تصاعدت حدة التوترات بين الحكومة العراقية وإقليم كردستان مؤخرًا على خلفية إعلان الأخير تنظيم استفتاء شعبي للانفصال عن العراق في سبتمبر المقبل، والذي سبقته محاولات عديدة من قبل الإقليم لتعزيز استقلاله الاقتصادي، وذلك بالتزامن مع تراجع الطرفين في عام 2014 عن تنفيذ المقايضة المالية القائمة بينهما بموجب الدستور العراقي.
وفي إطار تعزيز خيارات الاستقلال المالي، تبنت حكومة الإقليم ثلاث آليات رئيسية: يتمثل أولها، في تبني منظومة تسويقية لمبيعات النفط من خلال إنشاء خط أنابيب واصل عبر أراضيها إلى تركيا. فيما يرتبط ثانيها، بإبرام تعاقدات نفطية مستقلة عن الحكومة العراقية، على غرار توقيع شراكة جديدة مع الشركات الروسية للتنقيب عن النفط. وينصرف ثالثها، إلى تطبيق رؤية عام 2020 بالتعاون مع شركاء عالميين ومؤسسات مالية عالمية، والتي تهدف إلى تحقيق الاستقرار المالي، وتنويع الأنشطة الاقتصادية بالإقليم.
وعلى ما يبدو، فإن سيناريو استقلال كردستان لن يخلو من ظهور صعوبات اقتصادية للإقليم، كتأسيس شراكات اقتصادية جديدة مع العالم ودول الجوار، إضافة إلى ضمان استقلالية منظومة تسويق وإنتاج النفط، وأخيرًا تداعيات المخاوف الأمنية فيما بعد الاستقلال على الأداء الاقتصادي بشكل عام.
خلافات حادة:
اتسع نطاق الخلافات بين الحكومة الاتحادية وإقليم كردستان منذ يناير عام 2014، عندما تراجع الطرفان بشكل واضح عن تنفيذ المقايضة المالية المنصوص عليها في الدستور العراقي، والتي تقوم على دفع الحكومة المركزية لإقليم كردستان مستحقات مالية توازي 17% من قيمة الموازنة العراقية في مقابل حصول الأولى على حقوق تصدير إنتاج النفط من الإقليم، والبالغ حينها قرابة 250 ألف برميل يوميًّا.
وفي محاولة لتجاوز الخلافات المالية فيما بينهما، توصل الطرفان إلى اتفاق جديد في ديسمبر 2014 يقضي بتسليم كردستان مستحقاتها المالية من الموازنة العراقية، إضافة إلى مليار دولار لقوات "البشمركة" الكردية، في مقابل التزاماتها بتقديم 550 ألف برميل يوميًّا من النفط، منها 300 ألف برميل من حقول كركوك والباقي من حقول كردستان.
بيد أن الاتفاق السابق والمدعوم من قبل قوى إقليمية ودولية لم يحرز أي تقدم في تسوية الخلافات المالية بينهما، وهو ما أدى إلى تراجع الثقة بين الطرفين، بشكل دفع حكومة كردستان إلى إعلان تنظيم استفتاء حول استقلال الإقليم في سبتمبر المقبل.
ووسط هذه الخلافات، واجه إقليم كردستان صعوبات اقتصادية كبيرة نتيجة تراجع أسعار النفط العالمية، بجانب نزوح اللاجئين العراقيين إليها، وارتفاع النفقات العسكرية بسبب المشاركة في الحرب ضد تنظيم "داعش". وفي هذه الأثناء أيضًا، لم تستطع حكومة الإقليم سداد مستحقات الشركات الأجنبية النفطية، وهو ما أدى إلى تباطؤ الاستثمارات في القطاع النفطي.
مرحلة تمهيدية:
تعزيزًا لاستقلاله المالي والاقتصادي، سعى إقليم كردستان إلى اتخاذ عدد من التدابير لإعادة هندسة آليات عمل أنشطته الاقتصادية، ولا سيما قطاع النفط فيما يخص العمليات الإنتاجية والتسويقية، ويتمثل أبرزها في:
1- منظومة تسويق مستقلة: في خطوة لضمان تسويق نفطها بشكل مستقل، أنشأت حكومة إقليم كردستان خطًّا جديدًا لنقل النفط الخام في مايو 2014 يمر عبر أراضيها إلى ميناء جيهان التركي، وذلك بدلاً من الخط السابق الواصل من كركوك إلى نفس الميناء التركي السابق.
وفي الوقت نفسه، وسّع الإقليم، منذ يوليو 2014، من نطاق سيطرته على عدد من الحقول في المناطق الشمالية بالعراق، لا سيما في كركوك، وهو ما ضاعف من الطاقة الإنتاجية لتصل إلى حدود 600 ألف برميل يوميًّا في مايو 2017 بدلاً من المستوى السابق المقدر بـ300 ألف برميل يوميًّا.
2- شراكات مستقلة: على غرار تعاقدها مع شركات نفطية أمريكية منفردة عن الحكومة العراقية في عام 2011، أبرمت حكومة إقليم كردستان، في يونيو الماضي، اتفاقًا مع شركة النفط الروسية "روسنفت" لتطوير خمسة حقول نفطية في الإقليم لمدة عشرين عامًا، والتي من شأنها أن تدعم إنتاج الإقليم ليصل إلى مليون برميل يوميًّا في الفترة المقبلة.
