برزت أنماط جديدة من التعايش الاقتصادي داخل إقليم الشرق الأوسط، وذلك نتيجة للضغوط السياسية والأمنية التي تتعرض لها بعض دول الإقليم في أعقاب اندلاع الثورات والاحتجاجات العربية في عام 2011، ويتمثل أبرزها فيما يمكن تسميته بـ"اقتصاديات مخيمات اللاجئين أو المناطق الآمنة"، وهو النمط المنتشر داخل حدود أماكن إيواء اللاجئين أو النازحين.
وبالإضافة للنمط السابق، فقد ظهرت أنماط أخرى من التعايش الاقتصادي التي تميز "المجتمعات المغلقة" أو "شبه المغلقة" على غرار الاقتصاديات الإثنية، واقتصاديات المناطق المهمشة، التي تتعلق بالمبادلات الاقتصادية التي تتم في المناطق الحدودية بين دول الإقليم، وتعتمد عادة على أنشطة غير مشروعة مثل التهريب وتجارة المخدرات وغيرها.
وتتسم الأنماط السابقة في مجملها بالهشاشة والتبعية الاقتصادية في الوقت ذاته، حيث تنتشر أنشطة اقتصادية محدودة في الأغلب تتمثل في التجارة غير المشروعة. كما تعاني من صعوبات معيشية مثل قلة فرص العمل ونقص تلبية الاحتياجات الأساسية، وهو ما يساهم في ارتفاع مخاطر انعدام الأمن الاقتصادي والاجتماعي بالنسبة لسكان هذه المناطق.
أنماط متعددة:
ظهرت بعض أنماط التعايش الاقتصادي الجديدة داخل تكوينات اجتماعية تتسم بأنها مغلقة أو شبه مغلقة، وناشئة بالأساس كنتيجة للضغوط الأمنية والسياسية التي تواجهها بعض دول الإقليم منذ سنوات، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:
1- مخيمات اللاجئين: مع احتدام الصراعات الإقليمية في دول مثل سوريا والعراق بالإضافة إلى ليبيا واليمن، استمر تدفق اللاجئين إلى الدول المجاورة، كما تزايدت أعداد النازحين داخليًا في الدول السابقة. ففي سوريا، وحسب ما تشير إليه أرقام المفوضية السامية للأمم المتحدة لشئون اللاجئين، فإن هناك نحو 4.9 مليون سوري انتقلوا للعيش في الدول المجاورة. وفي العراق، ومع بدء معركة تحرير الموصل من سيطرة تنظيم "داعش" في أكتوبر 2016، نزح نحو 178 ألف شخص من كافة أنحاء المدينة إلى عدد من المناطق المختلفة في جنوب العراق وإقليم كردستان.
كما تعيش أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين في مخيمات منتشرة على الحدود السورية مع كل من تركيا ولبنان والأردن. وتقوم الأنشطة الاقتصادية الرئيسية لهذه المخيمات على الخدمات الأساسية من التعليم والصحة وأنظمة المياه والصرف الصحي، بالإضافة إلى المراكز الأمنية الداخلية بها، والتي توفرها الدول المستضيفة بالتعاون مع الجهات الدولية مثل برنامج الأغذية العالمي ومنظمة الصحة العالمية وغيرها. وقد اتجهت الحكومة العراقية وإقليم كردستان، في هذا الإطار، إلى إنشاء عدد من المخيمات على غرار مخيم القيارة أو مخيم حسن شاه بأربيل بكردستان بهدف توفير الحد الأدنى من المتطلبات الرئيسية للنازحين.
2- المناطق الآمنة: على ما يبدو، فإن المناطق الآمنة التي ربما تتجه الإدارة الأمريكية الجديدة إلى إنشاءها في سوريا سوف تعتبر أحد الأنماط الجديدة لاقتصاديات المجتمعات المغلقة. ففي هذا الصدد، أكد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في أكثر من مناسبة، عزمه إقامة ما سماه بـ"المناطق الآمنة في سوريا" كوسيلة لمنع تدفق اللاجئين إلى الدول الغربية. ورغم الصعوبات العملية الكثيرة التي ربما تعترض إنشاء مثل هذه المناطق، إلا أن الإدارة الاقتصادية في هذه المناطق سوف تتشابه، في أغلب الأحوال، مع الآليات الاقتصادية لإدارة مناطق المخيمات من حيث تقديمها بالكاد الحاجات الأساسية للنازحين أو اللاجئين، والتي ستعتمد من دون شك على الدعم المقدم من الجهات الدولية المختلفة.
3- الاقتصاديات الإثنية: يتمثل أحد أكثر النماذج تعبيرًا عن هذا النمط في ما تقدمه المؤسسات الخدمية الخاصة ببعض الميليشيات من خدمات لتلبية احتياجات المقاتلين وأسرهم. ففي هذا السياق، اعتمد حزب الله على إنشاء العديد من الجمعيات في لبنان لتقديم الخدمات الصحية والتعليمية لأعضائه، لتضاف إلى رواتب شهرية للمقاتلين تترواح بحسب تقديرات عديدة بين 500 و1200 دولار.
