يأتي تنامي الانتشار العسكري الأمريكي في الجنوب السوري مؤخرًا، من خلال نشر منظومات صاروخية متطورة، وتكثيف الضربات الجوية في تلك المنطقة، لتحقيق عدة أهداف، أهمها: تشتيت جهود النظام العسكرية عبر إشغاله بمتابعة النشاط الأمريكي في الجنوب السوري، ومنعه من مزاحمة قوات سوريا الديمقراطية في معركة الرقة، وإجهاض مساعي إيران لربط حلفائها في الجبهتين العراقية والسورية، وتعزيز موقف فصائل الجبهة الجنوبية في ضوء تركيز النظام على استهدافها مؤخرًا، واستباق محاولات الجانب الروسي لدعم قوات النظام السوري للسيطرة على منطقة البادية السورية. خاصة مع التراجع المتوقع لهجمات النظام في تلك المنطقة في ضوء التعزيزات الأمريكية الأخيرة بها.
وقد كثفت الولايات المتحدة في الفترة الأخيرة من حضورها العسكري في الجنوب السوري، وهو ما أدى إلى تعقيد المشهد العسكري في تلك الجبهة، خاصةً مع وجود مسعى مقابل من جانب النظام السوري وروسيا لتعزيز الحضور العسكري أيضًا في تلك المنطقة.
مظاهر الحضور:
يمكن رصد مظاهر تصاعد الانتشار العسكري الأمريكي في الجنوب السوري، وذلك على النحو التالي:
1- قيام الجيش الأمريكي في 15 يونيو الجاري بنقل منظومة الراجمات الصاروخية المتعددة HIMARS"" (High Mobility Artillery Rocket System) من الأردن إلى جنوب سوريا للمرة الأولى، وذلك بهدف تأمين قاعدة "التنف" العسكرية جنوب سوريا التي تستخدمها قوات التحالف الدولي في عملياتها ضد تنظيم داعش وفي معركة الرقة الجارية بالتحديد.
2- محاولة طيران التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة مزاحمةَ طيران النظام السوري والروسي في المنطقة الجنوبية وعلى طول خط الحدود السورية العراقية، واتضح ذلك من الضربتين اللتين قامت بهما الولايات المتحدة مؤخرًا ضد رتلين تابعين للقوات التابعة للنظام قرب قاعدة "التنف"، الأولى كانت في 18 مايو الماضي، والثانية كانت في 6 يونيو الجاري.
وتوضح الخريطة التالية موقع معبر وقاعدة التنف، وأهميتها الجغرافية لأطراف الصراع السوري:
أهداف متعددة:
تتمثل أهم الدوافع الأمريكية للإقدام على تعزيز الحضور العسكري في جنوب سوريا فيما يلي:
1- محاولة إشغال النظام السوري وحلفائه بالتركيز على متابعة النشاط العسكري الأمريكي المتصاعد في الجنوب السوري، وذلك بهدف تشتيت جهود النظام العسكرية، ومنعه من مواصلة مزاحمة قوات سوريا الديمقراطية في معركتها الحالية ضد تنظيم داعش في الرقة في الشمال؛ حيث يسعى النظام السوري مدعومًا من روسيا بالانخراط في معركة الرقة من جهتها الجنوبية.
2-المساعي الأمريكية لإيجاد موطئ قدم في مثلث الحدود العراقية السورية الأردنية، بهدف إجهاض المساعي الإيرانية المقابلة لإيجاد نفوذ عبر الحشد الشعبي المدعوم منها في تلك المنطقة، ومحاولة ربط الجبهتين العراقية والسورية، وتسهيل مخطط الحشد لدخول الأراضي السورية والقتال بجانب الجيش السوري، وتأمين الإبقاء على الطرق مفتوحة بين إيران وسوريا عبر العراق، وضمان وجود ممر بري يصل إيران بحلفائها في المنطقة.
تجدر الإشارة إلى أن الولايات المتحدة رأت في قيام قائد فيلق القدس "قاسمي سليماني" في 14 يونيو الجاري بالصلاة على الحدود السورية العراقية مع مقاتلين من الحشد الشعبي العراقي ومقاتلين من لواء "فاطميون" الأفغاني المقاتل في سوريا، استفزازًا إيرانيًّا ضمنيًّا وإيذانًا بأن طهران عازمة على ربط ميليشياتها المدعومة منها في العراق وسوريا.
3- تخوف الولايات المتحدة من انسحاب فصائل الجبهة الجنوبية من المناطق التي تتمركز بها، وسيناريو سيطرة قوات النظام السوري وروسيا عليها، وذلك في ضوء تركيز الطيران السوري والروسي على قصف المناطق الجنوبية السورية. ويُشار في هذا الإطار إلى قيام طيران النظام السوري بشن 600 غارة على محافظة درعا خلال الفترة من (1-15) يونيو الجاري.
