أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

كلفة عدم الاستقرار:

الآثار الاقتصادية الممتدة للانقلابات العسكرية في أفريقيا

27 أكتوبر، 2021


منذ حصول دول القارة الأفريقية على الاستقلال في خمسينيات القرن الماضي، أصبحت الانقلابات العسكرية حدثاً شائعاً ومتكرراً، وهو ما ظهر في بعض هذه الدول خلال السنوات الأخيرة. وتتعدد الآثار الاقتصادية الناجمة عن التوترات والانقلابات العسكرية في أفريقيا، وهي في مجملها تترك تداعيات سلبية على الاقتصادات الوطنية الأفريقية، وتمتد هذه التداعيات إلى المستوى الإقليمي القاري، بل وتتجاوز ذلك إلى الاقتصاد العالمي.

انقلابات متكررة:

تتصدر القارة الأفريقية الترتيب العالمي في عدد الانقلابات بها والتي بلغت أكثر من 200 محاولة انقلابية منذ أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، وفقاً لبعض الدراسات، منها ما حدث في العام الجاري في مالي وجمهورية غينيا. وتعتبر دول غرب ووسط أفريقيا بشكل عام الأكثر تعرضاً للانقلابات العسكرية؛ نظراً للبيئة الخصبة المشجعة على ذلك، والتي تتمثل في الخلافات العرقية والإثنية، إلى جانب هشاشة بنية الدول من الناحية السياسية والأمنية. وعلى الرغم من تعدد محاولات الانقلابات وكثرتها في أفريقيا، فإن نصفها تقريباً باء بالفشل. 


تداعيات إقليمية:

تترتب على الانقلابات العسكرية في أفريقيا تداعيات سلبية تؤثر على التنمية الاقتصادية في القارة، ويمكن توضيحها كالتالي:

1- زيادة عدد اللاجئين وسوء الأوضاع المعيشية: أدت الحروب والانقلابات في أفريقيا إلى تزايد أعداد المشردين واللاجئين والنازحين من أماكن النزاع إلى أخرى أكثر استقراراً، وهو ما جعل هذه القارة تضم حالياً نحو ثُلث عدد اللاجئين على مستوى العالم. وتُولد أزمة اللاجئين في القارة السمراء أعباءً اقتصادية هائلة، مثل هبوط معدلات النمو الاقتصادي، ومستويات عالية للفقر، وتدني متوسطات دخول الأفراد، وتدهور مستوى البنية التحتية، وتفكّك الأُسَر نتيجة للقتل والتشريد، وخطف الأطفال وتجنيدهم في الصراعات المسلحة. وقد شهدت دول مثل السودان وسيراليون وليبيريا ورواندا ومالي انقلابات عسكرية ونزاعات أهلية استمرت عشرات السنوات وراح ضحيتها أكثر من 13 مليون شخص، وتشرد بسببها نحو 33 مليوناً آخرين. 

2- تعليق العضويات في المؤسسات الإقليمية وفرض العقوبات الاقتصادية: عادة ما تأتي مثل هذه القرارات كنوع من الرد على تفاقم الأوضاع السياسية والأمنية في الدول التي شهدت انقلابات عسكرية. ويتجه عادة الاتحاد الأفريقي أو التكتلات الإقليمية في القارة لفرض عقوبات سياسية واقتصادية على تلك الدول. وفي هذا الإطار، تم تعليق عضوية مالي في الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) بعد انقلاب مايو 2021، وأصدرت الجماعة عقوبات عليها. كذلك تم تعليق عضوية جمهورية غينيا من قبل (إيكواس) بعد انقلاب سبتمبر الماضي. وتنتج عن ذلك بلا شك حالة من القلق وعدم اليقين بشأن الأوضاع الاقتصادية في هذه الدول، كما أنها تؤثر سلباً على خطط وأهداف استكمال مراحل التكامل الاقتصادي الإقليمي.

3- تعطيل خطط التنمية الاقتصادية في أفريقيا: في الوقت الذي تسير فيه أفريقيا على خطى وطموحات أجندة التنمية المستدامة 2063، والتي تهدف إلى بناء اقتصاد أفريقي قوي ومتكامل ومؤثر على الساحة الدولية، ومع حرصها على أن يكون السلام والاستقرار السياسي هو العمود الفقري لهذه الطموحات التنموية من خلال مبادرة "إسكات صوت البنادق"؛ إلا أن الواقع الفعلي للمشهد السياسي في القارة السمراء يعوق وبشكل كبير تنفيذ أجندة التنمية.

