لم تعد الأعمال الفنية الدرامية والسينمائية مواد للترفيه فقط، بل إنها أصبحت تمثل إحدى أهم أدوات "القوة الناعمة" التي تمتلكها الدول وتحرص على تطويرها لدعم حضورها وربما نفوذها خارج حدودها الجغرافية. وقد تبلور توظيف صناعة السينما والدراما عالميًّا وإقليميًّا خلال السنوات الماضية بشكل كبير، لا سيما مع تطور هذه الصناعة ومواكبتها للتقنيات الحديثة، وهو ما ساعد في جعلها أكثر جذبًا وملاءمةً للتصدير إلى الخارج. وفي هذا الإطار تنوعت أهداف الأعمال السينمائية والدرامية، ما بين تنشيط القطاع السياحي في دولة ما، أو تحسين الصورة الذهنية عن تلك الدولة، أو خدمة أهداف سياستها الخارجية، وغيرها من أنماط توظيف هذه الصناعة.
وتعد وسائل الإعلام في الإقليم الأكثر جذبًا للدراما والسينما الواسعة الانتشار عالميًّا، كما أن العديد من دول المنطقة باتت من أهم مُصدِّري هذا النوع من الأعمال الفنية للعالم. فخلال السنوات الماضية برزت الأعمال الفنية المصرية والإيرانية والتركية، واستطاعت عبور حدودها الجغرافية، كما صعدت الدراما الخليجية وانتشرت بشكل كبير في الدول العربية، في الوقت الذي استقدمت فيه وسائلُ الإعلام العربية دراما أجنبية، صينية وكورية ومكسيكية وهندية وكرواتية، اعتمادًا على الأنماط الجديدة التي تقدمها هذه الدراما، إلى جانب تدنى محتوى بعض الأعمال الفنية المحلية المقدمة وتكرار مضمونها، أو تركيزها على قضايا منفرة كما كان الحال خلال الموسمين الماضيين.
انتشار واسع:
شهدت السنوات الماضية تنافسًا كبيرًا بين صناع الدراما والسينما إقليميًّا وعالميًّا على سوق الإعلام في المنطقة العربية، للحصول على أكبر نصيب ممكن من ساعات البث الفضائي، كما تنافست القنوات الفضائية في المنطقة بدورها على الحصول على حقوق البث لأشهر الأعمال الدرامية الإقليمية والدولية، فاتسعت السوق للأعمال الدرامية الصينية والكورية والكرواتية والمكسيكية والهندية والتركية، إلى جانب الأعمال المصرية والسورية والخليجية الأحدث في مجال المنافسة.
وقد أدت العديد من العوامل إلى انتشار الأعمال الدرامية الوافدة من الإقليم والعالم في المنطقة العربية، ويتمثل أبرزها في:
1- الإقبال المتزايد من القنوات الفضائية على الأعمال الدرامية غير العربية: في إطار تواصل ساعات البث الفضائي طوال اليوم، حرصت القنوات الفضائية، لا سيما المتخصصة في بث المحتوى الدرامي، على تنويع الأعمال الدرامية التي تقوم بعرضها، كأحد سبل جذب المشاهد ومن ثم الحصول على نصيب من سوق الإعلانات التجارية، واستقطاب الرعاة، وهى أهم أدوات تحقيق هذه القنوات لأرباح تستطيع من خلالها الوفاء بالتزاماتها تجاه عامليها، وتطوير أدائها.
وفي هذا السياق، كانت الدراما غير العربية أحد مصادر هذا التنويع، لا سيما وأن لبعضها شعبية يمكن البناء عليها، مثل الدراما الهندية التي تحظى بشعبية واسعة منذ سنوات بعيدة لدى المشاهد العربي.
2- دبلجة الأعمال غير العربية: ساعد قيام القنوات الفضائية بدبلجة الأعمال الدرامية غير العربية إلى اللغة العربية، بدرجة كبيرة، في انتشار مثل هذه الأعمال، مقارنة بالأعمال الدرامية المترجمة، حيث استخدمت هذه القنوات في الدوبلاج اللغة الدارجة لترجمة المحتوى الدرامي، كما غيرت الأسماء الأجنبية إلى أسماء عربية لسهولة الوصول إلى المتلقي، فانتشرت اللهجة السورية في دوبلاج الأعمال الدرامية غير العربية، تلتها اللهجة المصرية، ثم التونسية والمغربية.
3- تقديم أنماط مختلفة من القضايا: اتسمت معظم الأعمال الدرامية الوافدة على وسائل الإعلام العربي بمستوى عالٍ من الحرفية، وجودة جماليات الصورة، والإخراج، والتركيز على المناطق الطبيعية الخلابة، وهو ما جذب المتلقي ناحية المتابعة لمشاهدة المزيد من عناصر الإبهار التمثيلية والجمالية، في ظل رتابة المحتوى المقدم محليًّا، وتدني المستوى التقني للصورة، وهى عوامل تصب في صالح هذه الأعمال الوافدة.