4- المناطق المهمشة: تخضع هذه المناطق، في أغلب الأحوال، لأنماط من المبادلات الاقتصادية القائمة على التجارة غير المشروعة أو التهريب، وهو ما يبدو جليًا في المناطق الحدودية في دول مثل تونس والجزائر والمغرب. وعلى سبيل المثال، يشير البنك الدولي إلى أن التجارة غير الرسمية هى القطاع الرئيسي بمدينة بن قردان الحدودية التونسية، حيث يعمل 20% من السكان هناك بذلك القطاع. ودائمًا ما تتسم هذه المناطق بضعف البنى التحتية والخدمات الأساسية بما يصعب من عمليات الاتصال الاقتصادي الفعال مع المناطق الأخرى في الدولة أو مع العالم الخارجي.
سمات مشتركة:
تتسم كافة الأنماط السابقة من اقتصاديات المجتمعات المغلقة أو شبه المغلقة بمجموعة من الخصائص المشتركة، التي يتمثل أبرزها في:
1- التبعية الاقتصادية: يعتمد اللاجئون أو النازحون في المخيمات، أو في المناطق الآمنة مستقبلا، على المساعدات التي تقدمها المنظمات الدولية. وفي هذا الصدد، يبدو أن السوريين والعراقيين سيظلوا معتمدين في تلبية احتياجاتهم الأساسية على المساعدات القادمة من برنامج الأغذية العالمي ومنظمة الصحة العالمية وغيرها من المنظمات الدولية، وهو ما قد يعرضهم لمخاطر انعدام الأمن الاقتصادي في حالة نقص التمويل المقدم من جانب هذه المنظمات.
2- الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية: رغم الجهود الدولية والإقليمية في استيعاب اللاجئين والنازحين، إلا أن أغلب المخيمات تعاني من نقص في الخدمات الأساسية من المياه والغذاء، بالإضافة إلى خدمات التعليم والصحة. وبحسب المفوضية السامية لشئون اللاجئين، فإن عدد اللاجئين السوريين الذين يعيشون في فقر يتزايد بشكل مستمر في الدول المضيفة بالمنطقة، حيث بلغ عدد الأشخاص الذين يعيشون تحت خط الفقر نحو 70% في لبنان. كما تشير منظمة "اليونيسيف" ومنظمة "إنقاذ الطفل" إلى أن هناك ثلاثة من كل أربعة أطفال سوريين لاجئين في مخيم الزعتري في الأردن، على سبيل المثال، يعانون من مشكلات صحية، إذ يعملون أحيانًا الأسبوع بأكمله من أجل تقاضي ستة أو سبعة دولارات يوميًا.
مخاطر محتملة:
من دون شك، فإن الأوضاع الاقتصادية المعيشية الصعبة التي يواجهها سكان المخيمات أو المناطق المهشمة قد تفرض مجموعة من المخاطر الأمنية أو السياسية داخل بعض دول الإقليم. ففي تونس، تعاني المناطق الحدودية من اضطرابات أمنية مستمرة جراء تدني الأوضاع المعيشية والاقتصادية بها. وفي غضون يناير 2017، اندلعت مواجهات بين قوات الأمن التونسية ومحتجين بسبب غياب الفرص الحقيقية للتنمية بمدينة بن قردان.
أما بالنسبة للمشكلات الأمنية المحتملة للمخيمات، فقد أبدت كثير من دول الجوار تخوفات أمنية عديدة من أن تجذب هذه المخيمات- مثلها مثل المناطق الآمنة المحتملة بسوريا- إرهابيين إما لتنفيذ هجمات أو لاستخدامها كمأوى لهم. وفي الوقت نفسه، فإن ثمة مشكلات عديدة تتعلق بنقص التمويل المتاح اللازم لتلبية الاحتياجات الأساسية للمخيمات، بما قد يؤدي إلى مظاهر احتقان مستمرة لدى سكان المخيمات. وبالأساس تواجه الاستجابة الدولية للاجئين أزمات مالية مستمرة على مدار السنوات الماضية. وفي عام 2016، بلغت نسبة الاستجابة الدولية لتلبية إغاثة اللاجئين السوريين نحو 59% فقط، حيث تم توفير مبلغ 2.6 مليار دولار فقط من أصل مبلغ مطلوب بقيمة 4.5 مليار دولار.
وكنتيجة للأزمات المعيشية التي يعانيها اللاجئون، فقد شهدت مخيمات اللاجئين السوريين العديد من الاحتجاجات الداخلية نتيجة نقص الخدمات ومنها مظاهرة قادها لاجئون سوريون، في يناير 2017، بمخيم سليمان شاه في مدينة تل أبيض التركية احتجاجًا على عدم ملائمة الخيم المتاحة لمعيشتهم.
وختامًا، يمكن القول إن أنماط الاقتصاديات المغلقة تفرض ضغوطًا أمنية واسعة، قد تتطلب من الدول المستضيفة، وبالتعاون مع المجتمع الدولي، توفير الأطر المالية اللازمة لتلبية الاحتياجات الأساسية لسكان هذه المناطق.