قبل أيام من إجراء المملكة المتحدة استفتاء حول البقاء في الاتحاد الأوروبي أو الخروج منه يوم 23 يونيو 2016، ينقسم الشارع البريطاني بين مؤيد ومعارض لهذا القرار، حيث يرى المعارضون أن بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي يأتي عليها بالخسائر؛ فمن جانب تعاني بريطانيا الروتين والإجراءات المعقدة التي يفرضها الاتحاد على الأعمال التجارية، ورسوم عضوية بمليارات في مقابل عائد مادي محدود، فضلاً عن رغبتهم في تقليل أعداد المهاجرين نتيجة سياسات الاتحاد الأوروبي.
أما مؤيدو عدم مغادرة الاتحاد الأوروبي، فيرون أن ما يزيد على 3 ملايين فرصة عمل بالمملكة المتحدة ترتبط بصادراتها إلى الاتحاد، وأن البقاء فيه يعنى تخفيض أسعار المنتجات لعدم وجود رسوم جمركية، علاوة على أن تدفق المهاجرين من الشباب الحريص على العمل يعزز النمو الاقتصادي في البلاد.
ومن المتوقع في حالة انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أن يُلقي هذا القرار بظلاله على علاقات بريطانيا الاقتصادية بشركائها التجاريين، ومنها دول مجلس التعاون الخليجي، وعلى حجم الاستثمارات الخليجية في هذا البلد.
واقع العلاقات الاقتصادية بين بريطانيا ودول الخليج
يمكن الوقوف على ملامح العلاقات الاقتصادية بين المملكة المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي، من خلال ما يلي:
1- حجم التبادل التجاري:
ترتبط دول مجلس التعاون الخليجي بعلاقات تجارية وثيقة مع المملكة المتحدة التي تعتبر ثاني أكبر شريك تجاري داخل الاتحاد الأوروبي، بعد ألمانيا، لدول الخليج. وطبقاً لبيانات هيئة التجارة والاستثمار البريطانية، فقد بلغ إجمالي حجم التجارة الثنائية للسلع بين بريطانيا ودول مجلس التعاون الخليجي في عام 2014 ما يقرب من 22.1 مليار جنيه استرليني (نحو 33 مليار دولار). ووصلت قيمة واردات المملكة المتحدة من دول الخليج، خلال عام 2014، إلى أكثر من 8.5 مليار جنيه استرليني، بينما تخطت قيمة الصادرات البريطانية إلى الخليج نحو 13.6 مليار جنيه استرليني. وتأتي الإمارات العربية المتحدة في مقدمة دول الخليج من حيث حجم علاقاتها التجارية مع بريطانيا، تليها الكويت والبحرين وعمان وقطر والسعودية.
وتتنوع أبرز صادرات المملكة المتحدة لدول الخليج بين المحركات النفاثة، والسيارات، والذهب، والطائرات وأجزائها، ومصنوعات المجوهرات، والمعادن النفيسة. فيما استحوذ كل من الغاز الطبيعي المُسال والكيروسين ووقود الطائرات والنفط الخام على ما يزيد عن 70% تقريباً من إجمالي واردات بريطانيا من دول الخليج.
2- الاستثمارات الخليجية في بريطانيا:
ثمة عوامل عديدة شجعت المستثمرين الخليجيين على توجيه بوصلة استثماراتهم خلال السنوات الأخيرة نحو أوروبا، وتحديداً بريطانيا، ومن أولى هذه العوامل: فرض الولايات المتحدة قيوداً صارمة، بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، على حركة الأموال الأجنبية، خصوصاً العربية، وتجميد كثير من حسابات الأجانب في البنوك الأمريكية، وتشديد الإجراءات على حرية السفر ودخول الأفراد إلى هذا البلد. وثانيها: تمتع بريطانيا بمناخ استثماري جيد وآمن وعائدات كبيرة، كما أنها أكثر ترحيباً بالاستثمارات الخليجية، خاصةً في مجال العقارات.
