على الرغم من أنها الدولة الأكثر شكاية من خطر الحركات الإسلامية الراديكالية، لم تُظهِر إسرائيل ما يدل على قلقها من التقدم الذي يحققه تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام "داعش" في كل من سوريا والعراق، وإن سعت مراكز الفكر والبحث في إسرائيل لرصد تطور هذه الظاهرة ووضع بدائل لما يمكن لـ "تل أبيب" أن تقوم به للتعامل مع تداعياتها.
قد يتسق الموقف الإسرائيلي الخافت مع تفسير تبناه بعض من عرب 1948، مفاده أن إسرائيل تجد في أعمال "داعش" ضد الأقليات غير المسلمة في العراق خادماً لمصلحتها في سلخ الطائفة المسيحية عن الأمة العربية، أو أنها تأمل في تحول هذه الأعمال إلى ورقة بيد من سماهم "التجمع الوطني الديمقراطي" (وهو أحد الأحزاب العربية الممثلة في الكنيست) بـ "الأطراف الطائفية" الفلسطينية الساعية للاحتماء بالمؤسسة الإسرائيلية.
ومع أن تفسيراً من هذا النوع يجد وقائع تاريخية وسياسية تدعمه، إذ سعت إسرائيل منذ قيامها عام 1948 لإخراج المسيحيين الفلسطينيين من دائرة صراعها مع أصحاب الأرض الأصليين، مرة بإغراء الهجرة إلى بلدان العالم الجديد (مثل الأرجنتين في عام 1956) أو بإغواء التفضيل الاجتماعي والخدمي لهم، غير أن مراجعة سوابق التعامل الإسرائيلي مع تنظيمات شبيهة بـ "داعش" من جهة، ثم ما صدر عن مسؤوليها وخبرائها، فضلاً عن حسابات مصالحها من الجهة الثانية؛ يكشف أن للأمر أبعاداً أخرى.
"داعش" في الميزان الإسرائيلي
تصف التقديرات الإسرائيلية تنظيم "داعش" بأنه "تنظيم صغير وهش لا يمثل تهديداً مباشراً على الدولة الإسرائيلية"، لكن هذه التقديرات لا تغفل أن التداعيات المحتملة لوجود هذا التنظيم تستدعي التأهب والحذر.
يقول عميد كلية الآداب في جامعة تل أبيب والباحث في الشؤون السورية واللبنانية، البروفيسور إيال زيسر، عن داعش "إنه تنظيم ضعيف"، ويعتقد أن إسرائيل ليست بحاجة للدخول في مواجهة معه، مؤكداً أن "سرب الجراد الإسلامي سيزول" أو على الأقل لن يتجاوز مواقعه الحالية، ليس فقط لضعف قدراته، وإنما أيضاً لأنه لا يستطيع الدخول في نزال حقيقي مع دول مستقرة وصلبة.
ويتفق الباحث في "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب، يورام شفايتسر، جزئياً مع هذا الرأي السابق؛ فـ "داعش" في تقديره، لا يشكل خطراً لا على إسرائيل ولا حتى على الحكومة العراقية. يكفي شفايتسر لتأكيد ذلك أن هذا التنظيم يعمل وحيداً ويحيا في صراع مع تنظيم "القاعدة" الأكثر انتشاراً على المستوى الإقليمي، ويكفيه أيضاً أن القوة العسكرية لهذا التنظيم لا تتعدى في أفضل الحالات 10 آلاف مقاتل لا يمكن لهم أن يُسقِطُوا أي نظام سياسي، بما في ذلك المتداعي منها كالعراقي والسوري.
لكن "شفايتسر" يحذر من خطر غير منظور يتمثل في أن نجاحات "داعش"، من شأنها أن تمنح دعماً كبيراً لأفكاره، وتشجع تنظيمات مشابهة عديدة في الشرق الأوسط وخارجه للسير على طريقه، والاستفادة من الكنز الهائل الذي جمعه باستيلائه على أموال بنوك في المناطق التي فر منها الجيش العراقي وتلك التي فشلت الشرطة المحلية في حمايتها، فضلاً عن الأموال التي كسبها من السيطرة على آبار النفط.
