أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

أخطاء استراتيجية:

رؤية نقدية للتفكير الأمريكي في مفهوم "الحرب المحدودة"

11 ديسمبر، 2019


عرض: محمد محمود السيد - باحث في العلوم السياسية

في كتابه الأشهر "عن الحرب"، يقول الجنرال والمفكر العسكري البروسي "كارل فون كلاوزفيتز": "إن الحرب ليست سوى استمرار للسياسة، ولكن بوسائل أخرى". لكن تلك الحقيقة الاستراتيجية قد غابت عن الفكر السياسي والعسكري الأمريكي منذ عام 1945، حيث كانت تجربة الولايات المتحدة للحرب بالنسبة للكثير من المحللين والخبراء تجربة محبطة ومليئة بالمآزق والانتكاسات، والانتصارات العرضية فقط.

ومنذ الحرب الكورية، مرورًا بحرب فيتنام، ووصولًا إلى الحرب ضد تنظيم "داعش" الإرهابي، كان القادة الأمريكيون إما غامضين بشأن أهدافهم النهائية من الحرب، أو غير مستعدين لتكريس الموارد اللازمة لتحقيق أهدافهم بالفعل.

وقد دفع ذلك المؤرخ العسكري الأمريكي "دونالد ستوكر"، وهو بروفيسور في كلية الدراسات العليا للبحرية الأمريكية، وألّف حوالي أحد عشر كتابًا حول التاريخ والنظريات العسكرية بما في ذلك سيرة الجنرال "كلاوزفيتز"، إلى تقديم رؤية تحليلية نقدية لمفهوم "الحرب المحدودة" وللحروب الأمريكية منذ الحرب الكورية وإلى وقتنا هذا، في كتابه الذي صدر مؤخرًا (في أغسطس 2019) بعنوان "لماذا تخسر أمريكا الحروب: الحرب المحدودة والاستراتيجية الأمريكية من الحرب الكورية إلى الوقت الحاضر".

في هذا الكتاب، يُطبق "ستوكر" النظرية الاستراتيجية على طريقة الحرب الأمريكية الحديثة، ويُحلل أسباب فشلها في تحقيق نصر حاسم في أيٍّ منها. ويقوم بإعادة هيكلة مفهوم "الحرب المحدودة"، ثم يقدم تحليلًا تاريخيًّا لكيفية إساءة فهم قادة الولايات المتحدة لدورهم في تشكيل الاستراتيجية. ثم يقدم تحذيرات بشأن مستقبل المنافسة مع القوى الكبرى. لذلك اعتبر بعض المحللين أن قراءة كتاب "ستوكر" فرض، ليس على طلاب التاريخ العسكري والدبلوماسي فقط، ولكن على القادة السياسيين والعسكريين، وأولئك المُكلَّفين بتطوير سياسة الأمن القومي الأمريكي.

مفهوم "الحرب المحدودة"

يبدأ "ستوكر" بتفكيك التعريف الشائع (أو غير الواضح) لمفهوم "الحرب المحدودة"، ومن خلال هذا التفكيك يقوم بإعادة بنائه مرة أخرى، وفق أسس عملية واستراتيجية واضحة.

فقد أصبح من الشائع استخدام مصطلح "الحرب المحدودة" في العديد من الظروف، بحيث بات يُنظر إليه على أنه مرحلة وُسطى بين الحروب التقليدية والحروب العالمية. ليس هذا فحسب، بل بات يتم تعريف هذا المصطلح استنادًا إلى مقارنته بمصطلح آخر مضاد له، وهو "الحرب الشاملة". ومن هنا أصبح التعريف الشائع لـ"الحرب المحدودة" هي تلك الحرب التي تستخدم فيها الدولة جزءًا مُحدودًا من الموارد المخصصة للمجهود الحربي.

هناك العديد من الانتقادات التي تجعل هذا التعريف غير دقيق. ولكن أبرزها أنه لا توجد دولة لديها -أو حتى تستطيع- تحويل كافة مواردها نحو أي جهد حربي، حتى في حالة الحرب العالمية الثانية، احتفظت الولايات المتحدة بالموارد الكافية لإطعام سكانها، ولم يشارك كل مواطن في المجهود الحربي. حتى الصين، بما تمتلكه من مورد بشري عظيم لا يمكنها استغلال كافة مواردها لشن حرب استنزاف طويلة الأجل، ولا يمكن ذلك لأي دولة أخرى.