وهنا تؤدي الانقلابات العسكرية إلى أوضاع متوترة وغير مستقرة في الدول، حيث ينشغل قادتها وشعوبها عن استثمار ثرواتها الهائلة التي تزخر بها، فضلاً عن استشراء ممارسات الفساد المالي، وهو ما يتجسد في عدة دول مثل حالة نيجيريا، حيث أدت سلسلة الانقلابات والتوترات السياسية فيها على مدار العقود الماضية إلى نهب مواردها الطبيعية خاصة النفطية، لتتصدر بذلك الدول الأكثر فساداً في القارة الأفريقية.

¬أيضاً، تلعب التوترات السياسية في القارة السمراء دوراً معاكساً لجهود التنمية الاقتصادية، فيوجد نحو 15 دولة أفريقية من أصل 20 تتصدر المؤشر العالمي للدول الأكثر هشاشة اقتصادياً لعام 2021، على غرار جمهورية أفريقيا الوسطى والصومال والسودان وجمهورية الكونغو الديمقراطية وتشاد وغينيا، وهي جميعها تعاني أوضاعاً داخلية غير مستقرة.

وفي حالة مثل السودان، فأثناء حقبة الرئيس السابق عمر البشير (1989-2019)، التي اتسمت بدرجة عالية من عدم الاستقرار السياسي والأمني وتوتر علاقات الخرطوم مع المجتمع الدولي، شهدت البلاد خسائر اقتصادية كبيرة، فاقمها انفصال جنوب السودان في عام 2011، ووضع اسم السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب. ومنذ عام 2019، تشهد السودان فترة انتقال سياسي يشوبها كثير من التوترات الداخلية، والتي من المرجح أن تتفاقم في ظل التطورات الجارية، خاصة مع إعلان رئيس مجلس السيادة الانتقالي في السودان، الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان، يوم 25 أكتوبر 2021، حل مجلسي السيادة والوزراء وفرض حالة الطوارئ في كافة أنحاء البلاد. وبالتالي من المتوقع أن تهدد حالة عدم الاستقرار الحالية في السودان مجمل الأوضاع الاقتصادية في البلاد، وتعطيل خططها للإصلاح الاقتصادي، وعودة الضغوطات والعقوبات الدولية عليها. فمثلاً، أعلنت الخارجية الأمريكية، يوم 25 أكتوبر الجاري، تعليق الولايات المتحدة مساعداتها للسودان.


انعكاسات دولية:

قد تتجاوز التداعيات الاقتصادية للانقلابات العسكرية في أفريقيا المستويين الداخلي والإقليمي، لتمتد إلى الساحة الدولية، وهو ما يتضح من المؤشرات التالية:

1- ارتفاع الأسعار العالمية للسلع الاستراتيجية: إن فترات الاضطراب التي تلي الانقلابات العسكرية في القارة الأفريقية، ينجم عنها تباطؤ في الأنشطة الرئيسية للاقتصادات الأفريقية، مثل الزراعة والنفط والمعادن المهمة. إذ تتصارع الأطراف العسكرية أو السياسية للسيطرة على تلك الموارد، أو تعطيلها للضغط على خصومها، مما يؤثر بالسلب على إنتاج العديد من السلع الاستراتيجية، ويقود إلى مشكلات اقتصادية داخلية، فضلاً عن ارتفاع الأسعار العالمية، وتصاعد المخاوف من حدوث اضطرابات في إمدادات تلك السلع، خاصة إذا كانت تلك الدول تشارك بحصة منظورة في الإمدادات العالمية للسلع. وأمثلة ذلك ما يلي:

أ- تهديد المعروض العالمي للنفط: أحد الأمثلة في هذا السياق هو ما شهدته السودان منذ 19 سبتمبر 2021 من احتجاجات شعبية في إقليم شرق السودان، أدت إلى إغلاق موانئ بورتسودان، مما عطل، لفترة مؤقتة، نقل الإنتاج من حقول جنوب السودان إلى الأسواق العالمية، وذلك قبل أن تتفق السلطات السودانية مع المحتجين على استئناف نقل النفط عبر مينائي البشائر (1) و(2) على البحر الأحمر. 

