بين عام 2009، وهو العام الذي فازت فيه مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية بشرف تنظيم دورة الألعاب الأولمبية الصيفية، وعام 2016 الذي يشهد بالفعل استضافة المدينة لهذه الدورة، مرت البرازيل بعدة تطورات وأحداث مهمة، ألقت بظلالها على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد، وكذلك على مصداقيتها كقوة عالمية صاعدة.
فعندما فازت ريو دي جانيرو، منذ نحو سبع سنوات، بشرف استضافة دورة الألعاب الأولمبية لعام 2016، قال الرئيس البرازيلي حينها "لولا دا سيلفا": "اليوم أدرك العالم أن زمن البرازيل قد حان، وإنني اليوم أشعر بالفخر لأنني برازيلي أكثر من أي وقت مضى، حيث حصلت البرازيل على بطاقة المواطنة العالمية والاحترام الدولي".
وبالفعل، مثلت لحظة فوز ريو دي جانيرو تتويجاً لصعود البرازيل على المسرح الدولي كقوة اقتصادية وسياسية وثقافية كبرى، وذلك بعد أن تفوقت على العاصمة الإسبانية مدريد التي تنافست هي الأخرى على هذا الشرف. وبذلك تكون البرازيل هي أول دولة في أمريكا الجنوبية تستضيف دورة الألعاب الأولمبية.
أما اليوم، فإن البرازيل، التي ستكون محط اهتمام ملايين البشر حول العالم من المتابعين لفاعليات الأولمبياد خلال الفترة بين 5 و21 أغسطس الجاري، تواجه تحديات داخلية خطيرة، ولكنها في الوقت نفسه تسعى جاهدة إلى استغلال هذا الحدث الرياضي العالمي في التغلب على هذه التحديات، وتحسين صورتها الدولية.
تحديات داخلية
تتعلق التحديات الداخلية التي تواجهها البرازيل بالأزمات الاقتصادية والسياسية، فضلاً عن وجود تهديدات أمنية ومخاطر صحية، وانعكاسات ذلك على الاستقرار السياسي والسلام الاجتماعي في البلاد، كالتالي:
1- الأزمة الاقتصادية:
تعاني البرازيل أزمة اقتصادية حادة، تجلت أبرز مظاهرها في تراجع معدل النمو الاقتصادي، ودخول البلاد في مرحلة ركود اقتصادي تشبه إلى حد بعيد ما شهدته خلال ثلاثينيات القرن العشرين، ما أدى إلى ارتفاع معدلات التضخم والبطالة، وزيادة معدلات الفقر والتفاوت الاجتماعي.
وتعود الأزمة الاقتصادية، بدرجة أساسية، إلى تراجع معدل الطلب على الصادرات البرازيلية، خاصةً المواد الخام والصادرات الزراعية، وتحديداً من جانب الصين الشريك التجاري الرئيسي للبرازيل، فضلاً عن سوء الإدارة الاقتصادية، وفشل الحكومات البرازيلية المتعاقبة في الاستفادة من الطفرة الاقتصادية المتحققة خلال فترة ارتفاع أسعار صادراتها من السلع والمنتجات الأساسية، في تطوير القطاعات الاقتصادية الرائدة، خاصةً الصناعة والبحث والتطوير.
وطالت الأزمة الاقتصادية الراهنة المدينة المستضيفة للأولمبياد؛ حيث كانت "ريو دي جانيرو" واحدة من أكثر مدن البرازيل تضرراً، مع تراجع أسعار النفط وفضيحة فساد شركة النفط الحكومية "بتروبراس"، ما دفع حاكم الولاية إلى الإعلان، في يونيو الماضي، أن ولايته تواجه "كارثة مالية".
2- الأزمة السياسية:
تشهد البرازيل أزمة سياسية أفضت إلى عزل رئيستها المنتخبة "ديلما روسيف" في مايو الماضي، وذلك في أعقاب تصويت أغلبية أعضاء مجلس الشيوخ لصالح تعليق مهامها لمدة لا تزيد على ستة أشهر، على خلفية اتهامها بانتهاك قانون "المسؤولية المالية".