إذن، لا يمكن تعريف الحرب المحدودة وفقًا لقدر الوسائل والموارد المُستخدمة في الحرب. وإنما يجب تعريفها وفقًا للغايات، وبتعبير أدق، وفقًا للأهداف السياسية المُراد تحقيقها. وهذا ما أكده المفكر البروسي "كلاوزفيتز" قبل حوالي قرنين من الزمن، الذي اعتقد أن الحرب يجب أن تُحددها الأهداف السياسية المطلوبة وليس مستوى الموارد المستخدمة لتحقيق ذلك. وبالنسبة إلى "كلاوزفيتز" فالحرب نوعان:

1. الحرب التي تهدف إلى الإطاحة بالنظام السياسي للعدو، وذلك لجعله عاجزًا سياسيًّا أو عاجزًا عسكريًّا، وهي غالبًا ما تكون "حربًا غير محدودة".

2. الحرب التي تهدف إلى نتيجة سياسية أقل من تغيير النظام، كإخضاع العدو لسياسات معينة، أو إجباره على توقيع اتفاقية سلام بشروط محددة. وذلك عن طريق تدمير القوات العسكرية للعدو أو احتلال أو غزو جزء من أراضيه بشكل مؤقت. وهذا ما يطلق عليه "الحرب المحدودة".

هذه التعريفات تثير تساؤلات حول تصنيف -وبالتالي سلوك- العديد من الحروب الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية، والتي أُطلق على معظمها -إن لم يكن جميعها- مصطلح الحرب المحدودة. فخلال الحرب الكورية سعت واشنطن -في بعض الأحيان- للإطاحة بنظام كوريا الشمالية. وفي أفغانستان والعراق سعت بشكل واضح إلى إسقاط الأنظمة.

ولكن عند الحديث عن حرب فيتنام، يشير "ستوكر" إلى نقطة جوهرية، وهي أن طبيعة الحرب الواحدة قد تختلف بين طرفي الحرب. ففي فيتنام، سعت الولايات المتحدة -في البداية- إلى هدف محدود ضد فيتنام الشمالية، وهو الحفاظ على استقرار النظام الفيتنامي الجنوبي. بينما سعى الفيتناميون الشماليون إلى تحقيق هدف سياسي غير محدود ضد الجنوب، وهو الإطاحة بنظامهم، لكنهم سعوا إلى هدف محدود ضد الولايات المتحدة، وهو طردهم من أراضي فيتنام الجنوبية. ويشير "ستوكر" إلى أن طبيعة الأهداف في الحرب الواحدة قد تتغير مع مرور الوقت، كما حدث مع الولايات المتحدة، التي سعت في مراحل متقدمة من الحرب إلى الإطاحة بنظام فيتنام الشمالية.

وفي حين لا يرى كثيرون من غير الأكاديميين قيمة تُذكر لهذا التحليل الشامل لمفهوم "الحرب المحدودة"، يرى "ستوكر" أنه حيوي للممارسين وصانعي السياسات؛ لأن المفاهيم الخاطئة المحيطة بمصطلح "الحرب المحدودة" دفع ببعض صنّاع السياسة إلى الاعتقاد بأن الأهداف السياسية المعقدة يمكن تحقيقها بثمن بخس من الوسائل العسكرية.

فعلى سبيل المثال، في كل تطور جديد للأزمة الإيرانية، يجري الحديث عن شن ضربات عسكرية محدودة ضد طهران. وليس من الواضح ما هو الهدف الذي ستُحققه هذه العملية، على الرغم من أن البعض يأمل في أن تردع هذه الضربات إيران عن العدوان في المستقبل. ولكن من المؤكد أن هذه الاستراتيجية ستكون غير حاسمة، ومن المُرجح أن تُصاعِد الأعمال القتالية فقط، ولن تحقق الهدف المنشود.

الحروب الأمريكية الفاشلة

يتناول "ستوكر" في أجزاء من مؤلفه طبيعة التفاعلات بين القادة المدنيين والضباط العسكريين. فيشير إلى أنه -في أغلب الأحيان- يطلب المدنيون خيارات عسكرية ضد بلدٍ ما، بينما يطلب الضباط العسكريون تحديد الهدف السياسي من وراء الحرب، وغالبًا ما يُخفق السياسيون في تحديد هذه الأهداف أو إيصالها للجيش بوضوح. وهو ما يسمح في كثير من الأوقات للقادة العسكريين بتوسيع الأهداف السياسية إلى طموحات غامضة بعد فترة طويلة من تحقيق الأهداف الأولية.

