أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يصدر العدد الثاني من مجلة "اتجاهات آسيوية"
  • أ. د. نيفين مسعد تكتب: (عام على "طوفان الأقصى".. ما تغيّر وما لم يتغيّر)
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (بين موسكو والغرب: مستقبل جورجيا بعد فوز الحزب الحاكم في الانتخابات البرلمانية)
  • د. أيمن سمير يكتب: (هندسة الرد: عشر رسائل للهجوم الإسرائيلي على إيران)
  • أ. د. حمدي عبدالرحمن يكتب: (من المال إلى القوة الناعمة: الاتجاهات الجديدة للسياسة الصينية تجاه إفريقيا)

حدود التغير:

هل تتجه تركيا إلى "خفض العداء" مع الخارج؟

19 يونيو، 2016


في ظل المشكلات التي تواجهها الدبلوماسية التركية، ترتفع الأصوات في الداخل التركي داعية إلى إجراء مراجعة للسياسة الخارجية التركية تؤدي إلى التخفيف من حدة العداء مع الخارج والحد من تداعياته على الداخل في ظل الحرب الدامية مع حزب العمال الكردستاني. فبعد أن أفضت سياستها الخارجية إلى حالة من الصدام مع كل من روسيا وإيران والعراق وسوريا وأرمينيا وحزب الله في لبنان، فضلاً عن مصر في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، وإسرائيل منذ أن توترت العلاقات معها بعد الاعتداء الإسرائيلي على سفن أسطول الحرية التي كانت متجهة إلى غزة في عام 2010، تبدو أنقرة وكأنها أمام حركة دبلوماسية باتجاه هذه الدوائر الجيوسياسة المهمة، وهي في حركتها هذه تبدو وكأنها في صراع بين برجماتية تقرأ التطورات وتبحث عن المصالح وتسعى إلى تجاوز التحديات، وبين أجندة مُسبقة تقوم على هوية منطلقة من عوامل ثقافية وتاريخية وسياسية على شكل أيديولوجية أدت إلى المزيد من الصراعات وتفجر الخلافات المذهبية والطائفية والسياسية.

وهكذا بدت (تركيا العثمانية السنية) في صراع مع (إيران الشيعية) على ساحات سوريا والعراق ولبنان، و(تركيا الإسلامية) في مواجهة مع (روسيا القيصرية الأرثوذكسية) التي ترى وجودها في المتوسط قضية حياة أو موت، و(تركيا الأردوغانية) تتجه نحو قطيعة مع الغرب الذي ارتبطت به منذ أن توجهت غرباً وانضمت إلى الحلف الأطلسي في عام 1952 وسعت إلى الانضمام للعضوية الأوروبية.

وعلى وقع كل ما سبق، ينتج الداخل التركي متغيره الخاص على شكل بناء حكم يتجه نحو الشمولية على حساب تلك التجربة المدنية التي كثيراً ما صُورت على أنها تنتج الحداثة والمعاصرة.

متغيرات تدفع للتحول

لعل المتابع للسياسة التركية لن يجد صعوبة في القول إن نظرية "صفر المشكلات" التي أطلقها رئيس الوزراء التركي السابق أحمد داود أوغلو وصلت إلى طريق مسدود بعد أن تحولت الحدود مع دول الجوار الجغرافي إلى مناطق اشتباك ساخنة على وقع الأزمة السورية والحرب ضد "داعش". ومن هذه الخلاصة الصفرية تجد تركيا نفسها أمام خيارين، الأول: العودة إلى المربع الأول، أي الارتماء في حضن الحلف الأطلسي كما كان أيام الاتحاد السوفييتي السابق، إلا أن هذا الخيار يبدو وكأنه في تناقض مع مشروع تركيا الذي يخطط أردوغان له خاصةً وأن الحلف ينظر إلى أنقرة على أنها عضو من الدرجة الثانية. والثاني: يندرج في إطار الحركة التركية الجديدة المنصبه باتجاه روسيا وإسرائيل ودول الخليج العربي التي تشهد العلاقات التركية تحسناً معها على قاعدة اشتداد حدة الصراع بين هذه الدول وإيران.

