أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

تفشي حاد أم سلس؟

جدل مواجهة كورونا بين "تسطيح المنحني" و"مناعة القطيع"

17 مارس، 2020


في إطار انتقال فيروس كورونا المستجد COVID-19 إلى حالة الجائحة، وتخطيه مرحلة منع الانتشار أو احتوائه، حتى أصبح انتشاره على نطاق واسع، بل وخروجه عن السيطرة، أمرًا مطروحًا؛ فقد ظهر مساران متناقضان للتعامل مع الفيروس. فبينما عملت معظم الدول في اتجاه السيطرة على الفيروس، والحد من انتشاره، وحصره في مناطق بعينها داخل أقاليمها الجغرافية، من خلال نهج العزل الصحي، وعبر ما يُسمى بسياسة "تسطيح المنحنى"؛ فإن دولًا أخرى طرحت مسارًا معاكسًا، كبريطانيا ومن خلفها هولندا، عبر تطبيق نظرية يُطلق عليها اسم "مناعة القطيع"، الذي في ظله لا تقوم الدول بإجراءات العزل أو تعطيل حركة الحياة.

وقد أثار التناقض الواضح بين المسارين تساؤلات عديدة على المستوى العالمي، لا سيما وأن فيروس كورونا هو الموضوع الذي يشغل أذهان الجميع الآن، كما أنه لم يظهر بعد ما يُمكن استخدامه كدليل قاطع على صحة وفاعلية آليات أو نهج متبع من قبل دولة ما أو مجموعة من الدول مقارنة بأدوات تستخدمها دول أخرى.

تسطيح المنحنى:

وهي السياسة التي تُحاول معظم الدول تطبيقها لمواجهة فيروس كورونا المستجد، خاصة بعد ما حدث في إيطاليا التي تضاعفت فيها الأعداد بصورة كبيرة وفي فترة وجيزة، مما أحدث ضغطًا هائلًا على نظام الرعاية الصحية، مما اضطر بعض المراكز الطبية والمستشفيات إلى استقبال الحالات الحرجة فقط. وتقوم الاستراتيجية على إبطاء الانتشار، بمعنى توزيع الإصابات على مدة زمنية أطول، ولا تستهدف هذه السياسة تخفيض العدد الإجمالي للمصابين بالفيروس، بقدر ما تحاول الموازنة بين مراحل تفشي الوباء وقدرات قطاع الرعاية الصحية. ويتم ذلك من خلال تأجيل الوصول إلى نقطة الذروة بمنحنى انتشار الفيروس، لتوزيع المصابين بالفيروس على فترات زمنية أطول، بما يسمح للنظم الصحية باستيعاب الأزمة. ويوضح الشكل التالي شكل المنحنى المستهدف.


 

وفي إطار غياب المصل المضاد للفيروس الجديد، يمكن الوصول إلى إبطاء تفشي الوباء من خلال أداتين أساسيتين، هما:

1- التباعد الاجتماعي (Social Distance): وهو المصطلح الذي تم تداوله كثيرًا خلال الأيام الماضية، وهو يعني منع التجمعات بكافة أشكالها، وتخفيف التواجد بأماكن العمل والأماكن العامة والمواصلات العامة، وإلغاء الفاعليات، وإيقاف المدارس والجامعات، ومنع المصافحة وكافة أشكال التواصل البدني، والمحافظة على مسافة تصل إلى متر أو متر ونصف بين كل شخص وآخر في حالات اللقاءات الضرورية. وفي هذا الإطار، اتخذت بعض الدول إجراءات صارمة لتأكيد التزام أفراد المجتمع بالتباعد الاجتماعي، تصل إلى الغرامات والعقوبات في بعض الأحيان.

2- الاحتماء بالمنزل (Shelter in place): وهو ما يعني التزام الأفراد بالمكوث داخل منازلهم باعتبارها أكثر الأماكن الآمنة لحمايتهم من انتشار الفيروس، حتى في حالة إصابة أحد الأفراد بالفيروس، يجب تطبيق معايير العزل الذاتي طالما لم تظهر عليه أي مضاعفات خطيرة، وبالتالي يضمن احتواء التفشي وإبطاء الانتشار، وتقديم الرعاية الصحية اللازمة للحالات المستحقة، وإسعاف أكبر قدر من الحالات الخطيرة.