تسييس الفن:
في إطار انتشار تصدير الأعمال الدرامية للخارج بين بعض دول الإقليم، تتعدد أنماط توظيف الدراما والسينما من قبل منتجيها لتشمل أهدافًا تتعدى الترفيه والإمتاع، وهو ما يمكن تناوله فيما يلي:
1- خدمة أهداف السياسة الخارجية: اعتمدت بعض الدول على صناعة الدراما كأداة من أدوات السياسة الخارجية الخاصة بها، وكوسيلة لدعم النفوذ الناعم والانتشار في محيطها الإقليمي والعالمي. وقد مارست تركيا الدور الأبرز في هذا الإطار حديثًا، فيما سبقتها في ذلك الدراما والسينما المصرية، غير أن أسبابًا عدة أدت إلى تفوق الدراما التركية التي استطاعت الوصول إلى دول أمريكا اللاتينية والقوقاز، فضلا عن انتشارها في المنطقة العربية بكثافة، اعتمادًا على دبلجتها للهجة السورية في دول الخليج والمشرق العربي ومصر، وإلى اللهجات التونسية والمغربية في دول شمال إفريقيا.
وقد انتشرت الدراما التركية في الدول العربية منذ عام 2007، واستطاعت تركيا تصدير مسلسلاتها إلى أكثر من 100 دولة حول العالم، بشكل أدى إلى تحقيق أرباح تصل إلى 200 مليون دولار سنويًّا، كعائد شراء هذه المسلسلات، حسب بعض التقديرات، كما تشهد سوق العقارات التركية وقطاع السياحة انتعاشة منذ سنوات بفضل الترويج الدرامي للمناطق السياحية في تركيا، وإظهار المباني التركية من قصور وفيلات وشقق سكنية بشكل يدفع بعض المستثمرين إلى اقتنائها والاستثمار فيها.
2- تصحيح الصورة النمطية: تبنت الدراما الصينية والكورية الموجهة لدول المنطقة العربية، هذه الآلية، لا سيما في ظل انتشار أفكار مسبقة عن تلك الدول، مفادها أن شعوبها شديدة العملية، ولا تهتم بالحياة الاجتماعية، وأنها مجتمعات منغلقة على نفسها ومقاومة للمظاهر الغربية، وهى الأفكار التي صححتها العديد من المسلسلات الكورية والصينية التي عُرضت على الشاشات العربية مدبلجة للغة العربية.
3- توجيه رسائل للخارج: بعد فترة من التعثر عقب اندلاع الثورة السورية، بسبب عزوف المنتجين، وتدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية في البلاد، فضلا عن مقاطعة العديد من التلفزيونات للدراما السورية، عادت الأخيرة بقوة وتنوع أكثر، وتم تصوير أغلبها في الداخل السوري في أكثر المناطق أمنًا في العاصمة دمشق، وتحت حماية القوات النظامية، لتعكس هذه المسلسلات الرؤية الرسمية للنظام السوري التي تتضمن مزاعم عديدة توحي بأن الوضع آمن ومستقر على الرغم من الحرب الدائرة في أنحاء البلاد.
وفي هذا السياق، ركزت بعض هذه المسلسلات على تواجد الخدمات وتوافر السلع، في إشارة إلى أن الوضع الاقتصادي لم يتأثر بشكل كبير، في حين لم يغفل بعضها الأوضاع السياسية التي تمر بها البلاد، ولكنها تتناول تداعيات الثورة وفقًا للخطاب العام الذي يتبناه النظام. وفيما تضمنت العديد من المسلسلات رسائل موجهة تدور حول الوطنية والانصياع للقائد، جاء مسلسل "باب الحارة" -على سبيل المثال- ليصور أن زعيم الحارة هو الوحيد القادر على حمايتها، والحريص على مصلحتها.
4- مواجهة العزلة: استطاعت السينما الإيرانية تحقيق نتائج بارزة على الصعيد العالمي، من خلال مشاركة مخرجيها وممثليها في المهرجانات العالمية الكبرى لا سيما مهرجان "كان"، وقد حصلت العديد من الأعمال الإيرانية على جوائز عالمية أشهرها وأكثرها تكرارًا جائزة "السعفة الذهبية"، قبل أن تتمكن الدراما الإيرانية، والدينية منها على وجه الخصوص، من الانتشار داخل بعض دول المنطقة.
واللافت في هذا السياق هو أن هذا النجاح لم يقتصر على الفنانين والمخرجين الذين سعوا إلى التغلب على الرقابة المفروضة من قبل النظام الإيراني، بل امتد أيضًا إلى الفنانين والمخرجين القريبين من النظام، والذين قاموا بإنتاج أعمال فنية في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، حيث تتسم الأعمال الفنية –حسب رأى بعض النقاد- بالقرب من الشارع الإيراني، والإغراق في المحلية، وهو ما يدفع المتلقي لمزيد من المتابعة حتى تتسنى له معرفة المجتمع الإيراني بشكل أكبر.
ويمكن القول في النهاية إن نجاح الدراما في الانتشار، وتخطي الحدود الجغرافية، وعوامل اللغة، واختلاف العادات والتقاليد بين الشعوب؛ يرشحها للاستمرار في تحقيق الأهداف المنوطة بها على اختلافها، لا سيما في ظل تزايد اتجاه بعض الدول إلى توظيف أعمالها الدرامية لخدمة سياستها الخارجية.