4- أنها ترتبط بالهدف الرئيسي للولايات المتحدة حاليًّا في سوريا، وهو محاولة السيطرة على المناطق التي يحتلها داعش في سوريا، سواء كانت في الشمال أو الجنوب، بحيث يُقدم ذلك كنصر رمزي كبير للإدارة الأمريكية الحالية بعد أن خسرت الولايات المتحدة معظم أوراقها في سوريا على خلفية التدخل الروسي ونجاح موسكو في تعديل ميزان القوى لصالح الجيش السوري. ويرتبط بذلك الدافع إدراك الولايات المتحدة أن "داعش" يخطط للتمركز في الجنوب والبادية السورية بعد معركتي الموصل والرقة للإبقاء على خلافته المزعومة في تلك المنطقة.
5- استباق محاولات الجانب الروسي لدعم قوات النظام السوري للسيطرة على منطقة البادية السورية، ويأتي التنافس الأمريكي الروسي الحالي في الجنوب السوري على غرار ما هو حاصل بينهما في الشمال، حيث تدعم الولايات المتحدة قوات سوريا الديمقراطية في معركة تحرير الرقة من تنظيم داعش من الناحية الشمالية، فيما تدعم روسيا قوات النظام السوري التي تهاجم التنظيم من جنوب الرقة.
6- محاولة تنبيه الرئيس "الأسد" إلى أن الضربات الأمريكية ضد معاقل النظام سيتم تكرارها عند الضرورة، وأن على النظام السوري أن يُدرك ذلك جيدًا، ويرتبط ذلك باستمرار مسعى الولايات المتحدة لتطويع الموقف السياسي للنظام، من خلال إجباره على تقديم تنازلات في العملية السياسية المقبلة، سواء في الأستانة أو في جنيف، والتأكيد على أن تحالف النظام مع روسيا وإيران لن يحول دون قيام الولايات المتحدة بإجراءات منفردة لعقابه، طالما أنه غير جادٍّ في الوصول إلى حل سياسي.
7- توجيه دعم أمريكي مباشر لقوى المعارضة في الجبهة الجنوبية لمواجهة الحملة الجوية الحالية للنظام السوري ضدها، ومحاولة استيعاب الاستياء الذي ترسّخ لدى قوى المعارضة، خاصة العسكرية منها، بعد إعلان الرئيس الأمريكي "ترامب" مؤخرًا أن أولويته ليست إسقاط النظام في هذه المرحلة ولكن الحرب على الإرهاب.
8- استمرار المسعى الأمريكي لإثبات تجاوب الإدارة الأمريكية مع مواقف بعض الدول الإقليمية الرافضة للنظام السوري، والتي تم تهميش دورها في الأزمة السورية مؤخرًا. كما تُعتبر التعزيزات العسكرية الأمريكية في جنوب سوريا رسالة واضحة لإيران بأن الولايات المتحدة تُرجِّح الخيارات العسكرية في سوريا.
9- ممارسة ضغوط على روسيا لتطويع موقفها فيما يتعلق بالتفاهمات الثنائية حول مستقبل الأوضاع في سوريا، ومحاولة دفعها لمراجعة تحالفاتها مع إيران ومع النظام، والتأكيد الضمني لموسكو بأن ما أكدته واشنطن من أولوية الحرب على الإرهاب، لن تعني إخلاء الساحة السورية لكلٍّ من روسيا وإيران.
10- استمرار مسعى الرئيس "ترامب" للتأكيد للداخل الأمريكي على عودة الحضور الأمريكي في دوائر الاهتمام بفاعلية ودون انتظار لمواقف دولية مساندة، ولاستيعاب سلبيات أداء الإدارة الأمريكية السابقة تجاه الأزمة السورية، وهو الموقف الذي عبّر عنه "ترامب" عدة مرات، والرد على الاتهامات المتواصلة من بعض القوى والمؤسسات الأمريكية للرئيس ترامب وإدارته بعدم الجدية أو الصلابة في التعامل مع روسيا.
تحركات استباقية:
من الواضح أن إدارة الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" تحرص منذ قدومها للسلطة على ضمان حضورها العسكري المكثف في الملف السوري، وتُعتبر القوات والمعدات التي أرسلتها واشنطن إلى سوريا منذ مطلع العام الجاري وحتى الآن الأكبر من نوعها منذ بداية الأزمة السورية.
وترغب الولايات المتحدة من انتشارها العسكري في الجنوب السوري وفي محيط الحدود السورية العراقية، إلى ردع إيران بصورة أساسية، ومنع أي احتمالية لحدوث اتصال جغرافي بين القوات المدعومة من طهران في الساحة العراقية والقوات المدعومة منها في الساحة السورية.
ومن المتوقع استمرار حرص الولايات المتحدة رغم نشاطها العسكري الواضح في الجبهة الجنوبية، على المحافظة على حد مناسب من التفاهمات مع روسيا في تلك المنطقة.
ومن المرجّح أن يؤدي الانتشار العسكري الأمريكي في المنطقة الجنوبية إلى تراجع هجمات قوات النظام ضد فصائل الجبهة الجنوبية، ومنع تقدم تلك القوات باتجاه قاعدة التنف؛ حيث سيخشى النظام من تداعيات الاصطدام بالولايات المتحدة في تلك المنطقة.