أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

التجديد المؤسسي:

مداخل النمو المستدام للاقتصاد "اللاملموس"

16 يونيو، 2022


عرض: هند سمير

شهدت نهاية القرن العشرين، موجة كبيرة من التفاؤل، فيما يتعلق بالاقتصاد العالمي، فقد كان من المتوقع أن تؤدي التقنيات الحديثة والطرق الجديدة لممارسة الأعمال إلى تحقيق تقدم كبير في النمو الاقتصادي والتطور البشري، إلا أن الواقع كان مختلفاً للغاية. فعلى مدى العقدين الماضيين، كان أداء الاقتصادات المتقدمة على مستوى العالم مخيباً للآمال. فعلى الرغم من أن العالم أكثر ثراءً مما كان عليه في أي وقت مضى، حيث تعمل التقنيات الرائعة على تغيير كل جانب من جوانب حياتنا، فإنه يبدو أن الجميع يعرفون أنه من وجهة نظر اقتصادية أن هناك خطأ ما. 

في هذا الإطار، يطرح كتاب "إعادة بدء المستقبل: كيف يمكن إصلاح الاقتصاد غير الملموس؟" لجوناثان هاسكل وستيان ويستليك تفسيراً جديداً لما حدث من خطأ، مقترحاً حلولاً للمشكلات المطروحة، وكيفية بناء اقتصاد لا ينمو فقط بشكل أسرع، بل يكون أكثر عدلاً واستدامة أيضاً. ويعد هذا الكتاب امتداداً لمؤلف آخر وهو "الرأسمالية من دون رأس مال". وينقسم الكتاب الجديد إلى قسمين، الأول، أبرز المشكلات التي يواجهها الاقتصاد العالمي في العقدين الماضيين، كما يطرح الأسباب التي أدت إلى ظهور هذه المشكلات، بينما يتناول القسم الثاني أبرز الحلول المقترحة للتغلب على هذه المشكلات.

المشكلات الخمس:

يلخص الكتاب جوانب المشكلة التي تواجهها اقتصادات البلدان الغنية اليوم، في خمسة أعراض رئيسية ظهرت في دولة تلو الأخرى، وتعد جديرة بالملاحظة، ليس فقط لأنها غير مرغوب فيها من الناحية الموضوعية، لكن أيضاً لأنه يصعب تفسيرها إلى حدٍ ما، حيث تتحدى التفسيرات الاقتصادية التقليدية أو تُظهر مفارقات غير متوقعة، والتي تتمثل في:

1) ركود ممتد: اتسم العقد الأخير بتباطؤ معدل نمو الإنتاجية بدرجة كبيرة، وهو ما ترتب عليه أن متوسط دخل الفرد في الدول الغنية أصبح أقل بنحو 25%، وهو أمر ما كان يمكن ألا يحدث لو استمر النمو في القرن الحادي والعشرين بالمعدلات السابقة نفسها. وتعد فترات النمو المنخفض عادية في حد ذاتها، إلا أن الركود بصورته الحالية يعتبر طويل الأجل ومثيراً للحيرة، حيث أثبت أنه مقاوم لأسعار الفائدة المنخفضة للغاية، ومجموعة من المحاولات غير التقليدية تم اتباعها لتحفيز الاقتصاد، كما أنه يستمر في الوجود بالرغم من التقنيات الجديدة والأعمال التجارية الجديدة التي تقوم عليها.

2) عدم المساواة: عند قياس معدلات الثروة أو الدخل في الاقتصاد العالمي، فإن عدم المساواة زاد بشكلٍ كبير منذ ثمانينيات القرن العشرين وإن ظل ثابتاً. لكن اللامساواة اليوم ليست مجرد مسألة ثروات أو عدم تملك، فقد أصبح الأمر معقداً بسبب ما يمكن تسميته بعدم المساواة في التقدير، وهو الانقسام الملحوظ بين النخب ذات المكانة العالية والأشخاص ذوي المكانة المتدنية الذين خلفهم التغيير الثقافي والاجتماعي. وعلى الرغم من وجود بعض الارتباط بين التقدير والثراء المادي، فإن هذا الارتباط ليس كاملاً، فالكثير من الأشخاص الذين يشعرون بأنهم تخلفوا عن الركب بسبب الحداثة هم في الواقع متقاعدون أثرياء من حيث تملك الأصول، في حين تضم النخبة الليبرالية المواكبة لهذه الحداثة الكثير من الخريجين المعوزين والمثقلين بالديون.

