لم يعد المستقبل هو ما يجب أن ننتظره، بل ما يمكن أن نصنعه، عبر أفكار خلاقة، وتخطيط علمي، يرمي إلى تحسين شروط حياة الأجيال القادمة، وهو مسار ليس من الصعب المضيّ فيه قُدمًا مع توافر الإرادة، وكفاءة الإدارة، وقبل كل هذا وضوح الهدف، والتجريب المستمر من أجل الأفضل. ولعل العنصر الأهم الذي يجعل بعض الدول تتقدم وأخرى تتخلف، ليس هو توافر المواد الخام، ولا رأس المال، بقدر ما هو وجود أفكار إبداعية تتوالى، متوزعة على مختلف مناحي الحياة، تتبناها إدارة سياسية واعية بالمتغيرات ومدركة للمتطلبات كافة، وتترجمها إلى برامج وخطط، تجد طريقًا يسيرًا إلى التنفيذ.
وهذا التصور حاضر في خطة "مئوية الإمارات 2071" التي انطلقت في مارس 2017، وتمثل برنامج عمل حكوميًّا طويل الأمد، يتضمن وضع استراتيجية وطنية لتعزيز القوة الناعمة لدولة الإمارات، وتحسين موقعها في كثير من المؤشرات المعنية برصد وقياس ما ارتقته الدول في العديد من المجالات، حتى تحل المئوية الأولى لقيام اتحاد دولة الإمارات العربية، فتجني الأجيال القادمة نتاج عمل حكومي متواصل.
وفي أولى مبادرات تحقيق "مئوية الإمارات"، أطلق صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، يوم 21 مايو الجاري، "منطقة 2071"؛ وهي تهدف لأن تكون مقرًّا للشركات والخدمات والمختبرات الذكية العالمية التي تعمل على توفير حلول وأدوات ابتكارية جديدة تتناسب مع تكنولوجيا ومتطلبات وتحديات المستقبل، وبما يساهم في تقدم البشرية وتحقيق أهداف "مئوية الإمارات".
محاور أربعة
تقوم رؤية "مئوية الإمارات 2071" على 4 محاور يمكن شرح تفاصيلها على النحو التالي:
1- حكومة تستشرف المستقبل: وهي حكومة تُقاد أو تُدار بوعي، وفق رؤية بعيدة المدى، تسعى إلى تحقيق الرفاه الاجتماعي، وتقدم رسائل إيجابية للعالم، إثر تبني أفضل التجارب والممارسات النابعة من استراتيجية وطنية لتعزيز القوة الناعمة للدولة، وضمان وجود مصادر جديدة ومتنوعة للإيرادات الحكومية المستدامة والقدرات المالية والاستثمارية بعيدًا عن النفط، وتطوير آلية لرصد المتغيرات التي تطرأ على مختلف القطاعات، وقياس حجم تأثيرها في الأجيال المقبلة، التي يجب أن تشارك في كل هذه العمليات والسياسات والمبادرات من خلال إنشاء مجالس استشارية لها في القطاعات الحكومية كافة، بل وتولي العناصر الكفؤة منها مسئولية الإدارة والتسيير.
2- تعليم للمستقبل: يتم هذا بتعزيز مستوى تدريس العلوم والتكنولوجيا المتقدمة، لا سيما في مجالات الفضاء والهندسة والابتكار والعلوم الطبية والصحية، وترسيخ القيم الأخلاقية والتوجهات الإيجابية، وتلك التي تُعلي من مستوى الاحترافية والمهنية في المؤسسات التعليمية، وتكوين عقول منفتحة على تجارب الدول المتقدمة، عبر تعليم الطلاب تاريخ وثقافات وحضارات الدول الأخرى، وتدريسهم لغات جديدة (مثل: اليابانية، والصينية، والكورية)، ووضع آليات لاستكشاف المواهب الفردية للطلبة منذ المراحل الدراسية الأولى، والتركيز على تمكين المدارس من أن تكون بيئة حاضنة في مجال ريادة الأعمال والابتكار، وتحويل المؤسسات التعليمية في الدولة إلى مراكز بحثية عالمية، وتعزيز منظومة التعلّم المستمر والتكاملي، وضمان وجود جامعات إماراتية ضمن قوائم أفضل الجامعات عالميًّا، تكون جاذبة للطلبة والأكاديميين والباحثين من مختلف أرجاء المعمورة، وتعمل على تأهيل الأجيال المقبلة لزمن مختلف.
3- اقتصاد معرفي متنوع: هناك طموح ليكون اقتصادًا بوسعه منافسة أفضل اقتصادات العالم. ويتم هذا عبر تطبيق آليات عدة، من بينها: رفع مستوى الإنتاجية في الاقتصاد الوطني، ودعم الشركات الوطنية للوصول إلى العالمية، والاستثمار في البحث، والتطوير في القطاعات الواعدة، والتركيز على تلك التي تعتمد على الابتكار والريادة والصناعات المتقدمة، وتطوير استراتيجية اقتصادية وصناعية وطنية تستشرف المستقبل، وتضع الإمارات ضمن الاقتصادات المهمة في العالم، وتربية وتنمية جيل من المخترعين والعلماء الإماراتيين، ودعم إسهامهم في تطور العلوم والتقنية، والتنسيق والتكامل مع الدول المتقدمة في هذا الشأن، وتحسين المستوى المهني لدى الإماراتيين، وإكسابهم ثقافة عمل جديدة، وتشجيع تصدير المنتجات والخدمات الوطنية المتقدمة لمختلف أنحاء العالم عن طريق برامج متخصصة ومكثفة، ودعم وتشجيع زيادة نماذج الشركات الإماراتية الرائدة.
