دأب الرئيس السوري بشار الأسد على ترديد أسطوانة أنه يحارب «الإرهاب»، ومن ثم فإن أهم شرط للحل في سورية، كما يقول، هو القضاء على هذا الإرهاب. حسناً، حتى لو افترضنا صحة كلام الأسد ودقته أيضاً، يبقى سؤال: لماذا فشل على مدى ست سنوات في مواجهة «الإرهاب»، فضلاً عن هزيمته؟ سيقول إن التدخلات الأجنبية هي التي تساعد «هذا الإرهاب» وتمده بأسباب القوة، وتجعل بالتالي من هزيمته أمراً يقترب من الاستحالة.
لكن الأسد، قبل غيره، هو من ينسف رؤيته هذه، لأنه كان له «فضل» السبق في الاستعانة بالتدخلات الأجنبية لمساعدته، وحمايته. بماذا يختلف في هذه الحال؟ يقف الأسد على هرم سلطة تميزت عبر تاريخها بتوحش ودموية غير مسبوقين في التعامل مع السوريين. ثم إن ضحايا هذه الدموية وذلك التوحش بعد الثورة هم الناس والمدن والأحياء في سورية كلها، وليس «الإرهابيين». بهذا يكون الأسد ونظامه أقرب إلى إرهاب الدولة التي تفتقد شرعية قبول الشعب لها اختياراً لا قسراً. المفارقة بمسطرة كلام الأسد أن الغالبية الساحقة ممن يسميهم بالإرهابيين هي من السوريين، وليست من الأجانب. في حين أن القوات الأجنبية (مقاتلين وميليشيات وعتاداً) التي تقف معه جميعهم من غير السوريين. من الذي يدافع عن سورية، وعن شعبها في هذه الحال؟ لم تأت القوات الأجنبية لحماية الشعب، وإنما لحماية الرئيس من الشعب.
ولا يغير من الأمر شيئاً ادعاء الأسد بأنه إنما استعان بالإيرانيين وميليشياتهم، ثم بالروس باسم الشرعية التي يفترض أنه ونظامه يمثلانها في سورية. فالشرعية التي لا تستطيع حماية نفسها إلا بتدخلات أجنبية، وفي مواجهة مع شعبها، إما أنها ليست شرعية أصلاً، أو أنها فقدت هذه الشرعية بفعل ما اقترفته في حق الشعب، وقادها بالتالي إلى الصدام معه. وإذا كان النظام برئيسه وتاريخه وسلوكياته على هذا النحو، فإنه يكون المسؤول الأول عن ظهور الإرهاب في سورية كرد فعل على إرهاب الدولة فيها، واستعانتها بالأجانب على ذلك.
مأزق بشار الأسد، ومأزق سورية معه، انه انفصل عن الواقع تماماً. ورث هذا الانفصال مع وراثته للنظام. وبالتالي فهو انفصال سابق على الثورة. في الوقت نفسه هو انفصال واع، وتنكر مقصود بوهم حماية نظام سياسي لا يستطيع اكتساب قبوله من الناس، بل يفرض التعايش معه ومسايرته بأدوات الأمن والرعب والإرهاب. إلى متى تستطيع فرض معادلة أمنية مثل هذه من دون إطار سياسي لها؟ هذه معادلة لا تستقيم من دون معادلة سياسية تسندها وتتكامل معها. لكن متطلب الإسناد والتكامل هذا يفرض تمويه حقيقة النظام، وهي أنه في عمقه نظام علوي، تتمسك عائلة علوية بالهيمنة عليه، في مجتمع كبير غالبيته الساحقة سنية، مع مكونات إسلامية وغير إسلامية أخرى. المفارقة القاتلة أن قيادة النظام، خصوصاً في مرحلة الأسد الابن، لم تقدر أن المجتمع السوري لم يكن لديه في الأصل اعتراض جوهري في أن يكون رئيسه علوياً، كما كان أول رئيس حكومة له بعد الاستقلال مسيحياً بروتستانتياً، وهو فارس الخوري. ومرد عدم التقدير هذا يعود لهيمنة ذهنية الأقلوية على النظام وقيادته. وهو ما يفسر أن انفصال النظام وقيادته عن الواقع انتهى به أنه انفصل عن الشعب، وبات يعتمد في بقائه على مقاتلين أجانب.