والخطوة السابقة على درجة من الأهمية، حيث إنها ستوفر للإقليم مصادر مالية لدعم القدرات الإنتاجية للقطاع النفطي، في وقت انسحبت فيه العديد من الشركات الأوروبية والأمريكية من الإقليم على خلفية المخاوف الأمنية والأزمة الاقتصادية به. في حين أن هذا الاتفاق يعطي للإقليم قدرًا من المرونة والحماية لمصالحه في القطاع النفطي.
3- تنويع اقتصادي: بالتعاون مع المؤسسات الاقتصادية الدولية، تسعى حكومة الإقليم إلى تنفيذ رؤية 2020، والتي تقوم بجانب تدابير عديدة للإصلاح المالي والنقدي، على خطط لتنويع الاقتصاد بعيدًا عن الاعتماد المفرط على قطاع النفط، وهو ما قد يجنب الإقليم التعرض لهشاشة اقتصادية في المستقبل. وفي هذا السياق، وقّع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ووزارة التخطيط في حكومة الإقليم اتفاقية، في سبتمبر 2016، لتأسيس صندوق تمويل الإصلاح الاقتصادي في الإقليم.
صعوبات مستقبلية:
ربما يمكن القول إن سيناريو إعلان استقلال كردستان سياسيًّا لن يكون الخيار الأمثل للإقليم في الفترة المقبلة، إذ من المحتمل أن يعرضها لعدد من التحديات الاقتصادية، التي يمكن تناولها على النحو التالي:
1- تأسيس شراكات جديدة: تتمثل إحدى المهام الصعبة المقبلة أمام حكومة إقليم كردستان في تأسيس شراكات اقتصادية قوية، سواء مع العالم أو دول الجوار، ولا سيما في ظل تصاعد معارضة المجتمع الدولي وبعض القوى الإقليمية لتنظيم الاستفتاء في سبتمبر المقبل. وفي هذا السياق، لم ترحب الأمم المتحدة بالخطوة السابقة؛ حيث أشارت إلى أنها لن يكون لها دور في الاستفتاء على الاستقلال.
فيما أبدت بعض دول الجوار، مثل إيران وتركيا، معارضتها لإجراء الاستفتاء، وهو ما يعني أنه حال حدوث السيناريو الخاص باستقلال الإقليم عن العراق، فإنه قد يهدد الشراكة الاقتصادية القائمة بين كردستان والدولتين السابقتين خصوصًا، كما سيحرم كردستان من منفذها الوحيد لبيع النفط للعالم الخارجي، وهو ما سيُعرّض الإقليم لصعوبات اقتصادية كبيرة.
2- تسويق مبيعات النفط: بالإضافة للسابق، ففي حال عدم الاعتراف بكردستان كدولة غير شرعية، فإنها ستواجه نفس مشكلاتها في العامين الماضيين، عندما تعرضت لعقبات قانونية مستمرة في تسويق نفطها للخارج، وقد تجلى ذلك في وقف تجارة النفط مع اليونان وكندا عقب رفع الحكومة العراقية دعاوى قضائية ضد الشركات التجارية التابعة للدولتين.
وفي هذا السياق، أمرت المحكمة الاتحادية في كندا، في يوليو الجاري، بمصادرة مبيعات من النفط الخام حجمها 721.9 ألفًا من إقليم كردستان العراق، وذلك بناءً على طلب من وزارة النفط العراقية بعد رفع دعوى من الأخيرة ضد مؤسسة "فيتول" لتجارة السلع للتعويض بمبلغ قدره 32.5 مليون دولار.
3- كسب ثقة المستثمرين: على ما يبدو، فإن من المهام الجديدة أمام حكومة كردستان اكتساب ثقة المستثمرين لضخ رؤوس أموال في المنطقة عقب الاستقلال، وهي مهمة صعبة، لا سيما مع توقعات بنشوب نزاعات حدودية مع العراق في مناطق، مثل نينوى، والموصل، وديالى، وكركوك الغنية بالنفط، وهو ما يزيد من المخاوف الأمنية المحتملة لدى المستثمرين.
إضافة إلى المخاوف السابقة، فإن اكتساب ثقة الشركات الدولية ليس بالمهمة السهلة لدول ناشئة جديدة محتملة مثل كردستان قد لا تلقى ترحيبًا، سواء على المستوى الدولي أو الإقليمي، وهو ما قد يُعرّض الشركات نفسها لمواجهات صعبة مع دولها، بما قد يضطرها للتخلي عن الاستثمار في الإقليم إلى حين تسوية الخلافات مع الحكومة العراقية في المستقبل.
وختامًا، يمكن القول إن خيار استقلال كردستان لن يوفر للإقليم مكاسب اقتصادية مرجوة في الفترة المقبلة، إلا إذا حظى هذا الاستقلال بالدعم الإقليمي والدولي المطلوب، وهو احتمال لا يبدو مطروحًا في الفترة الحالية.