يبدو أن السياسة التي تتبناها إيران تجاه الجهود التي تبذلها كل من روسيا وتركيا لاستمرار التفاهمات القائمة بينهما منذ الوصول إلى إعلان موسكو في 20 ديسمبر 2016، ثم اتفاق وقف إطلاق النار في 30 من الشهر ذاته، قد بدأت تثير استياء واضحًا من جانب روسيا، خاصة في ظل بروز مؤشرات عديدة عن اتجاه إيران ونظام الأسد إلى رفع مستوى التنسيق فيما بينهما للتعامل مبكرًا مع أية استحقاقات جديدة قد تنتج عن مفاوضات الأستانة التي عُقدت يومي 23 و24 يناير 2017، والتي ستعقبها مفاوضات جنيف في 8 فبراير القادم، ويرى الطرفان أنها ربما لا تتوافق مع مصالحهما ورؤيتهما لمستقبل الصراع مع قوى المعارضة.
ومن هنا، بدأت روسيا في توجيه رسائل تحذيرية إلى إيران تحديدًا، تفيد بأنها الطرف الذي يمتلك القدرة على تحديد المسارات المحتملة للصراع في سوريا، خاصةً في ظل إدراكها أن النفوذ الذي تمتلكه إيران في سوريا لا ينفي -في الوقت ذاته- أن تدخلها العسكري له حدود لا يمكن تجاوزها بسهولة.
وبعبارة أخرى، فإن موسكو ترى أن ما تمارسه إيران من دور على الأرض داخل سوريا، سواء من خلال كوادر وعناصر "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري، أو عبر الميليشيات الطائفية التي قامت بتكوينها من جنسيات لبنانية وعراقية وباكستانية وأفغانية؛ يمكن أن يعرقل أية ترتيبات سياسية أو أمنية قد تعتبرها طهران مصدرًا لتهديد مصالحها، لكنه لا يمكن أن يكرس أمرًا واقعًا على الأرض دون قبول روسيا التي تحولت إلى الطرف الرئيسي الداعم للنظام السوري، في ظل استخدامها حق الفيتو في مجلس الأمن عدة مرات لمنع صدور قرارات إدانة ضد النظام السوري، فضلا عن الأسلحة الحديثة لتغيير توازنات القوى في غير صالح المعارضة، وهي أدوات تدرك إيران جيدًا أنها لا تمتلكها.
ثلاث رسائل:
هذا الاستياء الروسي بدا جليًّا في التصريحات التي أدلى بها وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في لقاء صحفي حول حصيلة السياسة الروسية في عام 2016، في 17 يناير 2017، وقبيل انعقاد مؤتمر الأستانة بأيام قليلة، والتي قال فيها إن "روسيا تدخلت عسكريًّا في لحظة حاسمة، وأنقذت دمشق التي كانت على بُعد أسبوعين من الوقوع في قبضة الإرهابيين"، مضيفًا أنه "بعد تحرير حلب، يمكننا القول إننا حافظنا على سوريا العلمانية ذات السيادة كما نص قرار مجلس الأمن رقم 2254".
وهنا ربما يمكن القول إن تلك التصريحات توجه ثلاث رسائل مهمة لإيران ونظام الأسد أيضًا: الرسالة الأولى، تتمثل في أن روسيا، وليست إيران، هي الطرف الذي أنقذ النظام السوري من الانهيار أمام الضغوط القوية التي تعرض لها من جانب قوى المعارضة، في ظل الدعم السياسي والعسكري الواضح الذي قدمته للأسد، على مدى الأعوام الستة الأخيرة، وخاصة في عام 2016 تحديدًا.
وفي ضوء ذلك، ووفقًا لرؤية موسكو، فإن هذا الدور البارز الذي قامت به يمنحها القدرة على صياغة الترتيبات السياسية والأمنية اللازمة لتسوية الأزمة السورية، أو على الأقل المشاركة فيها بجانب أطراف إقليمية أخرى لها دور لا يمكن تجاهله في الصراع السوري. وبمعنى أدق، فإن موسكو تسعى من خلال ذلك إلى محاولة الضغط على طهران ونظام الأسد من أجل عدم عرقلة تلك الترتيبات التي تحاول من خلالها روسيا الوصول إلى تسوية مقبولة بالنسبة لها تساهم في تقليص المدى الزمني الذي يمكن أن يستغرقه تدخلها العسكري والسياسي في الصراع السوري، والذي ربما يفرض تداعيات سلبية لا تبدو هينة على المديين المتوسط والبعيد.
علمنة النظام:
أما الرسالة الثانية، فتنصرف إلى أن روسيا تتمسك باستمرار الطابع العلماني للنظام السوري، بعد الوصول إلى تسوية للأزمة الحالية، وهي إشارة أخرى مهمة تفيد بأن روسيا لا تتبنى مواقف مؤيدة لبقاء الميليشيات الطائفية التي كوّنتها إيران ودفعت بها ليس فقط لدعم النظام السوري في مواجهة الفصائل المسلحة، وإنما أيضًا للبقاء داخل سوريا حتى بعد انتهاء الصراع الحالي، بما يحافظ على نفوذ ودور إيران داخل سوريا أيًّا كان المسار الذي سوف يتجه إليه هذا الصراع.
