طالبت الولايات المتحدة الأمريكية روسيا بمواجهة التحركات التي تقوم بها إيران ونظام الأسد والميليشيات الموالية لها عقب الاتفاق على مناطق خفض التوتر في سوريا، غير أن الراجح هو أن موسكو غضّت الطرف عن تلك المطالبة، مركزة على أولوية الالتزام بمخرجات الاتفاق.
ومع أول اختبار في معركة "التنف"، اكتفت روسيا بتنبيه طهران والميليشيات التي استمرت في طريقها باتجاه الحدود العراقية متلافية القاعدة الأمريكية فقط، كما ضاعفت إيران من التحدي مجددًا مع إطلاقها 6 صواريخ من محافظة "كرمنشاه" على دير الزور، في سابقة هى الأولى من نوعها دون رد فعل روسي.
وعلى الأرجح، فإن اتجاهات العلاقات الروسية-الأمريكية في ظل ديناميات المشهد السوري الراهن تظل مؤشرًا على الموقف الروسي من التحركات الإيرانية. ففي مراحل التفاهم المشترك تعمل روسيا على ضبط إيقاع الأداء الإيراني في سوريا، وبالعكس في مراحل التأزم تغض موسكو الطرف، وفي أفضل الحالات تكتفي بتوجيه رسائل غير علنية أو مبطنة لحليفتها طهران. كما أن الاحتكاك الروسي- الإيراني يأتي أيضًا في إطار محاولات روسيا الحفاظ على التوازن الحَرِج بين إيران وتركيا كمتنافسين إقليميين على الساحة السورية.
ولكن من المتصور أن هناك مرحلتين في سياق العلاقات الروسية- الإيرانية في سوريا ترتبطان بالتحركات الجيوستراتيجية في الساحة السورية. فحينما كان الصراع في نطاق "سوريا المفيدة" كان مستوى الاحتكاك أعلى في مقابل العمليات في نطاق غرب الفرات. ومع زيادة مستوى التواجد الأمريكي وبدء التحضيرات لمعركة الرقة، يمكن القول إن هامش التباين بين الطرفين أصبح أقل بكثير، وهو ما يُضفي حالة من الغموض على الموقف الروسي من المشروع الإيراني في سوريا والعراق، أو ما يُعرف بـ"القوس الإيراني" في الإقليم، ثم الموقف من استخدام القوة الصاروخية الإيرانية.
وبالتالي تُطرح العديد من الإشكاليات في هذا السياق. فكثيرًا ما شكلت الضغوط الروسية على إيران دافعًا لتغيير قواعد اللعبة. ومع أن طموحات إيران في سوريا بلا حدود، فإن تداعيات هذه الإشكاليات تطرح العديد من علامات الاستفهام حول مستقبل العلاقة بين الطرفين.
حدود التباين:
تصاعد مستوى التعاون الروسي-الإيراني في سوريا خلال المرحلة الماضية، رغم ظهور بعض التصدعات المحدودة بين الطرفين، ومنها، على سبيل المثال، أزمة الإعلان الروسي عن استخدام مقاتلاتها قاعدة "نوجه" الجوية غرب همدان لاستهداف مواقع في سوريا في أغسطس 2016، وهو ما اعتبرته إيران إحراجًا لها من حليفتها أمام الرأى العام الداخلي، وتم احتواء الأزمة تدريجيًّا.
لكن وبعد أقل من أربعة أشهر، اندلعت أزمة أخرى خلال مرحلة التسويات في حلب، والتي اعتبرتها موسكو انتصارًا لها وللنظام، بينما تم تجاهل الدور الإيراني، وهو ما أثار حفيظة طهران، إلا أن تجاوز هذا الموقف أيضًا لم يَحُلْ دون تكراره، ففي حلب ذاتها وُجِّهت انتقادات دولية لطهران نظرًا للسلوك الطائفي الإيراني الذي غلب على اتفاق كفريا والفوعة، وتحت الضغوط الدولية مارست روسيا ضغوطًا على إيران.
وفي مارس 2017 قالت صحيفة "إيزفيستيا" الروسية إن طهران وافقت شفهيًّا على سحب ميليشياتها الطائفية من بعض المواقع تحت إشراف روسيا، التي حذرتها من إحلال ميليشياتها بأخرى في مواقع الإخلاء، وبالفعل انصاعت إيران لتلك التحذيرات. أيضًا ظهر تباين في الموقفين أثناء التحضير لاجتماعات أستانة حول مشاركة الولايات المتحدة فيها، فبينما كانت روسيا تفضل مشاركة واشنطن، كانت إيران على النقيض من ذلك، لكن في كافة هذه المشاهد كانت روسيا تنجح في ممارسة ضغوط على إيران.