المعنى نفسه تقريباً، ركز عليه الباحثان، عوديد عيران ويوئيل جوجانسكي، حين ذكرا في دراسة لهما حول هذا الموضوع أن "داعش" لا يمثل خطراً مباشراً على إسرائيل، لكنه يشكل تهديداً جدياً لأطراف أخرى، ففي العراق سيقوى وجود "داعش" التوجه نحو التقسيم الفعلي للبلاد (....) وفي ظل هذا الوضع، سيتحول العراق إلى مصدر للإرهاب وستحاول التنظيمات المختلفة الناشطة فيه استغلال ضعف سوريا من أجل توسيع نشاطها في المنطقة.
ويضيف الباحثان أن "سيطرة التنظيم على مدن شيعية مهمة كالنجف وكربلاء سيمثل كابوساً بالنسبة لإيران. أما تركيا فستنظر بقلق إلى هذه التطورات، لأن سيطرة جهات إرهابية على مناطق قريبة من حدودها سيشكل مصدراً للقلق الأمني". وبالنسبة للأردن، سيكون الخطر مضاعفاً؛ فمن جهة ستضطر عمَّان لاستقبال نزوح جماعي كثيف من المناطق التي احتلتها "داعش" في العراق، ما يضاعف من الأعباء الملقاة عليها جراء وجود مليون لاجئ سوري وربع المليون خلفهم النزوح العراقي بعد الاحتلال الأمريكي لبغداد منذ عام 2003. ومن الجهة الثانية، سيواجه الجيش الأردني ضغطاً كبيراً على الحدود مع سوريا والعراق. أما دول الخليج، فهي معرضة – وفق هذا التقدير- لخطر واضح مصدره أن "داعش" قد يستغل ضعف السلطة المركزية في بغداد للعمل بحرية أكبر في الجزء الشمالي من الخليج.
التحرك الإسرائيلي.. متى وكيف؟
وفق التحليل السابق، ستتعرض إسرائيل بسبب "داعش" للخطر في حالتين، أولاهما حين يهدد التنظيم، بعد سيطرته على حقول الإنتاج وخطوط التصدير في شمال العراق، سوق الطاقة العالمي، فتضطر الولايات المتحدة لتقديم تنازلات لإيران كي تشاركها العمل ضده، وهذا يعني أن واشنطن ستبتعد خطوة أخرى عن تل أبيب.
ولمنع ذلك، يطالب عيران وجوجانسكي الحكومة الإسرائيلية بالانخراط في تحالف بديل يضم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، يكون من بين أولوياته تعزيز محور "الاعتدال" في المنطقة ودعمه لمواجهة مختلف التنظيمات المتطرفة، بما في ذلك "داعش".
أما حالة الخطر الأخرى، فتظهر – وفق تقدير الباحثان كوبي ميخائيل وأودي ديكل – في وصول "داعش" إلى الأردن، نظراً لأن ذلك سيؤدي إلى فوضى، وقد يهدد بقاء النظام. وفي نظر كلا الباحثين، فإنه وعلى الرغم من أن السعودية أعلنت أنها سترسل دبابات إلى الأردن في حال دخول "داعش" إليها، إلا أن الأردن لا يمكنه الاعتماد على هذه المساعدة فقط، كونه بحاجة إلى سند عسكري استراتيجي واضح هو إسرائيل". وبتقديرهما أيضاً، فإن تدخلاً إسرائيلياً سيؤدي إلى فوائد أخرى منها: منع وصول "داعش" إلى حدود إسرائيل والسلطة الفلسطينية وسيناء.
أما وزير الشؤون الاستراتيجية، يوفال شتاينتز، فرأى في تصريحات صحفية (4/7/2014) أن "إسرائيل لديها مصلحة في ضمان ألا يسقط الأردن أو يخترق من جماعات مثل القاعدة أو حماس أو داعش"، مضيفاً أنه "لو كانت هناك حاجة.. وإذا طلب منا ذلك.. لن تسمح إسرائيل لجماعات مثل "داعش" بالسيطرة على الأردن".