4- مجتمع أكثر تماسكًا: يتحقق هذا بترسيخ قيم التسامح والتماسك والتواضع والاحترام والولاء للوطن في ربوع المجتمع، وكذلك تمكين الشباب والنساء، وجعل السعادة والإيجابية أسلوب حياة، وتوفير جودة عالية في مجالي الصحة والرياضة، وتوظيف كل الطاقات البشرية في طريق التكاتف والتعاون، وتكوين أسر واعية بمتطلبات المرحلة المقبلة، وتطوير برامج تجعل أجيال المستقبل قادرة على إعطاء نموذج جيد عن دولة الإمارات في الخارج، والأهم هو زيادة مستوى التفاف الإماراتيين حول وطنهم.
حسابات استراتيجية
تأخذ خطة "مئوية الإمارات 2071"، بأركانها الأربعة، في حسبانها عدة اعتبارات، هي:
1- عدم التأثر بانخفاض أسعار النفط، فالمجتمع الإماراتي، شأنه شأن باقي دول الخليج العربية، اعتاد على نمط من المعيشة، تحرص الدولة دائمًا على استمراره وتحسينه، وأن تعيش الأجيال القادمة حياة أسعد، وعدم التأثر مطلقًا بتراجع أسعار النفط، وهذا تحققه دولة الإمارات عبر بناء اقتصاد متنوع ومختلف في موارده، ووجود مصادر متنوعة للإيرادات الحكومية بعيداً عن النفط، وتوجيه قدر كبير من الاهتمام إلى الابتكار والأفكار الإبداعية في جميع قطاعات الدولة.
2- أن هذه الاستراتيجية المئوية تتسم بالتكامل والترابط، وهما خاصيتان أساسيتان للتفكير الاستراتيجي بشكل عام، إذ إنها قامت على سلسلة من البرامج التي يعتمد كل منها على الآخر، وهي تشكل مقدمات وعمليات للتحويل ثم نتائج. فالمقدمات تتمثل في العمل من أجل اقتصاد متنوع، وتطوير التعليم وتحديثه، وعملية التحويل تتمثل في الجهود الإدارية التي تقوم بها حكومة مرنة ومدربة ومطلعة على أحدث الخطط، ومستعينة بمستشارين أكفاء، لتكون النتيجة هي مجتمع متماسك، ينعم برغد العيش والأمان، ويتطلع إلى المستقبل بخطى واثقة.
وفي إطار هذه العمليات المتلاحقة، فإن تحديث الاقتصاد وتنويعه لا يمكن أن يتم إلا بزيادة الاعتماد على القدرات الفكرية، وليس الموارد الطبيعية التي يتكئ عليها الاقتصاد التقليدي، وهذا يتطلب نظامًا تعليميًّا مختلفًا. كما أن الأمرين لا يتحققان معًا إلا بإدارة تتمتع بقدر كبير من الابتكار والمرونة، وبما يؤهلها للتعامل مع المتغيرات والمستجدات.
3- أن القيادة السياسية، التي تبنت مشروعات من هذا القبيل في السنوات الأخيرة، معنية بتعزيز قدرات الدولة، وضمان استمرارية التنمية، واستدامة السعادة لعقود طويلة. فإذا كانت هذه القدرات قد تطورت وتقدمت بفعل توظيف عوائد النفط، فإنها تعمل على تعزيزها من خلال اقتصاد أكثر تنوعًا، وابتكار أفكار ومبادرات جديدة تساهم في زيادة موارده.
4- فتح الباب أمام الأجيال القادمة للمشاركة في صناعة حاضرها ومستقبلها، كما تسعى القيادة الإماراتية إلى تجهيز هذه الأجيال لمنظومة قيم تواكب مستجدات العصر، وتزويدهم بالمهارات والمعارف التي تستجيب مع التغيرات المتسارعة.
مُجمل القول، جاء إعلان دولة الإمارات مؤخرًا عن إطلاق "منطقة 2071" توافقًا مع خطة "مئوية الإمارات 2071"؛ والتي تعد أبعد خطوة تضعها دولة الإمارات في مسار صناعة المستقبل، وسيكون للأركان الأربعة التي تقوم عليها هذه الخطة صدى كبير على مختلف المؤسسات، وكذلك الإجراءات والقرارات والتشريعات والتدابير والبرامج، في السنوات القليلة المقبلة. إذ تسعى تلك الرؤية طويلة المدى إلى الاستثمار بالدرجة الأولى في شباب الإمارات، وتهدف إلى أن تعيش أجيال المستقبل في الدولة حياة أسعد في بيئة أفضل، وأن تكون دولة الإمارات نموذجًا لتحقيق الأفكار الإبداعية لخدمة البشرية، وبما يساهم في مواجهة تحديات المستقبل المختلفة.