تُشير التحركات الميدانية الأخيرة لتنظيم "داعش" على الساحتين السورية والعراقية، إلى تطور مرحلي في مسار التنظيم مع فقدانه أغلب المواقع التي كان يسيطر عليها في الدولتين، ومظاهر بنيته التنظيمية بتخليه عن التمسك بالمعقل الرئيسي له في الرقة (العاصمة)، وما لذلك من دلالات متعددة، لعل أهمها الدلالات الرمزية، وتداعيات متعددة أيضًا، ومنها التداعيات الجيوسياسة، في إطار إعادة التمركز والانتشار في المرحلة المقبل عليها، والتي يفترض أنها ستحدد مسار التنظيم.
لكن لا يبدو أن انهيار التنظيم وتفككه هيكليًّا يعني نهايته، فمن المرجح -وفق المعطيات الراهنة- دخول التنظيم في طور مختلف أقرب إلى المراحل التنظيمية كما حدث في مرحلة ما بعد انهيار "دولة العراق الإسلامية" أو "دولة الزرقاوي". لكن على صعيد تتبع المرحلة قيد التشكل، على مستوى التنظيم، فمن المتصور اتجاهه إلى إعادة الانتشار بشكل لا مركزي في مواقع تواجده السابقة، مع التركيز على البيئات الأقرب إلى التعاطف أو التقارب معه في مرحلة "ما بعد الرقة".
إعادة تموضع:
قلص التنظيم من حجم تواجده في الرقة، في ظل العمليات العسكرية التي تخوضها "قوات سوريا الديمقراطية" مدعومة من التحالف الدولي، ومن ثم فإن التنظيم سيسلك اتجاهات مسار الخروج عبر محطة أساسية هي دير الزور، ومنها سيتفرع باتجاهات مختلفة، أهمها مساران:
الأول: مسار جنوب سوريا باتجاه تقاطع الحدود مع الأردن، كمسار إجباري، بسبب عدة عوامل، من بينها وجود محطة دعم "داعشية" متاخمة للحدود تتمثل في مجموعات ما يُعرف بـ"جيش خالد بن الوليد" الموالي للتنظيم، والتي تتراوح تقديرات مقاتليه ما بين 400 مقاتل -وفقًا لمعهد دراسات الحرب- و1500 مقاتل طبقًا لتقارير غير رسمية. كما أن هناك بعض الخبرات التمهيدية للتنظيم لفتح الطريق في مراحل سابقة، منها استهداف قاعدة ومطار التنف العسكري الاستراتيجي في إبريل 2017.
الثاني: وهو أيضًا مسار إجباري باتجاه مركز مفصلي للخروج من الرقة وهو دير الزور، ثم الانعطاف مع الحدود العراقية - السورية التي تصل إلى 600 كلم باتجاه الأنبار التي يعرفها "داعش" جيدًا بحكم تواجده فيها خلال المراحل السابقة كمركز عمليات للتنظيم وقاعدة للانطلاق لتنفيذ عملياته في أنحاء العراق. ويعزز هذا المسار أيضًا التفاهمات التي تم التوصل إليها الشهر الماضي بين التنظيم وقيادة "جبهة النصرة".
آليات المواجهة:
تبنى التنظيم آليتين مختلفتين في مواجهاته العسكرية داخل العراق وسوريا، هما:
1- الإنهاك الواسع: وهو ما يظهر مع ارتفاع مستوى العمليات التي يشنها التنظيم خارج الرقة والموصل. فمع تقدم القوات العراقية والتحالف الدولي، بدا واضحًا أن التنظيم يشن عمليات من خلال فرق التفجيرات والانغماسيين للقيام باستهداف التمركزات الأمنية في الكثير من المواقع في الأنبار والفلوجة وتكريت حيث قواعد تمركز التنظيم السابقة، بالإضافة إلى رفع مستوى عمليات الاستهداف في المزارات الشيعية كما حدث في سامراء، وإقامة بعض المعسكرات في بعض المدن مثل الفلوجة، في خارج المحيط السكاني، خاصة وأن التنظيم فَقَدَ قدرًا كبيرًا من الحاضنة الشعبية في ديموغرافيا الانتشار السابقة.