وفيما يتعلق بفاعلية استراتيجية تسطيح المنحنى، فوفقًا للخبرات التاريخية يبدو أنها استراتيجية ناجحة من حيث احتواء الحالات المصابة، غير أن دورة تفشي الفيروس ومن ثم انحساره قد تأخذ وقتًا أطول، ولعل الخبرة التاريخية الشهيرة ترتبط بمقارنة استراتيجية ولاية فيلادلفيا بولاية سانت لويس في التعامل مع الأنفلونزا الإسبانية في عام 1918، حيث اتبعت الثانية سياسات تسطيح المنحى، بينما لم تأخذ الأولى بنفس المسار، فكانت النتيجة تصاعد أعداد الوفيات في فيلادلفيا ليصل إلى 16 ألف حالة في غضون ستة أشهر، بينما سجلت ولاية سانت لويس ألفي حالة وفاة فقط، أي ما يعادل ثُمُن العدد في فيلادلفيا.

مناعة القطيع:

شهدت الأيام الماضية حديثًا موسعًا في المملكة المتحدة حول نظرية جديدة للتعامل مع فيروس كورونا المستجد، تسمى بنظرية "مناعة القطيع"، أو "المناعة الجماعية"، وهي تعتمد على ترك الفيروس ينتقل بين السكان، إلى أن تكتسب أجسامهم مناعة ضده، على اعتبار أن أجساد البشر لديها القدرة على التصدي لأي فيروس جديد، ثم تقوم بحفظ طريقة المواجهة داخل الجسم، للتصدي للفيروس مستقبلًا. ووفق تقديرات المستشار الصحي للحكومة البريطانية فإن تكوين تلك المناعة لدى البريطانيين سيتحقق عندما يصيب الفيروس نحو 60% من إجمالي السكان، بما يعني أن إجمالي المصابين سيبلغ عددهم 40.7 مليون مصاب.

ويدافع مؤيدو هذه النظرية عن وجهة نظرهم باستخدام العديد من الأسانيد، أولها أن هذه النظرية تم استخدامها في مواجهة بعض الأوبئة في الماضي وأثبتت فاعليتها، كما حدث عندما طبقتها بعض الدول كألمانيا، في مواجهة الحصبة الإسبانية، التي قتلت نحو 25 مليون شخص حول العالم في بدايات القرن العشرين. كما أنهم يقولون بأنه في ظل هذه النظرية لا يتم تطبيق إجراءات العزل أو الحجر الصحي، ما يسمح بسيرورة حركة الحياة اليومية للسكان، واستمرار العمل في المصانع، وغيرها، الأمر الذي يقلص من الآثار الاقتصادية للأزمة على البلاد. 

كما يرى المؤيدون أيضًا أنه بالنسبة لضخامة عدد المصابين بالفيروس، فليس جميعهم سيحتاجون لرعاية طبية، بل إن التقديرات تشير إلى أن نحو أربعة أخماسهم سيتماثلون للشفاء من دون تدخل طبي، ما سيمنح للسلطات فرصة تركيز جهودها على تقديم الرعاية الطبية للخمس المتبقي، البالغ نحو 8 ملايين مصاب. وفيما يتعلق بالتهديدات المتعلقة بارتفاع عدد الوفيات بين هؤلاء المصابين، فإنهم يقولون إن مرحلة ترك الفيروس للتفشي بحرية بين السكان، تسبقها مرحلتان أخريان، الأولى يتم فيها إبطاء تفشي الفيروس لكي لا يصل عدد المصابين المحتاجين لرعاية طبية إلى مستوى يتخطى الطاقة الاستيعابية للمستشفيات، والثانية يتم فيها عزل المواطنين الأقل مقاومة للفيروس، ككبار السن والمرضى وذوي المناعة الضعيفة بشكل عام، وهذا التدرج يمنع حدوث وفيات كبيرة بين السكان.

كما يدافع مؤيدو نظرية "مناعة القطيع" كذلك بأن الدول التي استطاعت الحد من انتشار فيروس كورونا المستجد بين سكانها حتى الآن، كحالة الصين، اعتمدت آليات الحجر والعزل الطبي الجماعي لمناطق واسعة ومجموعات كبيرة من سكانها، وبرغم تباطؤ انتشار الفيروس بها لكن تظل المخاوف قائمة من أن تعود أعداد المصابين به إلى الزيادة بشكل كبير بعد انتهاء مرحلة العزل، والسماح بالتنقل بين المناطق المصابة والمناطق غير المصابة، لا سيما وأن سكان المناطق خارج حدود العزل لم يواجهوا الفيروس من قبل، ولم تَبْنِ أجسامهم مناعة ضده بعد.