وفي حال فشل هذا السيناريو، يكون البديل – حسب هذا التحليل – تحركاً جدياً من قبل إسرائيل لمنع بناء قواعد لجهات إسلامية جهادية في مناطق السلطة الفلسطينية، مع المساهمة في تحسين قدرة هذه السلطة على الحكم، أمنياً واقتصادياً.
تل أبيب والاصطياد في مياه "داعش"
لم يحظ تقدم "داعش" في مناطق شمال العراق، ولا حملاتها لإجلاء وتصفية المسيحيين والأكراد الأيزيديين، برد فعل كبير من جانب الأوساط الرسمية في إسرائيل، غير أن الأوساط ذاتها سعت للاستفادة السياسية والدعائية من تلك الأحداث، وذلك على غرار ما فعله رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو عندما حاول المطابقة بين سلوك حركة "حماس" ضد الإسرائيليين وتصرفات "داعش" ضد الأقليات العراقية.
لقد تحدث نتنياهو عن هذه المطابقة عدة مرات، أبرزها بعد لقائه حاكم ولاية نيويورك "أندرو كومو" في القدس المحتلة في مطلع أغسطس 2014، حيث رأى أن أعمال كل من "داعش" و"حماس" تؤكد وجهة نظره حول ما يسميه "الانقسام الأخلاقي" في العالم، معتبراً أن إسرائيل والولايات المتحدة تقفان في جانب يمثل أنظمة الحكم الديمقراطية الملتزمة بحقوق الإنسان وبمستقبل مزدهر لشعوبها، بينما تقف في الجانب المناقض تلك المنظمات التي تسعى – حسب قوله - لإقامة أنظمة حكم استبدادية إسلامية.
كما تحدث نتنياهو عن هذا التطابق بعد قيام "داعش" بقطع رأس الصحفي الأمريكي "جيمس فولي"، مستغلاً وصف الرئيس الأمريكي باراك أوباما لعناصر "داعش" بأنهم "أعداء الله والحضارة الإنسانية"، ليؤكد مجدداً أن "حماس هي داعش، وداعش هي حماس".
وضمن مساعي الاستفادة السياسية من هذه التطورات، وجد رئيس الموساد السابق "إفرايم هليفي" أن ظهور "داعش" قد يفتح الباب لتلاقٍ برجماتي بين إسرائيل وحماس، باعتبار أن الأخيرة ستضطر للدخول في صراع مع التنظيم الجديد إذا تسلل للأراضي الفلسطينية. وبتقديره المنشور في صحيفة "يديعوت أحرونوت" (3/7/2014)، فإن حماس تعد "الخصم الأمرّ والأنجع في مواجهة داعش"، متوقعاً أن تنتهي إسرائيل إلى تبني هذا البديل.
ويلفت النظر في السلوك الرسمي الإسرائيلي أنه يتضمن إلحاحاً على تقديم "داعش" كمرادف للإسلام، وذلك بهدف نزع الشرعية الأخلاقية لا عن قوى المقاومة الإسلامية فحسب، وإنما عن المسلمين عموماً. كما أنه يضع الإسرائيليين في كفة واحدة مع ضحايا "داعش" كي يظهروا وكأنهم كالمسيحيين والأيزيديين، يدفعون ثمن تطرف المسلمين، لا نتيجة احتلالهم أراضي الغير.
وإجمالاً، يضع هذا السلوك الإسرائيلي القوى العربية - الرسمية منها والشعبية - أمام تحدٍ مزدوج، فهي مدعوة من جهة أولى لحماية خطاب المقاومة من آثار "داعش"، ثم أنها مطالبة من الجهة الثانية بتحرك شامل لإسقاط مثل الادعاءات الصهيونية قبل أن تتحول إلى عبء جديد على كاهل الأمة.