وترجع جذور الأزمة السياسية الراهنة إلى أبريل 2014، وذلك مع الكشف عن فضيحة الفساد في شركة "بتروبراس"، والتي أسفرت التحقيقات فيها عن تورط عدد من كبار المسؤولين الحكوميين ورؤساء الأحزاب السياسية ورئيسي مجلس الشيوخ والنواب، بالإضافة إلى عدد من رجال الأعمال. وهو الأمر الذي أكده تقرير مؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية في عام 2015، الذي كشف عن حجم الخسائر الضخم الذي تكبدته شركة "بتروبراس" نتيجة الرشى والفساد فيها، والذي لا يقل عن ملياري دولار، كما كشف التقرير عن تراجع ترتيب البرازيل في المؤشر من المرتبة 69 في عام 2014 إلى المرتبة ٧٦ في عام 2015.
وقد أفضى عزل روسيف إلى انقسام المجتمع البرازيلي بين مؤيد لإنهاء حكم اليسار الذي بدأ في عام 2002 بوصول "لولا دا سيلفا" إلى رئاسة البلاد، وبين من يرى أن روسيف قد تعرضت لما يمكن وصفه بـ"الانقلاب البرلماني" من قِبل أحزاب المعارضة، وعلى رأسها حزب الحركة الديمقراطية البرازيلية الذي كان شريكاً رئيسياً في التحالف الحاكم بزعامة حزب العمال، وذلك قبل أن يعلن زعيم حزب الحركة الديمقراطية ميشال تامر الانسحاب من التحالف. وسبق أن شغل تامر منصب نائب الرئيسة، قبل أن يتولى، بموجب الدستور، رئاسة البرازيل بصورة مؤقتة حتى الإعلان عن نتيجة التحقيقات مع روسيف، والذي من المتوقع أن يكون بعد انتهاء الأولمبياد بأيام قليلة.
ولا ينحصر انقسام الشعب البرازيلي في الموقف من عزل الرئيسة ديلما روسيف، بل يمتد كذلك إلى مسألة صاحب الفضل في حال نجاح الأولمبياد، هل روسيف أم تامر؟، أم "سيكون الأولمبياد ملكاً لكل البرازيل"؟ على حد تعبير وزير الرياضة البرازيلي ليوناردو بيتشياني.
3- تهديدات أمنية:
تُشكل التهديدات الأمنية تحدياً إضافياً أمام البرازيل؛ في ظل ارتفاع معدلات القتل والسرقة، وكذلك الكشف، قبل انطلاق الأولمبياد بأسبوعين، عن "جماعة أنصار الخلافة البرازيلية" التي أعلنت عن مبايعتها تنظيم "داعش". وقد دفع ذلك الحكومة الفيدرالية إلى تقديم حزمة مساعدات عاجلة لمدينة "ريو دي جانيرو من أجل تأمين دورة الألعاب الأولمبية، بالإضافة إلى تكليف 85 ألفاً من ضباط الشرطة والجنود للعمل خلال الدورة، وهو ضعف عدد الجنود والضباط الذين قاموا بتأمين أولمبياد لندن 2012، كما سيكون هناك مركز تنسيق للشرطة يضم ضباطاً من 55 دولة في أكبر عملية من هذا النوع. كذلك تم تشكيل وحدة منفصلة لمكافحة الإرهاب تضم ضباطاً من سبع دول، من بينها الولايات المتحدة والأرجنتين وباراجواي.
وتأتي خطورة التهديدات الأمنية بعد الاعتداءات الإرهابية مؤخراً في باريس وميونيخ، خاصةً أن أحد المتشددين الإسلاميين الفرنسيين غرد عبر تويتر بأن البرازيل ستكون "الهدف التالي".
4- مخاطر صحية (فيروس زيكا):
تواجه البرازيل أزمة صحية خطيرة نتيجة انتشار فيروس "زيكا"، وهو فيروس ينقله البعوض، وتزداد مخاطره في حالة إصابة السيدات الحوامل به، لأنه يؤدي أيضاً إلى زيادة عدد الأطفال الذين يولدون برأس صغير. وقد أصدرت المنظمات الصحية في الولايات المتحدة وكندا وأوروبا تحذيرات من سفر النساء الحوامل إلى البرازيل ودول أخرى في الأمريكيتين التي سُجلت فيها حالات إصابة بالفيروس. كما أعلن عدد من الرياضيين عن عدم مشاركتهم في الأولمبياد بسبب انتشار فيروس "زيكا".