وقد أدت التوترات السابقة إلى ارتفاع أسعار الوقود في السودان والدول المجاورة، غير أن تأثيرها كان محدوداً على السوق العالمية؛ نظراً لأن السودان وجنوب السودان منتجان صغيران للنفط. لكن بطبيعة الحال سيتأثر السوق العالمي للنفط بشكل أكبر إذا افترضنا أن نيجيريا شهدت اضطرابات سياسية أو أمنية؛ وذلك بالنظر لحجم إنتاجها الكبير نسبياً، والذي يتجاوز 1.7 مليون برميل يومياً.   

ب- ارتفاع أسعار وهوامش أرباح المحاصيل الزراعية: على سبيل المثال، تتعرض أسعار الكاكاو العالمية لارتفاعات قياسية كلما شهدت بعض الدول الأفريقية المنتجة لها اضطرابات سياسية أو انقلابات عسكرية. وتعتبر أفريقيا الأولى في إنتاج الكاكاو بحصة تصل إلى ثُلثي الإمدادات العالمية، وتنتج دولة كوت ديفوار منفردة نصف ما تنتجه القارة بأكملها.

وقد استغلت الحكومة في كوت ديفوار وقادة المتمردين هناك العائدات الكبيرة لهــــذه السلعة الحيوية في التمويل العسكري في مواجهة الخصوم، الأمر الذي أطال أمد الحروب الأهلية والتوترات السياسية والانقلابات التي اجتاحت البلاد في فترات زمنية مختلفة، وعلى نحو أدى إلى انخفاض إنتاجية هذا المحصول المهم نتيجة تهالك المزارع ونقص الميكنة. فيما كان أحد أبرز التداعيات للظروف السياسية غير المستقرة في كوت ديفوار، أن دفعت المزارعين في السنوات الأخيرة للتمسك بهوامش ربحية أعلى لمحاصيل الكاكاو، تحوطاً لفترات التقلبات الأمنية والسياسية المفاجئة في البلاد. وتزامن ذلك مع الطلب الهائل من الأسواق الأوروبية والصين والهند على هذا المحصول المهم، مما رفع أسعاره في الأسواق الدولية.

ج– ارتفاع أسعار بعض المعادن الصناعية: يمثل نشاط التعدين والمحاجر حوالي 20% من الناتج المحلي الأفريقي سنوياً، وهو يعد بذلك مصدر دخل أساسياً لكثير من الاقتصادات الأفريقية. وتساهم الدول الأفريقية بحصة كبيرة من إمدادات المعادن على غرار البوكسيت والذهب والماس وغيرها. فعلى سبيل المثال، تعتبر جمهورية غينيا مورداً رئيسياً لخام البوكسيت المستخدم في إنتاج الألمنيوم على مستوى العالم، حيث تمثل 26.4% من الاحتياطيات العالمية، ونحو 22% من الإنتاج العالمي. 

وقد أدى الانقلاب العسكري في غينيا في سبتمبر 2021 إلى ارتفاع سعر هذا المعدن بنسبة 40% وهو أعلى مستوى له منذ مايو 2011، لاسيما أن ذلك صاحبه انتعاش الاقتصاد العالمي بعد بدء التعافي تدريجياً من جائحة كورونا ووجود طلب متزايد على الخام في قطاعي السيارات والبناء. ومن المتوقع أن تؤدي مجمل تلك الظروف إلى تآكل في المخزون العالمي الخاص بخام البوكسيت، وعدم قدرة المعروض منه على الوفاء بالطلب، مما قد يترك السوق العالمي في حالة عجز لفترة من الزمن.

2- ازدهار التجارة غير المشروعة في المعادن النفيسة وبيعها بأسعار بخسة: تأثرت تجارة الماس العالمية بسبب الصراعات الدائمة والانقلابات العسكرية في الدول المنتجة له في أفريقيا مثل جمهورية أفريقيا الوسطى وسيراليون. وتسعى الجماعات المسلحة في هذه الدول للسيطرة على عمليات إنتاج وبيع الماس عن طريق وسطاء وقنوات غير شرعية من أجل تمويل عملياتها العسكرية، وهذه تجارة غير مشروعة تم حظرها دولياً، وعادة ما يتم فيها بيع الماس بأسعار بخسة وبفارق كبير عن السعر الحكومي المرجعي.