وفي المقابل، تواجِه نظرية "مناعة القطيع" انتقادات شديدة في بريطانيا، كما تثار حولها شكوك حول العالم. ويرى رافضو هذه النظرية في بريطانيا أن ترك الفيروس للتنقل بين البشر بحرية ومن دون قيود، سيكون سببًا في وفاة جميع أو معظم السكان من الفئات صاحبة المناعة الضعيفة، ككبار السن والمرضى. فبالنسبة لفئة كبار السن الذين يتخطى عمرهم 65 عامًا فإن عددهم يبلغ نحو 11.6 مليون نسمة. وإذا أُضيف إليهم من يعانون أمراضًا مزمنة، فإن العدد الإجمالي يرتفع إلى 14.5 مليون نسمة، بنسبة تبلغ 21.6% من إجمالي السكان، وهي فئة كبيرة لا يمكن تركها فريسة للفيروس.

كما يرى منتقدو نظرية "مناعة القطيع" أن العلماء لا يعلمون الكثير عن كورونا المستجد حتى الآن، وهناك مخاوف من أن هذا الفيروس قد يكون قادرًا على تبديل طبيعته بمرور الوقت، كما يفعل فيروس الإنفلونزا الموسمية، الذي يغير هيئته ويستطيع إصابة البشر بشكل متكرر، وهذا الأمر -إن صح- فإنه يجعل بناء أجساد البشر مناعة ضده أمرًا مشكوكًا فيه.

وفي نظرة شاملة لهذه النظرية، وبرغم أن بريطانيا ذاتها أعلنت تخليها عن تطبيق هذه الفكرة، وبعيدًا عن إيجابياتها وسلبياتها، فإن تحديد ماهية الطريقة المثلى لمواجهة فيروس كورونا المستجد ليس بالأمر السهل، كما أنه لا يوجد دليل حتى الآن على نجاعة طريقة وفشل أخرى، فلا يمكن استبعاد نظرية "مناعة القطيع" من الخيارات المطروحة للتعامل مع الفيروس، لا سيما وأنها قد تصبح الخيار الأوحد بالنسبة للدول التي تُعاني تراجعًا في البنية التحتية لقطاعها الصحي، وفي حال انتشار الفيروس بها بشكل خارج عن السيطرة. وبالتالي، فقد يكون اختبار تلك النظرية أمرًا ضروريًّا، كاستعداد للسيناريو الأسوأ، مع الأخذ في الاعتبار أهمية أنه في حال تطبيقها فيجب أن يكون ذلك بشكل تدريجي، وأن يتم اتخاذ كل الاحتياطيات التي تُبقي الأمور تحت السيطرة، وأن تبقى السلطات في حالة مراقبة دائمة للموقف، وأن تكون مستعدة للتدخل بالإجراءات اللازمة في حالات الضرورة.

ختاماً وفي كل الأحوال فإن استراتيجيات مواجهة فيروس كورونا المستجد ترتبط بأبعاد عديدة تختلف من دولة لأخرى، من أهمها البعد الديموغرافي، فقد تكون نظرية مناعة القطيع ناجحة في بعض الدول ذات التركيبة السكانية صغيرة السن، بينما لا تكون كذلك في الدول التي تُعاني زيادةً في نسبة كبار السن. كما أن نظرية تسطيح المنحنى، وإن بدت أكثر قبولًا من الناحية النظرية في معظم بلدان العالم، لكنها قد لا تكون مثمرة في بعض البلدان، لا سيما عندما لا يمهل الفيروس تلك الدول ولا يمنحها الوقت الكافي، بل ينتشر من دون قيود بين سكانها، وفي خارج حدود السيطرة. وبالتالي، فليس من المنطقي -في المجمل- استبعاد أي خيار في التعامل مع فيروس كورونا، كما أنه من الممكن للدول الانتقال من خيار إلى آخر إذا لزم الأمر، ووفقًا للضرورة.