وأخيراً، فإن الاضطرابات وحالة عدم الاستقرار التي تعانيها منطقة الشرق الأوسط خاصةً بعد ثورات الربيع العربي منذ عام 2011، ثم تراجع أسعار النفط منذ منتصف عام 2014، قد دفعت المستثمرين الخليجيين إلى التوجه نحو الخارج، بحثاً عن وجهات استثمار آمنة وعائدات مالية كبيرة.
ويٌقدر إجمالي الاستثمارات الخليجية في بريطانيا بأكثر من 130 مليار دولار، طبقاً لإحصائيات نشرتها جريدة "الحياة" اللندنية في مارس 2016. وتركزت هذه الاستثمارات في مجال النشاط العقاري، حيث جاء المستثمرون الكويتيون والإماراتيون والقطريون في الطليعة بشرائهم عقارات بريطانية بقيمة 5.9 مليار جنيه استرليني على الأقل خلال عام 2015، مقارنةً بنحو 4.8 مليار جنيه استرليني في عام 2014، وفقاً لشركة "سافيلز" الدولية للاستشارات العقارية في بريطانيا.
ومن جانب آخر، يسعى المسؤولون في المملكة المتحدة إلى تعزيز الخدمات المالية، بما فيها التمويل الإسلامي، في دول الخليج العربية ومساعداتها على تنويع اقتصاداتها، وجذب المزيد من الاستثمارات الخليجية واستثمارات صناديق الثروة السيادية إلى المملكة المتحدة، خاصةً في مشروعات البنية التحتية والطاقة، والمحافظة على دور لندن كوجهة مُفضلة للاستثمارات الخليجية.
وقد انعكس ذلك في زيارات العمل المتبادلة، ومنها الزيارة التي ضمت وفوداً من رجال الأعمال، وعلى رأسها عمدة الحي المالي بمدينة لندن إلى الكويت والمملكة العربية السعودية والإمارات والبحرين خلال الفترة من 16- 27 يناير 2016، وتضمنت مقابلات مع الوزراء والمسؤولين في أجهزة صناديق الثروة السيادية الخليجية المختلفة وموانئ دبي العالمية، وأيضاً زيارة عمدة الحي المالي بمدينة لندن إلى البحرين وسلطنة عُمان في الفترة من 23- 29 مارس الماضي.
الآثار المحتملة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي
وفقاً لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD، فإنه في حالة بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي مع إجراء المزيد من الاصلاحات في السوق الأوروبية الموحدة، سيؤدي ذلك إلى تعزيز التجارة الخارجية والاستثمار الأجنبي المباشر في دول الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة.
وعلى العكس، في حالة التصويت لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في الاستفتاء المقرر في شهر يونيو الجاري وتنفيذ الخروج رسمياً في أواخر عام 2018، يُتوقع أن تشهد البلاد تراجعاً في الاستثمارات الأجنبية، ومنها الخليجية، الوافدة إليها، في ظل سيطرة القلق على المستثمرين نتيجة الصعوبات التي ستواجهها بريطانيا، واضطراها إلى إعادة النظر والتفاوض على أكثر من 60 اتفاقاً تجارياً مع دول العالم بما فيها دول الاتحاد الأوروبي ودول الخليج. وتتحدد أبرز هذه التأثيرات المحتملة لسيناريو الانسحاب في الآتي:
1- تأثر لندن كمركز مالي عالمي:
تعتبر لندن مركزاً رئيسياً للبنوك التجارية، وتدفع هيمنة العاصمة البريطانية على تمويل كبار العملاء والشركات الكبيرة، البنوك الدولية إلى الاحتفاظ بمكاتب للإدارة في لندن، لضمان النفاذ إلى السوق الأوروبية.
وبالتالي في ظل استخدام العديد من الجهات الأجنبية لندن كمدخل رئيسي لأوروبا، من المحتمل أن تؤدي إدارة التكاليف Cost Management إلى قيام البنوك بنقل المكاتب الوسيطة خارج لندن في حالة اتخاذ الحكومة البريطانية قراراً بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي.