هذا الاتجاه الإيراني عبر عنه مستشار المرشد للعلاقات الدولية علي أكبر ولايتي بتأكيده، في 3 يناير 2017، أن حزب الله لن يخرج من سوريا على الرغم من التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار، كما أكدته مؤشرات تكشف عن اتجاه إيران إلى تشكيل ما يُسمى بـ"جيش التحرير الشعبي" من الميليشيات الطائفية التي تم تكوينها خلال الأعوام الأخيرة لمنع سقوط النظام السوري، إلى جانب توقيعها خمس اتفاقات مع النظام السوري خلال زيارة رئيس وزراء النظام عماد خميس إلى طهران، في 18 يناير 2017، تتضمن منح تراخيص لتأسيس شبكة للهواتف المحمولة وبناء مصفاة للنفط.
وقد أعاد رئيس الوفد الإيراني في مفاوضات الأستانة حسين جابري أنصاري، التأكيد على أن "إيران لن تنظر في مطالبة المعارضة السورية بسحب وحدات القوات الإيرانية من سوريا"، معتبرًا أنها "ضعيفة وخسيسة".
أما الرسالة الثالثة، فتتعلق باتجاه روسيا إلى مواصلة تفاهماتها مع بعض الفصائل المسلحة داخل سوريا، في إشارة إلى تغيير نسبي في موقفها الذي كان يقوم على توسيع نطاق قائمة التنظيمات الإرهابية التي يتم استثناؤها من وقف إطلاق النار، لتضم بعض تلك الفصائل إلى جانب تنظيم "داعش" و"جبهة فتح الشام" (جبهة النصرة سابقًا)، وهو ما يمكن أن يتحول إلى محور لخلافات جديدة مع إيران التي كانت تسعى إلى استبعاد كثير من تلك الفصائل من الترتيبات السياسية والأمنية التي يمكن أن تتم صياغتها بعد المفاوضات الجارية بين النظام وقوى المعارضة في الأستانة وجنيف.
ففي هذا السياق، كان لافتًا تأكيد روسيا أن الهدف الأساسي من مفاوضات الأستانة يتمثل في دعم فرص الاستمرار في الالتزام بوقف إطلاق النار، والانتقال إلى عملية سياسية بمشاركة القوى الفاعلة والمؤثرة فعلا على الأرض، في إشارة إلى الفصائل المسلحة التي تقاتل النظام السوري.
وقد بدا أن هذا التوجه الروسي يحظى بدعم من جانب الفصائل المسلحة، وهو ما عبر عنه محمد علوش رئيس وفد التفاوض في الأستانة والقيادي في "جيش الإسلام" بقوله أن "روسيا تحولت من طرف داعم للحكومة السورية إلى طرف ضامن يحاول تذليل العقبات".
إدماج الميليشيات:
لكن اللافت هنا هو أن حرص روسيا على تأكيد أهمية إشراك تلك الفصائل في هذه الترتيبات السياسية والأمنية، يمكن أن يدفع اتجاهات داخل إيران إلى الدعوة لإشراك الميليشيات التي كونتها إيران في تلك الترتيبات، باعتبار أن لها دورًا على الأرض، ولا يمكن تجاهلها، وهو ما يمكن أن تسعى إيران إلى ترويجه خلال مباحثاتها المستمرة مع كل من تركيا وروسيا، باعتبارها الدول الراعية لمفاوضات الأستانة.
وربما تتجه إيران والنظام السوري إلى اتخاذ خطوات إجرائية على الأرض لإدماج عناصر تلك الميليشيات، على المستويين الاجتماعي والاقتصادي، وذلك بهدف مواجهة أية دعوات لإخراج تلك الميليشيات من سوريا في المستقبل.
حدود الدور:
لكن رغم ذلك، فإن هذه الرسائل التحذيرية التي حرصت روسيا على توجيهها إلى إيران والنظام السوري، لا تنفي أن روسيا ما زالت في حاجة إلى دور هذه الميليشيات على الأرض، باعتبار أن قدرة تدخلها العسكري "الجوي" في سوريا على تحقيق أهدافه مرتبط باستمرار انتشارها على الأرض في مناطق الصراع داخل سوريا.
وبعبارة أخرى، فإن حرص روسيا على تأكيد أنها الطرف الرئيسي الأول الذي يمتلك القدرة على تحديد المسارات المحتملة للصراع في سوريا، لا يعني أنها في وارد التخلي عن تحالفها "المرن" مع إيران ونظام الأسد، على الأقل خلال المرحلة المقبلة.