3) اختلال المنافسة: لا يبدو أن المنافسة، والتي تعتبر شريان الحياة لاقتصادات السوق، تعمل كما ينبغي، فقد أصبحت ثروات الشركات أكثر رسوخاً، والشركات التي تبلغ قيمتها تريليون دولار، مثل أمازون وجوجل، تتفوق باستمرار، وتحقق أرباحاً عالية جداً، كما انخفض معدل إنشاء الشركات الجديدة بصورة كبيرة، وانخفض احتمال تغيير الأشخاص لأصحاب العمل أو الانتقال للعثور على وظيفة جديدة. هنا، أيضاً، نرى مفارقة حيث يشتكي الكثير من الناس من الشعور المتزايد بالمنافسة المحمومة والمرهقة والمُهدَرة في الحياة الاقتصادية، حيث يبدو أن الأثرياء، وحتى الأغنياء، يضطرون إلى العمل بجدية أكبر لمواكبة تلك المنافسة.

4) الهشاشة الاقتصادية: أظهرت جائحة كوفيد -19 أنه حتى أغنى اقتصادات العالم ليست محصنة ضد العوامل الطبيعية، بل أن الضرر الناجم عن الوباء يرتبط طردياً بمدى رقي الاقتصاد وتعقيده. فقد سمحت المدن الكبيرة والكثيفة وسلاسل التوريد الدولية المعقدة والترابط غير المسبوق لاقتصادنا العالمي بانتقال الفيروس من بلد إلى آخر وزاد من تكلفة عمليات الإغلاق اللازمة للسيطرة عليه. بفضل العولمة وسلاسل التوريد والإنترنت، يبدو أن الدول الغنية أصبحت تتأثر بأبسط الأزمات التي تظهر في مناطق أخرى.

ومن المؤشرات الأخرى على الهشاشة، تراجع قدرة البنوك المركزية على تعويض الصدمات الاقتصادية، حيث أصبحت مساحة مساهمة البنوك المركزية في السياسة الاقتصادية محدودة للغاية، فيما يتعلق بأسعار الفائدة. 

5) عدم الأصالة والتقليد: السمة الأخيرة المخيبة للآمال للاقتصاد في القرن الحادي والعشرين ليست شيئاً يتحدث عنه الاقتصاديون، لكنها تلوح في الأفق بشكل كبير في مناقشات الأشخاص العاديين، وهي ما يمكن أن نطلق عليه عدم الأصالة أو الزيف، أو بمعنى آخر "أن العمال والشركات يفتقرون إلى المثابرة والأصالة التي ينبغي أن يمتلكوها، والتي كانت لديهم في السابق". وقد انتقد عالم الأنثروبولوجيا ديفيد جريبر "الوظائف التافهة"، التي أصبح أجر أصحابها يتزايد، في الوقت الذي يعاني فيه الأشخاص العاملون في صناعة الأشياء ونقلها وإصلاحها وصيانتها من عمليات التسريح ثبات الأجور، ولعل إحدى سمات الانحطاط الحديث انتشار التقليد بدلاً من الأصالة في الثقافة والإعلام والترفيه.

وعلى الرغم من أن الاقتصادات والمجتمعات قد مرت بفترات من المشكلات، فإن التعايش مع هذه المشكلات الخمس المذكورة سلفاً أمر محير ومتناقض، لقد أثَّر الركود الاقتصادي على العالم من قبل، لكنه اليوم يظل قائماً مع معدلات فائدة منخفضة وأرباح تجارية عالية واعتقاد راسخ بأننا نعيش في عصر التقدم التكنولوجي المذهل، وتباطأ صعود اللامساواة المادية، لكن عواقبه والآثار المترتبة عليه - من عدم المساواة في المكانة، والاستقطاب السياسي، والانقسامات الجغرافية، والمجتمعات المنكوبة، والوفيات المبكرة - تستمر في النمو، وكما يبدو أن المنافسة قد انخفضت، مع وجود عدد أقل من الشركات الجديدة وفجوات أداء أكثر ثباتاً بين الشركات الرائدة وتلك المتباطئة، إلا أن الحياة العملية لأصحاب الأعمال والعاملين على حدٍ سواء تبدو أكثر ضغطاً من أي وقت مضى.