ومن ثم، فإن تأثير خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي على الاستثمارات المحلية والخليجية والأجنبية الموجودة بلندن وعلى جاذبيتها كمركز مالي عالمي، يتوقف على المفاضلة بين جودة وريادة الخدمات المالية الموجودة في لندن، والحاجة إلى النفاذ للسوق الأوروبية. وقد تتم إعادة توجيه التدفقات الاستثمارية التي كان من الممكن أن تذهب إلى مصانع السيارات أو مراكز الخدمات المالية في المملكة المتحدة، والتي تعد حالياً أكثر وجهة لجذب الاستثمار الأجنبي المباشر داخل الاتحاد الأوروبي، إلى مناطق أخرى داخل الاتحاد الأوروبي مثل دبلن وباريس وفرانكفورت.
2- تضرر الاقتصاد العالمي وأسعار النفط:
بحسب صندوق النقد الدولي، فإن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يعد الخطر الأكبر على التعافي الاقتصادي العالمي، وسيوقع أضراراً بالغة على المستويين الإقليمي والعالمي من خلال إرباك العلاقات التجارية القائمة، وزيادة عدم اليقين بين المستثمرين. وقد ينجم عن ذلك امتداد فترة تقلبات أسعار النفط، ويدفع إلى المزيد من عدم الاستقرار في آفاق النمو الاقتصادي المتوقعة للبلدان المُصدرة للنفط، ومنها دول الخليج العربية.
3- تراجع الاستثمارات الخليجية في بريطانيا:
ثمة تقديرات تشير إلى أن سيناريو الانفصال عن الاتحاد الأوروبي سيدفع المملكة المتحدة إلى الدخول في ركود اقتصادي وارتفاع البطالة بها وانخفاض ناتجها المحلي الإجمالي، فضلاً عن تراجع أسعار العقارات والأصول وقيمة رؤوس الأموال. ووفقاً للتوقعات، ستكون أسعار العقارات أقل بما يتراوح بين (10 و18%) عن نظيرتها في حالة عدم الخروج، ومن المرجح أن تنخفض أسعار الأسهم فوراً بعد التصويت بالخروج من الاتحاد الأوروبي بما يتراوح بين (20 و29%).
ويُتوقع أن يعيد المستثمرون الخليجيون النظر في استثماراتهم الموجودة بالمملكة المتحدة في قطاع العقارات بصفة خاصة، خوفاً من تعرضهم لخسائر مالية كبيرة جراء انهيار أسعار العقارات. وقد بدت مؤشرات هذا الاتجاه تظهر خلال الشهور الماضية، حيث أحجم كثيرُ من المستثمرين الخليجيين عن شراء العقارات انتظاراً لنتائج الاستفتاء البريطاني. ووفقاً لشركة السمسرة العقارية "نايت فرانك"، تراجعت قيمة العقارات السكنية بالمناطق الراقية التي يفضلها المستثمرون الخليجيون، مثل تشيلسي وساوث كنسنغتون ونايتسبريدج، بين 3.5 و7.5% على أساس سنوي في مايو الماضي.
وكان محافظ بنك انجلترا المركزي "مارك كارني" قد كشف، في شهر أبريل 2016، عن أن التدفقات الإجمالية لرؤوس الأموال الأجنبية على العقارات التجارية في بريطانيا، قد توقفت في الأشهر الثلاثة الأولى من العام الجاري، بسبب الاستفتاء على انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
كما انخفضت قيمة الجنيه الاسترليني أمام الدولار، حيث انخفض سعره من 1.5207 دولار أمريكي/ جنيه استرليني في الأول من يونيو 2015 ليصل إلى نحو 1.456 دولار أمريكي/ جنيه استرليني في السابع من يونيو الجاري، وذلك طبقاً لبيانات بنك إنجلترا المركزي. وقد يؤدي ذلك إلى تراجع قيمة الأصول الخليجية في بريطانيا. وتتوقع الحكومة البريطانية تراجع قيمة الجنية الاسترليني بما يتراوح بين (12-15%) خلال عام في حالة عدم بقائها في الاتحاد الأوروبي، خاصةً إذا صاحب ذلك هجرة رؤوس الأموال خارج المملكة المتحدة.