وفي مرحلة الاستعداد لتحرك عسكري لتحرير الرقة من جانب التحالف بقيادة الولايات المتحدة مع تولي إدارة ترامب مهامها، ومع تعزيز التواجد العسكري الأمريكي، بدأ الاحتكاك الأمريكي يتصاعد مع إيران، وعوّلت واشنطن على موسكو في كبح طهران، وطُلب من وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف تقييد التحركات الإيرانية عقب التفاهم على المناطق الأربع منخفضة التوتر.
ومع أول تحرك إيراني تجاه تلك المناطق، قصفت القوة الأمريكية الموجودة بقاعدة التنف الحدودية مع العراق رتلاً لميليشيا موالية لإيران، بعد أن طلبت من موسكو وقف تقدم هذه الميليشيات تجاه القاعدة، وأعلنت روسيا أنها حاولت الاتصال مع إيران لوقف التقدم دون جدوى.
وفي الواقع فإن موسكو لم تحاول، على ما يبدو، منع الضربة، بل إنها تغاضت عنها، حسب رؤية اتجاهات عديدة، باعتبارها عقابًا على تجاوز إيران وتحركها المنفرد. وقد نقلت وسائل الإعلام الروسية أنه كان هناك تنسيق معها، وأن التنسيق كان مع النظام السوري.
وعلى ما يبدو فإن روسيا تُعارض أيضًا التكتيك الإيراني القائم على التنسيق مع ميليشيا "الحشد الشعبي" للوصول إلى الحدود العراقية-السورية، لكنها لم تُظهر ذلك، ويحتمل أنها تُحيِّد نفسها عن التدخل كوسيط، أو أنها تسعى لتوظيف الاحتكاك الإيراني-الأمريكي في سوريا لصالحها لاحقًا.
مشهد معقّد:
تُظهر بعض التجاذبات الإيرانية-الروسية، التي لم تكن واشنطن بعيدة عنها، أن إيران تستجيب شكليًّا لتنبيهات موسكو، وهو ما يطرح إشكاليات عديدة، منها أن الضغوط الروسية هى ضغوط شكلية، أو ضغوط تكتيكية. فعلى سبيل المثال، أبدت روسيا رفضها لتحرك إيران تجاه الحدود العراقية في معركة "التنف"، لكنها لم تَحُلْ دون تحركها عندما غيرت المسار واتجهت إلى الهدف ذاته، في إشارة إلى أن موسكو ربما ترى أنه يمكن لإيران التحرك الحر بعيدًا عن التماس فقط مع المناطق الأربع، وهو ما يتوافق مع ما نقله الكاتب نيقولاي سوركوف في صحيفة "إيزفيستيا" عن مسئولين عسكريين سوريين، بأن الهدف من هذا التحرك تجاه الحدود العراقية هو "منع المجموعات الموالية للولايات المتحدة من الجيش السوري الحر من الوصول إلى طريق تدمر - دير الزور، الذي كان سيمنع قيام قوات الحكومة السورية بكسر طوق الحصار عن دير الزور".
وربما يمكن القول إن الرؤية السابقة -في حال صحتها- لا تتعارض مع خطة روسيا وحلفائها فيما يتعلق بمعركة الرقة، وقد يدعم ذلك أن الولايات المتحدة تقوم ببناء قاعدة عسكرية جديدة في منطقة "خبرة الزقف"، ونشر منظومات دفاعية فيها، في إطار معركة البادية الحالية في جنوب سوريا.
كما أن روسيا لم تظهر أى رد فعل على الخطوة الإيرانية حينما قصفت إيران دير الزور بصواريخ باليستية، في حين أن روسيا سارعت حين أسقطت الولايات المتحدة طائرة سوخوي سورية إلى التنديد بتلك العملية، وتم تعليق الخط الساخن الخاص بتنسيق عمليات التحليق الجوي. ومن ثم يمكن استنتاج أن روسيا ترى أن هامش التباين مع إيران يمكن توظيفه بحسب الحالة في إطار العلاقة مع واشنطن، فهى في بعض الأحيان تعمل كوسيط بين طهران وواشنطن، وفي أحيان أخرى تستفيد من استهداف الولايات المتحدة عسكريًّا لإيران، وفي أحيان ثالثة تستهدف انشغال الطرفين بالصراع.
وفي النهاية، يمكن القول إن هوامش التباين بين روسيا وإيران مهما اتسعت وزادت مساحتها تبقى تحت سيطرة الطرفين؛ إلا أن هناك محفزات لمستوى ردود الفعل، منها العلاقات الطرفية الأخرى، سواء الروسية- الأمريكية أو الروسية- التركية، لكن كافة المشاهد أثبتت أن أيًّا من الطرفين لن يضحي بالتحالف مع الآخر، وأن آلية الحوار هى أداة فعالة لتسوية الخلافات التي يمكن أن تنشب بين الطرفين، وليس من المتوقع في المنظور القريب أن تفقد تلك الآلية فعاليتها، لكنها لن تحول دون تكرار الاحتكاك بين الطرفين في إطار هامش لا يسمح بانهيار التوافق بينهما.