مؤسسات غير مناسبة: 

يطرح الكتاب تفسيرات لخيبة الأمل الاقتصادية الكبرى، حيث يقسمها إلى مجموعتين إحداها نظريات تلوم السلوك، والآخرى تنتقد الظروف، بينما يقدم هذا الكتاب تفسيراً بديلاً، وهو الاعتقاد بأن الاقتصاد جزء من تغيير جذري وهو التحول من الاقتصاد المادي إلى حدٍ كبير إلى آخر يعتمد على الأفكار والمعرفة والعلاقات، ولكن لسوء الحظ، فشلت المؤسسات التي يعتمد عليها الاقتصاد في معظم الأحيان في مواكبة هذا التطور، إن المشاكل التي نراها هي الأعراض المرضية لاقتصاد عالق بين ماض لا يمكن إصلاحه ومستقبل لا يمكن تحقيقه.

ويكمن جوهر المشكلة الأساسية في "المؤسسات غير مناسبة"، حيث يعتمد النشاط الاقتصادي بشكل أساسي على المؤسسات، أو كما عرَّفها أحد الخبراء بأنها "نظام التشغيل" للاقتصاد، فالمؤسسات المناسبة تمكن من التبادل، ويشمل التجارة والاستثمار والتخصص الذي يجعل الاقتصاد يتقدم، ويتعين على المؤسسات المناسبة أن تحل أربع مشاكل في المقابل، وهي: ضمان الالتزام الكافي، وحل مشاكل العمل الجماعي، وتوفير المعلومات، وتقييد أنشطة التأثير المهدرة.

ونظراً لأن رأس المال غير الملموس له خصائص اقتصادية غير عادية، فيتعين على المؤسسات التغيير لاستيعابها، منها على سبيل المثال، الحاجة المتزايدة للعمل الجماعي، فالمؤسسات العامة التي تمول الأصول غير الملموسة والتي تحجم الشركات عن تمويلها، مثل البحث العلمي الأساسي أو التدريب المهني، تصبح أكثر مركزية في السياسة الاقتصادية، أيضاً ثمة حاجة متزايدة للمعلومات، إذ يجب أن تكون أسواق رأس المال والأنظمة المصرفية قادرة على إقراض الشركات التي يصعب استخدام أصولها كضمان للقروض. 

في الوقت نفسه، تزداد أنشطة التأثير المهدرة، حيث إن هناك المزيد من الدعاوى القضائية حول الملكية الفكرية، والتي تمنح الملكية لبعض الأصول غير الملموسة، بالإضافة إلى الحوار غير الفعَّال حول التخطيط وتقسيم المناطق في المدن المكتظة بالسكان والتي يزدهر فيها الاستثمار غير المادي. 

وينتج عن غياب المؤسسات المناسبة، عدم إجراء استثمارات غير ملموسة مجدية؛ مما يؤدي إلى نمو أبطأ، وأيضاً عدم القدرة على السيطرة على الجوانب السلبية المحتملة للاقتصاد الغني برأس المال غير الملموس.

الديون المؤسسية:

في جزء آخر من الكتاب، يناقش الكاتبان أربعة مجالات يكون فيها الأثر السلبي الناتج عن كون المؤسسات متأخرة عن مواكبة التغير الاقتصادي (الدين المؤسسي) واضح بشكل كبير، مما يعيق الاستثمار طويل الأجل في المستقبل، ويزيد من حدة الآثار السلبية للاستثمار غير الملموس القائم بالفعل، وتتمثل هذه المجالات في:

1) التمويل العام والملكية الفكرية، ترتبط المشكلة الأكثر وضوحاً بالمؤسسات التي يتمثل هدفها الواضح في تشجيع الاستثمار غير المادي، فقوانين الملكية الفكرية والهيئات العامة التي تمول البحث أو التدريب أو المحتوى الثقافي تعمل على حل واحدة من المراوغات الرئيسية لرأس المال غير الملموس، وهي توليد تداعيات تقلل من الحافز للشركات الخاصة على الاستثمار، وتضع الحكومات قوانين الملكية الفكرية للحد من هذه التداعيات، أو تدعم أو تمول الاستثمارات بنفسها مباشرة.