وفي هذا السياق، أعلنت السلطات البرازيلية عن خطة للحد من انتشار الفيروس على مدار فترة الأولمبياد، بل بدأت عمليات التفتيش على المنشآت الرياضية في البرازيل قبل انطلاق الأولمبياد بأربعة أشهر للتخلص من العوامل التي تساعد على تكاثر البعوض، على أن تكون هناك عمليات مسح على مدار فترة الأولمبياد، تفادياً لأي خطر قد تمثله تلك العمليات على صحة الرياضيين والزوار القادمين لمتابعة البطولة. كذلك قامت وزارة الصحة البرازيلية بتوظيف أكثر من ألفين من الأطباء والممرضات للعمل أثناء وبعد دورة الألعاب الأولمبية.
الأولمبياد وتحسين صورة البرازيل؟
ثمة آمال يعقدها المسؤولون في البرازيل على دورة الألعاب الأولمبية لتحسين صورة البلاد في العالم. وفي هذا السياق، يمكن القول إن التجارب العالمية في مجال تنافس الدول على استضافة الفاعليات الرياضية الكبرى، ومن بينها دورة الألعاب الأولمبية، وما تكشف عنه من استعدادها لضخ استثمارات كبيرة، واستخدام إمكانياتها كافة وعلاقاتها مع غيرها من دول العالم لنيل هذا الشرف، إنما تؤكد عظم المكاسب السياسية والاقتصادية والإعلامية التي يمكن للدولة المستضيفة تحقيقها.
إذ تكون الدولة المُنظمة محط أنظار واهتمام العالم لعدة أسابيع، ويتابعها ملايين البشر حول العالم عبر شاشات التليفزيون، فضلاً عن ما تقدمه وسائل الإعلام المختلفة من تغطية للحدث الرياضي، وما تنشره من أخبار وتقارير متعلقة بالأوضاع السياسية والاقتصادية في الدولة المنظمة.
كما يعد هذا الحدث الرياضي فرصة ثمينة لاستعراض قدرات الدولة التنظيمية بما يسهم في تحسين صورتها ومصداقيتها على الصعيد العالمي (باعتبارها دولة جاذبة للسياحة والتجارة والاستثمارات والأعمال). وبالتالي، بالإضافة إلى المكاسب الاقتصادية، هناك مكاسب أخرى لا تقل أهمية وهي تلك المتعلقة بالمكانة الرفيعة التي تتبوأها المدينة والبلد المستضيفان لهذا الحدث الرياضي العالمي.
وتعد البرازيل من القوى الصاعدة التي حرصت دائماً على استثمار مصادر وأدوات قوتها الناعمة ودبلوماسيتها العامة ومنها "الدبلوماسية الرياضية"، لتعزيز مكانتها كقوة كبرى على الساحة الدولية، وذلك في ظل تاريخها الطويل في استضافة الفاعليات الرياضية الدولية الكبرى، والتي من أهمها: كأس العالم لكرة القدم لعام 1950، ودورة الألعاب الأمريكية لعام 2007، وكأس القارات لعام 2013، وكأس العالم لكرة القدم لعام 2014.
وفي هذا السياق، يأمل المسؤولون البرازيليون في أن يسهم أولمبياد ريو 2016، في تحسين صورة البرازيل وتدعيم مصداقيتها على الساحة العالمية، والتي تضررت بصورة كبيرة خلال العامين الماضيين؛ إذ كانت محط اهتمام ومتابعة العالم نتيجة تفاقم الأزمات الاقتصادية والسياسية وفضائح الفساد والتظاهرات والاضطرابات الاجتماعية التي شهدتها البلاد.
وعلى الرغم من تأكيد الرئيس البرازيلي المؤقت "ميشال تامر" أن بلاده مستعدة لاستقبال نحو 500 ألف زائر يتوقع حضورهم منافسات الدورة الأولمبية الصيفية، فإن للشعب البرازيلي رأي آخر؛ إذ كشف استطلاع للرأي أجرته مؤسسة "داتافوليا" لاستطلاعات الرأي، خلال الفترة بين 14 و15 يوليو 2016، عن أن نصف المواطنين الذين شملهم الاستطلاع يعارض استضافة البرازيل لدورة الألعاب الأولمبية، وتوجد النسبة الأكبر منهم في جنوب وجنوب شرق البرازيل، حيث المدينة المستضيفة لأولمبياد "ريو دي جانيرو". ويعتقد 63%، من المشاركين في الاستطلاع، أن نفقات الأولمبياد ستكون أكبر من أرباحها.
مُجمل القول، ينتظر العالم ما ستسفر عنه دورة الألعاب الأولمبية الصيفية ليقيسوا مدى نجاح البرازيل في أن تبرهن للعالم أنها عازمة على التغلب على التحديات التي تواجهها، واجتياز الاختبار الصعب الذي تمر به.