عبر دعم نفوذ الأحزاب السياسية التي قامت بتكوين "الحشد" في العملية السياسية خاصة خلال الانتخابات البرلمانية المقبلة، وهو ما يعنى أن "الحشد" سوف تتحول إلى "الواجهة العسكرية" أو "الذراع العسكري" لتلك الأحزاب السياسية.
4- الحصانة القانونية: والتي يبدو أن الميليشيا سوف تعمل على تعزيزها، خاصة بعد تزايد الانتقادات الموجهة إليها بعد ارتكاب عناصرها انتهاكات عديدة ضد حقوق الإنسان في بعض المناطق التي دخلتها في شمال العراق، حيث اعتقلت عددًا كبيرًا من أبناء عشائر الموصل وقامت بعمليات تصفيات جسدية خارج القانون.
5- الدور الإقليمي: الذي تلمح إليه الميليشيا حتى قبل الانتهاء من عمليات الموصل، وهو ما انعكس في مطالبة "لواء أنصار المرجعية"، وهو إحدى المجموعات المشاركة في "الحشد"، في مطلع يوليو الحالي، رئيس الوزراء حيدر العبادي، بالسماح لها بالتوغل داخل الحدود السورية لمسافة ثلاثين كيلومترًا بحجة قتال "داعش" في القرى المتاخمة للحدود، مضيفة أن "من واجبها الدفاع عن الأراضي العراقية من خطر قادم من داخل الحدود يهدد أمنها". ويتوازى ذلك مع تلميح أبو مهدي المهندس إلى أن "الميليشيا ستلعب أدوارًا إقليمية"، مضيفًا أن "المرحلة القادمة ستشهد دورًا إقليميًا عراقيًا مهمًا في دعم سوريا".
وهنا، لم تستبعد اتجاهات عديدة أن يؤدي ذلك إلى حدوث تصادم بين الميليشيا والقوات الأمريكية التي تنوى الولايات المتحدة الاحتفاظ بها في العراق بعد انتهاء عمليات الموصل، خاصة أنه ليس من المتوقع أن تعمل هذه القوات إلى جانب تلك الميليشيا خلال المرحلة القادمة.
6- استمرار التسليح: إذ ليس من المتصور أن نمط التسليح فى معارك التحرير من الممكن أن يكون هو النمط ذاته بالنسبة لمرحلة ما بعد "داعش"، وهو الأمر ما دفع قوى عديدة إلى الدعوة للتعامل مع بقاء سلاح بهذا المستوى فى يد تلك الميليشيا في مرحلة ما بعد الموصل، بكل ما يمكن أن يفرضه ذلك من تداعيات على حالة الاستقرار السياسي والأمني في العراق، وهو ما يبدو أنه سيواجه برفض من جانب الميليشيا التي ربما لن تسع فقط إلى الاحتفاظ بقدراتها العسكرية بل قد تحاول تطويرها ورفع مستواها تدريجيًا.
عقبات عديدة:
وفقًا لتحليل هذا الخطاب وما يحتويه من إشكاليات عديدة، يمكن تصور أن هناك عددًا من المعضلات الأساسية التي تتعلق بالدور المستقبلي الذي يمكن أن تقوم به ميليشيا "الحشد" في العراق خلال المرحلة القادمة، وتتمثل في طبيعة التكوين وتداعيات ذلك على الترتيبات السياسية والأمنية التي ستتم صياغتها في مرحلة ما بعد الموصل، إضافة إلى ازدواجية الأدوار.
فإذا كانت تلك الميليشيا تعتبر أنها قامت بـما تطلق عليه "دورًا وطنيًا" فى مكافحة "داعش"، فإنها تنطلق من أرضية المرجعية الدينية أولا بغض النظر عن تشكيلها عقيدة عسكرية بحكم أنها أصبحت أحد مكونات القوات المسلحة العراقية، وهو ما يقتضى إثارة قضية تتعلق بالبعد العسكري المرتبط بالدولة العراقية ومؤسستها الأمنية بشكل خاص، وتتمثل في دور قوات مكافحة الإرهاب، التي تشكلت تحت مظلة الدولة وفى إطار مهني بعيدًا عن الأيديولوجيا، بما يعني أن عقيدتها العسكرية وليس المرجعية الدينية هى ركيزتها الأساسية على عكس ميليشيا "الحشد". وتمتد هذه الاحترافية إلى مستوى التدريب العالي الذى حظى بدعم أمريكي واسع، وهو ما يعني أن قوات مكافحة الإرهاب تبدو أكثر تأهيلا على مستوى الاضطلاع بأدوار أساسية فى مرحلة ما بعد الموصل، خاصة في ظل التزامها بطيعة المهام التي يمكن أن تقوم بها.
وفى النهاية، يمكن القول إن هناك إشكاليات عميقة في المشهد العراقى تتعلق بسيناريوهات ما بعد الموصل، لعل أبرزها يتعلق بدور ميليشيا "الحشد". إذ لا يمكن إغفال أن هناك صعوبة فى تلافي الآثار السلبية التي ارتبطت بممارساتها، وحتى مع احتمالات تجاوزها قانونيًا، فإن بقاء تداعياتها لدى قطاع جماهيري عريض فى المناطق المحررة من تنظيم "داعش" من المحتمل أن يقوض التطلعات الرامية إلى استقرار تلك المناطق، لا سيما مع تزايد الحديث عن عمليات تغيير ديموجرافي قد تجري في تلك المناطق من أجل تغيير تركيبتها السكانية، وعن احتمالات قيام تلك الميليشيا بدور رئيسي في إدارتها، وهو ما يزيد من أهمية طرح رؤية شاملة لمرحلة ما بعد تحرير الموصل تتضمن الخطة الأمنية التي سوف يتم العمل بها، والدور الذي ستقوم به القوات النظامية، والذي يكتسب أهمية خاصة، لا سيما أن سقوط "داعش" فى العراق لا يعنى بالضرورة نهاية التنظيم، الذي قد يحاول عناصره تنفيذ عمليات جديدة أو عرقلة جهود الحكومة لدعم الاستقرار في تلك المناطق.