وعليه، فإن ثمة أسئلة كثيرة تُطرح في اللحظة السياسية الراهنة، منها: هل باتت تركيا أمام تحولات مهمة على صعيد خياراتها وعلاقاتها السياسية؟ وهل الطريق باتت مفتوحة أمام عودة التطبيع بينها وبين إسرائيل؟ وهل باتت الطريق مفتوحة أمام طي صفحة الخلافات مع روسيا في ظل الغزل التركي المتواصل للقيادة الروسية؟ وهل سنشهد تحولاً في علاقات تركيا مع مصر في عهد الرئيس السيسي بعد أن ناصبه أردوغان العداء طوال الفترة الماضية؟ والأهم، كيف سيكون تأثير هذه التحولات وتداعياتها على المتغيرات الداخلية التركية التي تتجه للانتقال من النظام البرلماني إلى الرئاسي؟

في الواقع، الاجابة عن هذه الأسئلة وغيرها لا يمكن إلا من خلال النظر إلى جملة من التطورات والتداعيات التي تخلفها المتغيرات الجارية على أمن تركيا وخياراتها السياسية، ويمكن تلخيص هذه المتغيرات بالوقائع التالية:

1- التغيرات الجيوسياسية التي أفرزها الصراع السوري بعد أن تحولت ثورة المطالب إلى حرب مسلحة دمرت البلاد والعباد، وتحول الأزمة السورية إلى أزمة دولية وإقليمية بإمتياز، كانت تركيا أكثر الدول المتأثرة بها، نظراً لعامل الجوار الجغرافي، وبناء تركيا استراتيجيتها على أساس إسقاط النظام السوري. ولعل من سوء حظ تركيا أن دول الجوار اصطفت إلى جانب النظام السوري، وأصبحت أنقرة في صدام متعدد المستويات معها، خاصةً وأن تركيا بنت استراتيجيتها على دعم الجماعات الإسلامية المتشددة التي باتت في دائرة الاستهداف الروسي - الأمريكي في سوريا.

2- التحدي الأبرز الذي تواجهه تركيا في سياستها تجاه الأزمة السورية، هو بروز كيان كردي على حدودها الجنوبية مع سوريا، ومأساة تركيا هنا هي أن هذا الكيان يجد كل الدعم من الحليف التاريخي أي الولايات المتحدة التي رفضت مراراً التحذيرات والتهديدات التركية بوقف الدعم عن كرد سوريا من أجل الحفاظ على الحليف التاريخي. والخوف التركي هنا يتجاوز كرد سوريا إلى قضيتها الكردية في الداخل التي تشهد المزيد من التصعيد وتبحث عن كيان أو إقليم على غرار ما جرى في العراق وسوريا.     

3- في ظل الخلاف مع روسيا بعد التدخل العسكري للأخيرة في سوريا، والتفاهم الأمريكي – الروسي على الساحة السورية، فإن تركيا باتت مقتنعة بأنه لم يعد هناك مجالاً للخيار العسكري لإسقاط النظام السوري ولا حتى إقامة منطقة أمنية عازلة، ولعل مثل الأمر يضغط على أردوغان في كيفية ضبط خياراته، وربما التفكير مجدداً في التعامل مع النظام السوري من زاوية مواجهة الخطر الكردي المشترك، ولعل هذا ما يفسر الحديث عن وساطة جزائرية بين الجانبين بشأن كيفية التعاطي مع الخطر الكردي في الشمال السوري.    

4- مُجمل المتغيرات السابقة وضعت أنقرة أمام التفكير بخيار العودة إلى الحليف الإقليمي القديم، أي إسرائيل التي تبدو المستفيدة الأكبر من كل ما سبق، حيث تحاول الأخيرة وببراعة سياسية الاستفادة من الأزمات التي تعاني منها السياسة التركية في دفع أنقرة إلى المصالحة معها بشروطها، خاصةً لجهة التنازل عن رفع الحصار المفروض على قطاع غزة، بل ودفع تركيا إلى اتخاذ إجراءات ضد حركة حماس وتحديداً إغلاق مقارها في تركيا وضبط نشاطاتها العسكرية، على شكل نسف لخطاب أردوغان الذي أعلن مراراً أن بلاده لن تدير ظهرها للقضية الفلسطينية حتى لو تخلى كل العالم عنها. فيما ترى أنقرة أن من شأن هذه المصالحة تأمين ورقة قوة تعزز من مواقفها الإقليمية ولاسيما تجاه روسيا والسعي لإقامة دولة كردية ترى تركيا أنها ستكون المتضرر الأكبر منها، فضلاً عن بُعد اقتصادي يتمثل في مشاريع الغاز والطاقة في شرق البحر المتوسط.