لا يستطيع الأسد والحال كذلك الاعتراف بأنه كانت هناك ثورة، وأن دموية نظامه وتوحشه حتى قبل الثورة، وتحالفاته الأجنبية هي ما فجر هذه الثورة ابتداء. بعد سقوط معادلة التعايش والمسايرة بفعل الخوف، كان لا بد من شماعة الإرهاب. فالاعتراف بالثورة هو اعتراف بنهاية الأسد ونهاية النظام الذي ورثه عن أبيه. وعدم الاعتراف هو الذي أدخل سورية نفق الحرب الأهلية. وهو نفق لا أحد يعرف، وأولهم الأسد نفسه، متى سينتهي.
المدهش، وعلى رغم كل ما حصل ويحصل، أن الأسد يتوهم أن بقاءه هو المخرج من الأزمة، بل والمخرج الوحيد. يريد أن يبقى على جماجم الناس وآثار مدنهم وقراهم التي دمرها فوق رؤوسهم. هل هذا ممكن؟ لم يعد لمثل هذا السؤال أي معنى الآن، خصوصاً أن الأسد لا يزال مصراً على الإيغال في النهج الدموي المدمر، وتطبيق مبدأ العقاب الجماعي على السوريين الذين يريد البقاء رئيساً لهم. يتوهم إمكان إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل الثورة وكأن شيئاً لم يكن. بالمنطق ذاته يتظاهر بأنه لم يفقد السيطرة على مجريات الحرب، وما ستفرضه من حلول ومخارج سياسية. والحقيقة أن جيشه الذي كان يعرف بـ «الجيش العربي السوري» فقد بفعل الانشقاقات، وبتحالفه مع المقاتلين والميليشيات الأجنبية، بنيته وعقيدته الوطنيتين. تحول إلى ميليشيا أخرى من دون عقيدة، ومن دون معنويات يحفزها هدف وطني.
وسط غابة الميليشيات والمقاتلين فقدت هذه الميليشيا حتى قدرتها وربما الحافز لحماية الأسد. هذا ما يقوله الروس علناً، ويقوله الإيرانيون خلف الكواليس. هل إنكار الأسد لكل ذلك انفصال واع، أم غير واع عن الواقع؟ الأرجح أن قسوة الحرب الأهلية ومراراتها، وانتقال السيطرة إلى الأجانب جعلت من الأمر لدى الرئيس خليطاً من هذا وذاك. الرجل يقاوم السقوط. يعرف أن المقاتلين الأجانب هم الحاجز الوحيد، وليس الشعب السوري، بينه وبين هذا المآل. يحاول الهروب من قدر أنه سيكون أول وآخر وريث لحكم أبيه. إن قدر له أن يعيش سيدرك الأسد أن توريث السلطة له بتوقيتها، وبالطريقة التي تم بها، وللهدف الذي تم على أساسه كان لعنة على شكل عملية سياسية. أضعف التوريث الدولة السورية، وأدخلها لعبة طائفية ومذهبية على مستوى المنطقة وهي لعبة خاسرة للنظام السوري تحديداً. جاءت الثورة لتكشف كل ذلك، خصوصاً لفقده حكمة التعامل معها. ولأن الوريث كان من دون تاريخ أو تجربة، تفاقمت حال الضعف. لجأ إلى إيران و "حزب الله" لتعويض ذلك، فأصبح أول رئيس سوري، بل أول رئيس عربي يرهن بقاءه لميليشيا أجنبية بعد أن كانت هذه الميليشيا تعتمد في بقائها على سورية.
*نقلا عن صحيفة الحياة