فعلى سبيل المثال، بعد عام 2003، تحول العراق من هدف سياسي "غير محدود" لتغيير النظام، إلى "هدف محدود" غير واضح المعالم وغير مُحدد زمنيًّا وهو الحفاظ على النظام المدعوم من الغرب. لكن الكاتب يرى أنه كان من المفترض أن تُحدَّد نقطة نهاية غزو العراق قبل أن يبدأ من الأساس.

بعبارة أخرى، عندما تخوض الولايات المتحدة الحرب، غالبًا ما تفشل في تحديد وتفهّم المنطق الاستراتيجي الذي يربط القتال بهدف الحرب، مما يؤدي إلى التركيز على التكتيكات العسكرية (الكيفية أو الوسائل) بدلًا من التركيز على الاستراتيجية (السبب أو الهدف السياسي). وفي تلك الحالة يتم الخلط بين التكتيكات أو دمجها مع الاستراتيجية، ويصبح الغرض من الحرب المحدودة هو استمرار الحرب بحد ذاتها، وليس انتصارًا يرتبط بسلام أفضل. ويشير الكاتب إلى أن الحرب بدون استراتيجية هي "عنف بلا سبب". لأن الميل الاستراتيجي للتكتيكات يجلب الحروب الدائمة والتي لا معنى لها.

يتحدث "ستوكر" عن أربعة أسباب لدخول الولايات المتحدة هذه الدائرة المفرغة، وهي على النحو التالي:

1. أن كل الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية وُصفت أساسًا بأنها "حروب محدودة".

2. نظرًا لأن كبار القادة المدنيين والعسكريين لم يفهموا طبيعة الحرب أو أساسياتها الموجودة في كتاب "كلاوزفيتز" (عن الحرب)، فقد فشلوا في فهم أو تحديد طبيعة الحروب المحدودة التي خاضتها الولايات المتحدة منذ عام 1945.

3. خلال فترة الحرب الباردة، ترسخ لدى المفكرين والخبراء أن تحقيق أحد أطراف الحرب (الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي) لنصرٍ حاسم على الطرف الآخر يعني فناء البشرية. وحينما ظهرت خلال هذه الفترة "نظرية الحرب المحدودة"، انطبق عليها نفس الافتراض، بأن تحقيق النصر الحاسم يمكن أن يكون شيئًا سيئًا بالفعل.

4. حالت نظرية الحرب المحدودة "غير المتجانسة" دون التفاهم بين القادة السياسيين والعسكريين على شن الحرب بشكل حاسم. فإذا لم يستطع كبار رجال الدولة التعبير بوضوح عما يريدون تحقيقه، فإن ذلك يجعل من الصعب للغاية على قواتهم العسكرية تحقيق النصر. لدرجة أن كلمة "النصر" اختفت عمومًا من وثائق السياسة والاستراتيجية الأمريكية.

إن "النصر"، وفقًا لتعبير "كلاوزفيتز"، هو تحقيق الهدف السياسي الذي يخوضه المرء من أجل الحرب، وذلك بتكلفة (من حيث الحجم والمدة) تتناسب مع قيمة هذا الهدف.

هذه القاعدة يبني عليها "ستوكر" استنتاجه النهائي، فيقول إنه إذا لم يحاول القادة المدنيون والعسكريون كسب الحرب، فهم ليسوا جادين في محاولة إنهاء الحرب، وعدم الرغبة في السعي لتحقيق النصر يُنتِج حرب دائمة. ويضيف أن الحرب أصبحت دائمة أو بلا نهاية لها لمجرد أن العالم الليبرالي غير قادر على تخيل نهايات قاطعة للحروب التي يخوضها حاليًّا. وهو الأمر الذي يؤثر على قدرة الجيش على خوض الحروب من الأساس. وقد أدى ذلك كله إلى سلسلة من الحروب المحدودة التي انتهت بشكل سيئ (حرب فيتنام) أو لم تنتهِ على الإطلاق (حربي أفغانستان والعراق).