2- عمليات انتقام نوعية: خاصة في المناطق الكردية والسنية التي سبق وخرج منها التنظيم في وقت سابق. إذ يبدو أن حرص "داعش" على الاستمرار في التعبير عن نفسه كتنظيم "متوحش"، سوف يدفعه إلى عدم التراجع عن سياسة المواجهات العنيفة، مستخدمًا تكتيك الخداع والتمويه، كما حدث في عملية حادث تلعفر، حيث قام مقاتلوه بارتداء زي الجيش العراقي وتصفية نحو 15 عراقيًّا، وكذلك في عملية سامراء.
وبحسب تصريحات مسئولي العمليات في العراق، فإن هناك ارتفاعًا في مستوى إحباط الكثير من العمليات على النقاط الأمنية، لكن ما تكشفه المراصد، سواء المحلية أو الدولية، مثل معهد دراسات الحرب، يشير إلى ارتفاع مستوى العمليات خلال الأسابيع الأخيرة بأشكال مختلفة وفي منتهى العنف للإيقاع بأكبر قدر من القتلى، مثل استخدام الكيماوي على محور غرب الموصل في الفترة من 4 إلى 20 إبريل الماضي، بالإضافة إلى استهداف المشاهد الجنائزية في الكثير من المواقع، مثل حادث العسيرية التابع لمنطقة الإسكندرية في بابل.
في المقابل، فإن أنماط المواجهة مع التنظيم لا تزال قيد التعامل على الخطط السابقة التي تتعاطى مع مرحلة السيطرة في الرقة والموصل، وفي الحالتين تبدو معدلاتها بطيئة قياسًا بتحرك التنظيم. ولكن هذا لا يعني فشل عمليات المواجهة أو عدم جدواها، كونها لا تزال تحقق فاعلية على النحو التالي:
1- القضاء على ما تبقى من المرحلة الأولى التي كان التنظيم يسيطر فيها على الأرض، لكنّ المهم هو تأمين تلك المناطق التي تم تطهيرها، وعلى ما يبدو فإن عمليات التطهير لا تتم بشكل جيد، حسب اتجاهات عديدة، أو لا تزال تشهد ثغرات تسمح بإعادة فتح مسارات للتنظيم مرة أخرى في المناطق المحررة.
2- تدمير البنية التسليحية للتنظيم من خلال قصف مخازن أسلحته في مواقع مختلفة، حيث من المرجح أن يكون التنظيم قد حرص على عدم الكشف عن مخازن أسلحة، كما حدث في مستودع الكرابلة قرب القائم في 22 مارس الماضي.
إشكالية رئيسية:
تواجه العمليات العسكرية ضد التنظيم إشكالية رئيسية، خاصة في العراق، تتمثل في الافتقار لسياسة تعامل جماعي نشط. إذ من المرجح أن أزمة ثقة ستتجدد بين القوى الظاهرة على مسرح العمليات هناك. ومن دون شك، لا يمكن عزل التدخل التركي في سنجار عن هذا المشهد، فمن الصحيح أنه يهدف إلى توجيه رسالة لـ"حزب العمال الكردستاني" بأن المهمة انتهت، وهو ما أكدت عليه الحكومة واقعيًّا عقب الضربات، إلا أن هناك عدم تنسيق مع الحكومة العراقية التي أبدت رفضها لهذا التحرك للمرة الثانية، وبالتالي فهو تحرك كاشف عن انعدام الثقة والتنسيق المشترك على المستوى العملياتي، وهو ما يعني بالضرورة غياب التنسيق المعلوماتي بالتبعية، وهي إشكالية إضافية.
وفي النهاية، يدرك تنظيم "داعش" أنه بصدد الانتقال للمرحلة الثانية التي سيتحول فيها إلى "تنظيم تقليدي"، كما هو الحال مع تنظيم "القاعدة" على سبيل المثال، وبالتالي لا يُعطي الأولوية للتمسك بالأرض، وهو ما سبق ونبه إليه أبو محمد العدناني المتحدث باسم التنظيم في آخر رسائله قبل مقتله، وبالتالي تحولت عملية السيطرة على الأرض من "استراتيجية" في مراحل التمدد إلى "تكتيك" في مرحلة الانتقال المرحلي التي ينتهجها التنظيم حاليًّا.