5- بالرغم من عدم حدوث أي تطورات جديدة على سطح مشهد العلاقات التركية – المصرية، بيد أن إشارة رئيس الحكومة التركي الجديد علي بن يلدريم إلى أهمية العلاقة مع مصر وشعبها دون الإشارة إلى الرئيس السيسي، وكذلك اختفاء تصريحات أردوغان ضد السيسي، يعكسان قناعة تركيا بفشل سياسة العداء لحكم السيسي خاصةً بعد انفتاح الغرب عليه، ومضيه في نسج التحالفات الإقليمية والدولية. 

حدود التغير

من الواضح، أن السعي التركي للتغير ينصب في عدة مستويات، لعل أهمها:

1- إعادة صوغ منظومة العلاقات الإقليمية والدولية بما يخفف من مستوى التوتر والعداء مع الخارج، بعد أن أدت السياسة السابقة إلى عزلة دبلوماسية وسياسية وخسائر اقتصادية.

2- البحث عن شركاء جدد كما هو حال التركيز على دول الخليج العربي، دون الإضرار بعلاقاتها الاقتصادية المهمة مع إيران.

3- التوجه على القوة الناعمة من خلال تطوير الصناعات العسكرية التركية وبيع الأسلحة وإقامة قواعد عسكرية في الإقليم، كما هو حال العلاقة مع قطر.

4- التخفيف من حدة الخصومة مع اللاعبين الإقليميين والدوليين، ولاسيما روسيا التي لا تتوقف رسائل الغزل التركية لها.

5- ربط كل ما سبق بمكافحة الصعود الكردي والحيلولة دون إقامة دولة كردية في المنطقة، ستكون تداعياتها كارثية على بنية الدولة التركية.

في الواقع، باتت تركيا تعيش على وقع المتغيرات الخارجية والاستحقاقات الداخلية، وهي في سعيها للمراجعة تحرص على الحفاظ على أجندتها السياسية وطموحاتها الإقليمية، على شكل رهانات سياسية قد لا تتطابق مع الوقائع والمعطيات ومسار الأحداث بعد أن أكدت التجربة السابقة أن التعاطي التركي مع الأحداث يفتقر إلى الفهم الدقيق لتعقيدات المنطقة وتشابك العلاقات الدولية على ساحاتها.

ولعل ما يُصعب من مهمة السياسة التركية في إجراء مراجعة لتصحيح مواطن الخلل وتجاوز الثغرات، هو أن أردوغان يعتبر هو من أوصل أنقرة إلى هذا المستوى من التخبط في وقت تحتاج السياسة التركية إلى مراجعة شاملة دون توفر القوى التي يمكن أن تقود عملية المراجعة هذه.

ولعل مُجمل ما سبق سيزيد من التحديات في الداخل بعد أن بلغ مستوى الانقسام حد الصدام ولاسيما مع القضية الكردية التي تشهد شقاقاً قومياً أصبح يهدد استقرار البلاد وربما وحدته، فضلاً عن خطر انتقال التنظيمات المتطرفة التي دعمتها تركيا في سوريا إلى الداخل التركي؛ إذ إن تكرار التفجيرات الضخمة كتلك التي شهدتها إسطنبول ودياربكر وسوروج وأنقرة، تشكل مؤشراً قوياً على هذا الخطر الداهم الذي بات يهدد تركيا.

الخلاصة، تريد تركيا القول إن سياستها اليوم لم تعد كما كانت قبل نحو ست سنوات، وأنه لا يوجد في السياسة عداوة دائمة، وأن حالة السيولة التي أنتجتها أنقرة في سياستها الخارجية يمكن أن تتتهي على أساس المصالح والتحالفات. لكن الشيء الجوهري هنا هو عدم توقع تغيرات جذرية في سياسة تركيا، خاصةً وأن من أوصل السياسة التركية إلى قمة الشجرة هو أردوغان الذي يريد الصعود إلى قمة النظام الرئاسي ليحدد كل حركة في سياسة تركيا الخارجية والداخلية.