الحروب الأمريكية الدائمة

يتحدث "ستوكر" عن النتائج المترتبة على التفكير الاستراتيجي الأمريكي الخاطئ حول مفهوم "الحرب المحدودة". وتتمثل أولى هذه النتائج في رفض قادة الولايات المتحدة الاعتراف بأن البلاد في حالة حرب، عندما تكون كذلك. حيث يقول "ستوكر"، إنه إذا لم تفهم أو تعترف الولايات المتحدة بأنها في حالة حرب، فلن تُحقق النصر بكل تأكيد، ولن تسعى لإنهائها. علاوةً على ذلك، مع استمرار الحروب ينتقل التركيز إلى التكتيكات، مثل ضربات الطائرات بدون طيار واستخدام قوات العمليات الخاصة، مما يُبقي مستوى مشاركة الولايات المتحدة وتكاليف الخسائر في الأرواح منخفضة، مما يقلل من الضغوط على الزعماء السياسيين الأمريكيين للفوز في الحروب فعليًّا.

إن الفشل في الاعتراف بأن الولايات المتحدة في حالة حرب قد ساعد أيضًا في خلق موقف مُربِك، وهو عدم قدرة القادة والمجتمع على التمييز من الأساس بين الحرب والسلام. رغم أن العلاقة بين الحرب والسلام يجب أن تكون واضحة، ولا يوجد حل وسط بين الاثنين، وهو ما يشير إليه الانتشار الخاطئ لمصطلحات جديدة مثل "حرب المنطقة الرمادية" و"الحرب المختلطة".

تتضح هذه المشكلة عند تحليل أو التفكير في الإجراءات الصينية في بحر الصين الجنوبي. حيث تواصل بكين بقوة مطالبها الإقليمية عبر بناء الجزيرة والدبلوماسية العدوانية والتخريب وعروض القوة العسكرية. ويزعم العديد من مؤيدي منظور "حرب المنطقة الرمادية" أن الولايات المتحدة في حالة حرب مع الصين. والحقيقة هي أن واشنطن في منافسة مع بكين -وليست في حالة حرب- وأن بكين تستخدم ببساطة عناصرها المختلفة من القوة الوطنية سعيًا لتحقيق غاياتها السياسية. إذن، من الخطورة الخلط بين الحرب والسلام، لأن الطريقة التي يتعامل بها المرء مع تحدي زمن الحرب تختلف عن مواجهة تحديات وقت السلم. ويرى "ستوكر" بوضوح أن الصينيين لا يعانون من هذا الالتباس.

النتيجة الثانية المترتبة على الفهم الخاطئ لمفهوم "الحرب المحدودة" هي التأثير على قدرات وفاعلية القوات المسلحة الأمريكية. ويقول "ستوكر" إنه في العديد من الحروب التي خاضها الجيش الأمريكي، بلا أهداف سياسية واضحة، واستطاع إسقاط الأنظمة المعادية، كان عليه تولي حزمة جديدة من المهام والأهداف التي لم يكن مُصمَّمًا لخوضها أو تنفيذها، مثل عمليتي مقاومة التمرد وإعادة بناء الدولة، وهي أهداف ممتدة، وغير مُحددة بكل تأكيد.

ويرى أن الأزمة الحقيقية حينما يقوم الجيش بتوجيه موارده وقدراته لهذه المهام الجديدة، وسرعان ما يجد نفسه مُطالبًا مرة أخرى بتغيير عقيدته الاستراتيجية في اتجاه مواجهة القوى العظمى، ليدخل في دوائر مغلقة، تستنزف من قدراته وتُخلِّ من إمكانياته.

لذلك، يرى "ستوكر" أن القادة الأمريكيين يحتاجون إلى تحول جذري في طريقة تفكيرهم في الحرب، بحيث يتخلون عن تركيزهم على وسائل شنّ الحرب، ويصبون جل اهتمامهم على الأهداف السياسية التي يخوضون الحروب من أجلها. ويجب أن تتضمن مناقشات الحروب المستقبلية خططًا لإنهاء الحرب والحفاظ على السلام. وكذلك التخطيط لتحقيق النصر وتأمينه في ساحة المعركة نفسها.

وأخيرًا، يحتاج القادة الأمريكيون إلى وصف الحرب بأنها "حرب"، فيقول "ستوكر": "إذا لم نكن قادرين على أن نكون صادقين مع أنفسنا بشأن ما إذا كنا حتى في حالة حرب، فمن غير المرجح أن نكون صادقين مع أنفسنا بشأن تكلفة الدم والمال اللازمين لفرض هذه الحرب".

بيانات الكتاب:

‏Donald Stoker, "Why America Loses Wars: Limited War and US Strategy from the Korean War to the Present", (Cambridge, Cambridge University Press, 2019).