2) السياسة المالية والنقدية، لا يقتصر التحدي على الأسواق المالية والأنظمة المصرفية التي توفر التمويل لشركات القطاع الخاص، ولكن في أنظمة السياسة النقدية التي تقوم عليها، حيث إن طبيعة الأصول غير الملموسة - والتي يأخذ فيها الفائز كل شيء – تجعل من الصعب تقييم الجدارة الائتمانية، وهو ما يحد من قدرة البنوك المركزية على إدارة الدورات الاقتصادية عن طريق تغيير أسعار الفائدة. ويتمثل الحل في التغيير المؤسسي لكيفية تنظيم المؤسسات المالية، وزيادة قدرتها على الاستثمار في الأعمال التجارية الغنية بالأصول غير الملموسة، جنباً إلى جنب مع تطوير القواعد الضريبية والتنظيمية التي تفضل الدين على حقوق الملكية. كما يجب أيضاً دراسة الدور التقليدي للبنوك المركزية في خفض تكلفة الائتمان عندما يحتاج الاقتصاد إلى دفعة، والتي أصبحت أكثر صعوبة مع اقتراب أسعار الفائدة من الصفر، وهي الظاهرة الناجمة جزئياً عن التحول للاقتصاد غير الملموس.

3) نمو المدن، حيث تعيق قواعد التخطيط والتقسيم في معظم البلدان الغنية نمو المدن، وتضع حق النقض في أيدي أصحاب المنازل لمنعها، وترتفع تكلفة هذا المنع مع زيادة أهمية رأس المال غير الملموس. 

4) سياسة المنافسة، يزعم البعض بشكل متزايد أن ظهور الشركات الكبيرة المهيمنة - من منصات التكنولوجيا مثل Google إلى سلاسل البيع بالتجزئة مثل Walmart - هو نتيجة لسياسة المنافسة الضعيفة، وأن الاستجابة الصحيحة هي العودة إلى قواعد المنافسة الأكثر صرامة في الستينيات والسبعينيات. لكن هذه الحجة مضللة، فالنمو في الفجوة بين القادة والمتقاعسين هو في الغالب نتيجة للأهمية المتزايدة للأصول غير الملموسة، ولا ينبغي معالجتها عن طريق التفكيك التعسفي للشركات، ولكن من خلال ضمان انخفاض الحواجز أمام دخول السوق.  

الإصلاح والصفقة:

في الأخير، يطرح الكتاب اثنين من الأفكار التي تعزز هذه المشاكل المؤسسية، وفي الوقت نفسه تقود إلى الحلول للاقتصاد غير الملموس. الأولى هي "أهمية بناء القدرات في الحكومات والمنظمات التي تدعم هذه المؤسسات"، لا سيما في الوظائف التي تتعلق بالاستثمار غير المادي. في بعض الحالات، يتعلق الأمر بإنفاق المزيد من الأموال على أشياء لم تكن تقليدياً من أولويات الحكومة، مثل البحث والتطوير. 

أما الفكرة الثانية فهي "أننا إذا أردنا إصلاح المؤسسات، فنحن بحاجة إلى تحديد الصفقات السياسية وإبرامها"، فالمؤسسات في الدول الغنية غير ملائمة ليس بسبب أنها لا تملك أفكاراً ذكية كافية، ولكن لأن الوضع الراهن يناسب الكثير من الناس، والتغيير مكلف سياسياً واجتماعياً. فهناك حل، حتى لو كان من الصعب تنفيذه. وقد حدث التجديد المؤسسي من قبل، ويمكن أن يحدث مرة أخرى. وإذا نجحت الدول الغنية في تنفيذه، يمكنها زيادة النمو والازدهار، ومعالجة التهديدات البيئية من الأوبئة إلى الاحتباس الحراري، وإيجاد طريقة للخروج من المنزل غير السعيد الذي علق فيه الاقتصاد لما يقرب من عقدين.

المصدر:

Jonathan Haskel and Stian Westlake, RESTARTING THE FUTURE: HOW TO FIX THE INTANGIBLE ECONOMY, PRINCETON UNIVERSITY PRESS, PRINCETON AND OXFORD, 2022.