وبالمثل أيضاً، فإنه يجري تداول الذهب واستغلاله في قارة أفريقيا بشكل غير شرعي، حيث تزيد عمليات التنقيب غير الرسمية عن المعدن من قِبل الجماعات المسلحة، ودائماً ما يكون محط اهتمامها لاسيما أثناء الاضطرابات السياسية؛ مما يؤدي إلى خسائر كبيرة في ميزانيات الدول الأفريقية المعنية. 

ويتضح ذلك جلياً في دول غرب أفريقيا مثل غانا ومالي وبوركينا فاسو والنيجر، والتي تفقد سنوياً عائدات مبيعات 30 طناً من الذهب بسبب نشاط التعدين غير الرسمي. بينما تخسر دول وسط وشرق أفريقيا ما قيمته نحو 4 مليارات دولار من عائدات الذهب سنوياً بسبب عمليات التهريب غير الشرعي. وبالتالي يبدو جلياً أن الخاسر الأكبر هو الاقتصادات الأفريقية، وليس كبار تجار المعادن أو الشركات والذين يحصلون على المعادن النفيسة بأسعار بخسة تقل كثيراً عن الأسعار المرجعية المُحددة من قِبل الحكومات والسلطات الرسمية. 

3- تزايد الصراع بين القوى الدولية على النفوذ الاقتصادي في أفريقيا: تذهب بعض الأدبيات إلى اتهام بعض القوى الدولية الكبرى مثل فرنسا والولايات المتحدة، بالوقوف وراء الانقلابات العسكرية في عدد من دول أفريقيا خلال السنوات الأخيرة؛ وذلك بهدف تقويض المصالح الاقتصادية المتنامية في القارة لقوى دولية أخرى وتحديداً الصين وروسيا. 

ومثال على ذلك، تتمتع الصين بنفوذ قوي في جمهورية غينيا، حيث تشارك نحو 14 شركة صينية خاصة وأخرى مملوكة للدولة في أعمال استخراج وتصنيع البوكسيت في هذا البلد، كما أن الأخيرة هي موطن لمشروع (سيماندو)، الذي يوجد به أحد أكبر رواسب لخام الحديد في العالم، ويعمل به أكبر شركتين صينيتين وهما "هونجكياو" و"ريو تينتو". وتحصل الصين، وهي أكبر منتج ومستهلك للألمنيوم في العالم، على 50% من واردات البوكسيت من غينيا وبما يُقدر بنحو 52.7 مليون طن في عام 2020. 

ويُعتقد أن هناك ارتباطات قوية بين قائد الانقلاب الأخير في غينيا وكل من فرنسا والولايات المتحدة، وهو ما يمكن أن توظفه الدولتان، وفق بعض الترجيحات، بمساعدي القوى السياسية الجديدة في غينيا لتحجيم الوجود الصيني لصالح هذه الدول الغربية. وعلى الرغم من ذلك، يتعين الإشارة إلى أن العديد من الدول الأفريقية تنظر إلى الصين كشريك تنموي مثالي، في ظل ما تقوده من جهود تنموية بالقارة عبر مشروع "الحزام والطريق"، بالإضافة إلى تقديمها مساعدات وقروض، بعكس الدول الغربية التي ينظر إليها البعض كمحرك خفي للصراعات والحروب الأهلية التي شهدتها عدد من الدول الإفريقية. 


ختاماً، يمكن القول إن الانقلابات العسكرية في أفريقيا تترك العديد من الآثار الاقتصادية السلبية ليس فقط على هذه الدول، ولكن أيضاً على المستوى الإقليمي للقارة، كما تنسحب هذه الآثار لتمتد إلى الاقتصادي والسوق العالمي من خلال الارتفاع الملحوظ في أسعار النفط والمعادن والسلع الزراعية؛ مما يساهم في موجات تضخم عالمية. وبالتالي، يبقى الاستقرار السياسي والأمني في أفريقيا هو السبيل الوحيدة لتأسيس اقتصادات قوية وواعدة تسير على خطى تنموية جادة بمشاركة شعبية فعلية.